إن السلفيّة بأبسط صورها في الخطاب الديني بشكل عام, تشكل موقفاً فكريّاً وسلوكيّاً من الحياة, يقوم على (اعتبار الماضي المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما هو تال, وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف.) على حد تعبير المفكر الراحل “الطيب تيزيني”. وهذا الموقف ذاته نجده في الخطاب السلفي الإسلامي بشكل خاص أيضاً. حيث يُعتبر الخطاب السلفي الإسلامي بكل ما يتضمنه من قضايا ماديّة وفكريّة أوقيميّة حدثت في القرون الهجرية الثلاثة الأولى, هي وحدها منطلق البداية والنهاية لمنظومة حياة الإنسان المسلم عموماً. أو بتعبير آخر إن تلك المرحلة التاريخيّة التي عاشها الرسول والصحابة والتابعون وتابعو التابعين بكل قيمها الماديّة والفكريّة والقيميّة, هي المنطلق الوجودي والمعرفي لكل ما جاء فيما بعد داخل حياة المسلمين. وبالتالي فكل جديد لا يتفق مع هذا الوجود السلفي, هو بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

     إن السلفيّة كمنهج ورؤية وطريقة حياة  في ضوء هذا الموقف السكوني والجمودي والوثوقي اللاتاريخي, لم تأت بشكل عفوي, وإنما هي تتكئ في مطلقاتها الكبرى على نص مقدس يتمثل في أحاديث نسبت للرسول يُشك في أمرها, إذ لا يمكن لنبي عظيم مثل محمد (ص) الذي غير مجرى التاريخ أن يقول أو يقر بها كالحديث القائل : (خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه.). (1). أو الحديث القائل: (أصحابي كالنجوم الساطعة بأي منهم اقتديتم اهتديتم). (2).

     إن اعتماد أصحاب التيار السلفي الجمودي على مثل هذه الأحاديث وهي أحاديث أحاد, (ظنيّة), جاء لتأكيد هذا الموقف السلفي الجبري الجمودي من الحياة,  متجاهلين  كل ما حدث من أمور في الدولة والمجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة وصولاً إلى انهيار الخلافة الإسلاميّة ذاتها, وهي أمور أو أحداث لا تمت في معظمها إلى تعاليم الإسلام ولا قيم الرسول بصلة. فهل من المعقول على سبيل المثال لا الحصر, أن يكون القرن الذي وجد فيه الرسول وخاصة بعد وفاته هو خير القرون, وكانت هناك حروب الردة, ومقتل سعد بن عبادة لكونه لم يبايع أبا بكر وعمر, واتهموا الشيطان بقتله بذريعة أنه بال واقفاً,. ثم مقتل عمر بن الخطاب, و قيام الفتنة الأولى في الإسلام التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان. ثم قيام الفتنة الثانية بين علي وعائشة في (حرب الجمل). أو قيام معركة صفين بين علي ومعاوية على السلطة وظهور الخوارج. نقول: هل من المعقول أن يكون كل أصحاب الرسول كالنجوم الساطعة يقتدى بأي واحد منهم, ومنهم من قتل عثمان وهو يقرأ القرآن, أو يحرض على علي بن أبي طالب في معركة الجمل وصفين ويقوم بقتله فيما بعد, وهل من المعقول أن ينهب معاوية الخلافة بقوة السلاح وشراء الضمائر ويحولها إلى ملك عضوض وهو من كتبت الوحي, ثم ينقلها إلى ابنه يزيد المعروف بسلوكياته المشينة, ويأتي في مقدمتها فضيحة (وقعة الحرّة),(3) وغيرها من مفاسد يندى لها الجبين, هذه المفاسد التي صرح بها “معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية” بعد أن توفي والده يزيد, حيث اعتلى يومها المنبر وقال مخاطباً جمهور المسلمين : (أنتم أولى بأمركم فاختاروا من أحببتم … أيها الناس إن جدي نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه وهو علي بن أبي طالب, وركب بكم ما تعلمون حتى أتته المنية فصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً بخطاياه, ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك, وركب هواه وصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً بجرمه… وقد قتل عترة رسول الله, وأباح الحرم وخرب الكعبة. وما أنا بالمتقلد ولا بالمحتمل تبعاتكم فشأنكم وأمركم..). (4). وهل من المعقول أن يكون من النجوم الساطعة “الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك” الذي مزق القرآن وهو مخمور وخاطبه ):  إن سألك ربك يوماً من مزقك, قل له يا ربي مزقني الوليد). (5). وهو من قتله أخوه لمجونه!. وأخيراً أحب أن أنهي مسألة هؤلاء النجوم الساطعة بموقف للخليفة الأموي ” عمر بن عبد العزيز” عندما جاءت إليه عمته “فاطمة” بنت مروان مبعوثة من الأسرة الأمويّة الحاكمة تطالبه بأن يعدل عن مصادرة ممتلكاتهم التي سماها مظالم, فرفض وأصدر وثيقة (التأميم), أو المصادرة وهو يقول مشبهاً ثروة البلاد بالنهر الذي هو حق للجميع ولا يجوز امتلاكه أو حيازته لأحد: ( إن الله تعالى بعث محمداً رحمة لم يبعثه عذاباً للناس, ثم اختاره له ما عنده… فترك لهم نهراً شُربهم به سواء. ثم وِلِىَ أبو بكر فترك النهر على حاله, ثم وِلِيَ عمر فترك الأمر على حاله وعمل عمل صاحبه. فلما ولي عثمان اشتق من ذاك النهر نهراً. ثم ولي معاوية فشق منه انهاراً, ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليّ وقد يبس النهر الأعظم ولن يروى أصحاب النهر أو يرضوا حتى يعود إليهم النهر الأعظم إلى ما كان عليه.). (6).

