(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية
ألقى أحد الفلاسفة الأكثر تأثيرا في العالم بثقله على الحرب في غزة ولكن المفكر والباحث المختص في شؤون الشرق الأوسط،آصف بيات،يخبره في هذه الرسالة لـماذا هو مخطئ.
هنا الترجمة الكاملة لمقال المفكر الإيراني آصف بيات.
Juergen Habermas Contradicts His Own Ideas When It Comes to Gaza
رسالة إلى هابرماس
الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة
عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة
آصف بيات
قد لا تتذكرونني، لكننا التقينا في مصر في شهر مارس 1998. لقد جئتم آنذاك إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة كأستاذ زائر متميز للتواصل مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب والجمهور. كان الجميع متحمسا لسماع محاضرتكم. كانت أفكاركم حول المجال العام والحوار العقلاني والحياة الديمقراطية بمثابة نسمة من الهواء الصافي في وقت كان فيه الإسلاميون والمستبدون في الشرق الأوسط يخنقون حرية التعبير تحت ستار « حماية الإسلام » ولا زلتُ أتذكر محادثة ممتعة أجريناها حول إيران والسياسة الدينية خلال وجبة العشاء في منزل أحد الزملاء. حاولتُ أن أنقل لكم ظهور مجتمع « ما بعد الإسلاميين » في إيران، والذي بدا أنكم اختبرتموه لاحقا خلال رحلتكم إلى طهران في عام 2002، قبل أن تتحدثوا عن مجتمع « ما بعد العلمانية » في أوروبا. نحن في القاهرة رأينا في مفاهيمكم الأساسية إمكانات كبيرة لتعزيز المجال العام العابر للحدود والحوارات بين الثقافات. لقد أخذنا على محمل الجد جوهر فلسفتكم التواصلية حول كيفية توافق الآراء مع الحقيقة.
والآن، بعد حوالي 25 عاما، في برلين، قرأت بكثير من القلق والانزعاج بيانكم الذي شاركتم في تأليفه بعنوان « مبادئ التضامن » حول حرب غزة. إن روح البيان تحذر أولئك الذين يعبرون عن موقفهم في ألمانيا، من خلال البيانات أو الاحتجاجات، ضد القصف الإسرائيلي المستمر لغزة ردا على هجمات حماس المروعة في 7 أكتوبر. وهذا يعني أن هذه الانتقادات لإسرائيل لا تطاق لأن دعم دولة إسرائيل هو جزء أساسي من الثقافة السياسية الألمانية، « التي تعتبر الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين مركزيين يستحقان حماية خاصة ». أليس مبدأ « الحماية الخاصة » متجذراً في تاريخ ألمانيا الاستثنائي فيما يتعلق ب « الجرائم الجماعية خلال الحقبة النازية« .
إنه لأمر مثير للإعجاب أنكم والطبقة السياسية المثقفة في بلدكم تصرون على الحفاظ على ذكرى ذلك الرعب التاريخي حتى لا تحل أهوال مماثلة باليهود (وأفترض، وآمل ألا تصيب شعوبا أخرى). لكن صياغتكم للاستثناء الألماني وتركيزكم عليه لا يترك عمليا أي مساحة للحديث عن سياسات إسرائيل وعن الحقوق الفلسطينية. عندما تخلطون بين انتقادات « أفعال إسرائيل » و »ردود الفعل المعادية للسامية »، فإنكم تشجعون الصمتَ وتخنقون النقاش خنقاً.
بصفتي الأكاديمية، أذهلني أن أعلم أنه في الجامعات الألمانية – حتى داخل الفصول الدراسية، التي يجب أن تكون مساحات حرة للنقاش والاستفسار – يلتزم الجميع تقريبا الصمت عندما يُطرح موضوع فلسطين. وتكاد تكون الصحف والإذاعة والتلفزيون خالية تماما من النقاش المفتوح والهادف حول هذا الموضوع. في الواقع، لقد تم طرد عشرات الأشخاص من وظائفهم، بمن فيهم اليهود الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار، وألغيَت مساهماتُهم وجوائزُهم، واتُهموا ب « معاداة السامية ». كيف يمكن للناس أن يتداولواحول ما هو صواب وما هو خطأ إذا لم يُسمح لهم أن يتحدثوا بحرية؟ ماذا يحدث لفكرتكم الشهيرة عن « الفضاء العام » و »الحوار العقلاني » و »الديمقراطية التداولية »؟
والحقيقة هي أن معظم النقاد والاحتجاجات التي تحذرهم لا تشكك أبدا في مبدأ حماية حياة المواطنين اليهود – ونرجوكم عدم الخلط بين هؤلاء النقاد العقلانيين للحكومة الإسرائيلية والنازيين الجدد اليمينيين المتطرفين أو غيرهم من المعادين للسامية الذين يجب إدانتهم ومواجهتهم بقوة. والواقع أن كل بيان قرأته تقريبا يدين فظائع حماس ضد المدنيين في إسرائيل ويدين أيضا معاداة السامية. هؤلاء النقاد لا يشككون في ضرورة حماية الحياة بالنسبة لليهود أو حق إسرائيل في الوجود. إنهم يستنكرون إغفال حق الحياة للفلسطينيين وحق فلسطين في الوجود. وهذا شيء يصمت عنه بيانكم بشكل مأساوي.