      إذا كان هذا بعض ما جرى في قرن الرسول من أحداث يندى لها الجبين, وتعتبر من الناحية القيميّة عاراً على تاريخ الإسلام والمسلمين معاً,  فكيف الحال بالقرنين التاليين بعد قرن الرسول, وهما القرنان اللذان فُجرت فيهما العصبيات القبليات بين اليمانيّة والقيسيّة من جهة, وبين العرب والشعوب المنضوية تحت راية الإسلام والخلافة الإسلاميّة (الموالي) من جهة ثانية, وهما القرنان اللذان انقسمت فيها الأمّة الإسلاميّة إلى شيع وفرق ومذاهب, كل منها راحت تكفر الآخر وتزندقه وتخرجه من الملّة والفرقة الناجيّة, بل ورفعت فيها السيوف لقتال بعضهم وخاصة بين الشيعة والسلطة التي تمثل السنة. ولتوضيح الأمر أكثر في مسألة هؤلاء النجوم الساطعة بالنسبة للتابعين وتابعيي التابعين من القرون الأخيرة اللاحقة لقرن الرسول, فلنعد إلى كتاب السيوطي (تاريخ الخلفاء) لنرى كيف تحول الكثير من الخلفاء إلى أدوات وببغاوات في قفص بيد الأعاجم, بعد أن أهملوا قيادتهم للخلافة وانغمسوا في شهوات السلطة بين إماتهم وخصيانهم, وكيف راح الكثير من فقهاء الإسلام يفسرون النص المقدس ويؤولونه ويضعون الأحاديث على لسان الرسول خدمة لمصالح السلطة الحاكمة أو ضدها, أو خدمة لمصالحهم هم أيضاً كتيار ديني مدخلي وجدوا في اقترابهم من السلطة وخدمتها باسم الدين تحقيقاً لمصالحهم الأنانيّة الضيقة. وكذلك كيف راحت الانحرافات الفكريّة والعقيديّة تظهر في القرن الثاني والثالث للهجرة المباركين بأهلها من سلفنا الصالح, حيث ظهر الكثير من الفرق والمذاهب الإسلاميّة التي شوهت الدين وحرفته عن مقاصده الحقيقة التي جاء من أجلها, كما يذكر ابن تيمية وأبو حامد الغزالي. (7). يضاف إلى كل ذلك التردي مع انتشار المد الصوفي ألطرقي لاحقاً وبشكل خاص منذ القرن الحادي عشر ميلادي بتشجيع من المماليك الذين سيطروا على الخلافة منذ زمن المتوكل 232 هـ  وصولاً إلى السلطنة العثمانيّة العتيدة بنهجها المليّ.