لا توجد إشارة واحدة في البيان إلى إسرائيل كقوة احتلال أو إلى غزة كسجن في الهواء الطلق. لا يوجد شيء حول هذا التفاوت الفظيع. هذا لا يعني سوى المحو اليومي للحياة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. إن « أفعال إسرائيل »، التي تعتبرونها « مبررة من الناحية المبدئية »، احتاجت إلى إسقاط 6000 قنبلة في ستة أيام على سكان عزل غير مسلحين وهو ما أسفر عن أكثر من 15000 قتيل (70٪ منهم من النساء والأطفال) و35000 جريح و7000 مفقود، دون إغفال 1.7 مليون نازح – ناهيك عن قسوة حرمان السكان من الغذاء والماء والسكن والأمن وأي قسط من الكرامة كما قد اختفت البنيات التحتية الرئيسية للمعيشة اليومية.
وفي حين أن هذه الانتهاكات، كما يوحي بيانكم، قد لا ترقى من الناحية التقنية إلى « نوايا الإبادة الجماعية »، فقد تحدث مسؤولو الأمم المتحدة بعبارات لا لبس فيها عن « جرائم الحرب » و »التهجير القسري » و »التطهير العرقي ». إن قلقي هنا ليس حول كيفية الحكم على « أفعال إسرائيل » من منظور قانوني، ولكن كيفية فهم هذا البرودة الأخلاقية واللامبالاة التي تظهرونها في مواجهة هذا الدمار المذهل. كم عدد الأرواح التي يجب أن تهلك قبل أن تصبح جديرة بالاهتمام؟ ما معنى « الالتزام باحترام كرامة الإنسان » الذي يؤكد عليه بيانكم بشكل قاطع في النهاية؟ يبدو الأمر كما لو أنكم تخشون أن يؤدي الحديث عن معاناة الفلسطينيين إلى تخفيف التزامكم الأخلاقي بحياة اليهود. إذا كان الأمر كذلك، فكم هو مأساوي أن يكون تصحيح خطأ فادح ارتُكب في الماضي مرتبطا بإدامة خطأ وحشي آخر في الوقت الحاضر.
أخشى أن تكون هذه البوصلة الأخلاقية الملتوية مرتبطة بمنطق الاستثنائية الألمانية التي تدافعون عنها، لأن الاستثنائية، بحكم تعريفها، لا تسمح بمعيار عالمي واحد ولكن بمعايير تفاضلية. بعض الناس يصبحون بشرا أكثر استحقاقا لوصف الإنسانية، والبعض الآخر أقل استحقاقا والبعض الثالث لا يستحق شيئا على الإطلاق. هذا المنطق يغلق الحوار العقلاني وينزع المشاعر من الوعي الأخلاقي. إنه يؤسس لكتلة معرفية تمنعنا من رؤية معاناة الآخرين، مما يمنع التعاطف.
لكن لا يستسلم الجميع لهذه المعايير المعرفية والتخدير الأخلاقي. ما ألاحظه هو أن العديد من الشباب الألمان يعبرون سرا عن وجهات نظر حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مختلفة تماما عن آراء الطبقة السياسية في البلاد. حتى أن البعض يشارك في الاحتجاجات العامة. يتفاعل جيل الشباب مع وسائل الإعلام البديلة ومصادر المعرفة ويختبر عمليات معرفية مختلفة عن الجيل الأكبر سنا. لكن معظمهم يلتزمون الصمت في المجال العام، خوفا من الانتقام.
يبدو كما لو أن نوعا من « المجال الخفي » آخذ في البروز، ومن المفارقات في ألمانيا الديمقراطية، على غرار أوروبا الشرقية قبل عام 1989 أو تحت الحكم الاستبدادي في الشرق الأوسط اليوم. عندما يغلق الترهيب الباب على التعبير في الفضاء العام، يميل الناس إلى صياغة رواياتهم البديلة حول المسائل الاجتماعية الرئيسية في السر، حتى عندما تتماشى مع الآراء المعتمدة رسميا في الفضاءات العموميةومثل هذا المجال الخفي يمكن أن ينفجر عندما تسمح الفرصة.
هذه لحظات مقلقة يا أستاذ هابرماس وفي مثل هذه المناسبات بالتحديد، توجد حاجة ماسة إلى الحكمة والمعرفة وقبل كل شيء إلى الشجاعة الأخلاقية للمفكرين مثلكم. تظل أفكاركم الأساسية حول الحكمة والعمل التواصلي والعالمية والمواطنة المتساوية والديمقراطية التداولية والكرامة الإنسانية مهمة للغاية. ومع ذلك، فإن مكانتكم الأوروبية والاستثنائية الألمانية وإغلاق النقاش الحر حول إسرائيل وفلسطين الذي تساهمون فيه يبدو أنه يتناقض مع هذه الأفكار النبيلة.
أخشى أن مجرد المعرفة والوعي قد لا يكونان كافييْن. فكيف يمكن للمثقف أن « يعرف » من دون « يفهم » وكيف له أن يفهم من دون أن « يشعر »، كما تساءل أنطونيو غرامشي؟ فقط عندما « نشعر » بمعاناة بعضنا من خلال الإحساس والشعور قد يكون هناك أمل لمستقبل عالمنا المضطرب جدا.
لا بأس أن نتذكر كلمات الشاعر الفارسي الشيرازي في القرن 13:
البشر هم أعضاء في مجموعة،
في خلق جوهره واحد وروحه واحدة.
إذا أصيب أحد الأعضاء بالألم،
فسيظل الأعضاء الآخرون غير مستقرين.
إذا لم يكن لديك أي تعاطف مع المعاناة الإنسانية،
فلا يمكنك الاحتفاظ باسم الإنسان!
مع كامل احترامي لكم
آصف بيات