      إن السلفيّة في صيغتها الوثوقيّة وفقاً لهذه المعطيات, هي برأيي ظاهرة تاريخيّة بامتياز, وكان وراء ظهورها جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة, ساهمت في استفحال أمرها, وبالتالي تجذرها وتبلورها فيما بعد كما بينا أعلاه.

إن الارهاصات الوليّة للفكر السلفي  بدأت عملياُ مع الخلفاء الأمويون والعباسيين الذين  حاربوا الفكر المعتزلي القدري الذي راح يبشر بدور ومكانة العقل وبحريّة الإرادة الإنسانيّة, وبالتالي الاشارة بهذا الشكل أو ذاك إلى  سيطرة الخلفاء على الخلافة بغير وجه حق, وأن سوء استخدامهم لسلطاتهم جاء بقدرتهم وإرادتهم وليس بأمر وقدره الله كما يدعون, إلا أن هذا التيار السلفي وجد في زمن المأمون من يتصدى له, فمنذ وصوله إلى الخلافة راح يسخر كل سلطته لخدمة الفكر المعتزلي وعلم المنطق والفلسفة. وأصدر فرمانه 212 هـ الداعي لمحاربة النقل واعتماد العقل كمرجع في التشريع وتفسير النص الديني وتأوله, يسانده في ذلك من آمن بفكره من  مشايخ عصره للوقوف بوجه أصحاب تيار النقل وخاصة “ابن حنبل” وغيره, من دعاة هذا التيار الذين سادوا لفترة طويلة باسم السلطة المؤمنة بالجبر, والتي كانت وراء مقتل (غيلان الدمشقي, ومعبد الجهني, وجعد بن درهم). بيد أن هذا التيار السلفي الوثوقي عاد مرة ثانية للسيطرة وبصورة أقوى من السابق مع سيطرة المماليك على الخلافة ووصول الخليفة المتوكل الذي حارب العقل وتبنى النقل كمرجع أساس في التشريع وتفسير وتأويل النص الديني.

      مع الانقلاب السني في زمن ” الخليفة المتوكل” راح أصحاب التيار السلفي يمارسون القمع من جديد على أصحاب التيار القدري المعتزلي, وهذا ما عبر عنه ” الجاحظ” بكل وضوح بقوله: (إن ما قام به المعتزلة من عداء لأهل السنة زمن الـمأمون, جاء رداً على عداء أهل السنة للمعتزلة والتنكيل برجالات فكرهم مثل الجعد بن درهم- وغيلان الدمشقي- ومعبد الجهمي), في العصر الأموي… ثم يتابع في موقع آخر برده على أهل السنة قوله : وعبتم علينا تكفيرنا إياكم  واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث, وأنتم أسرع الناس إلى تكفيرنا وإلى عداوتنا .). (8). من هنا راحت السلفيّة تطرح نفسها فكراً وسلوكاً في الساحة السياسيّة والفكريّة للدولة الإسلاميّة كتيار وحيد دون منافس, وكفرقة ناجية بشر بها الرسول كما يدعون.

     أما أهم من مثلها منذ ذلك التاريخ فهم المذاهب الفقهية السنية وخاصة الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة, إضافة لتيار المتكلمين الأشاعرة والماتريديّة. وبناءً على هذا التبني الواسع للفكر السلفي المدعوم من السلطة الحاكمة, فقد أخذ التيار السلفي كل هذه الاستطالة التاريخيّة  مع “ابن تيميّة وابن قيم الجوزيّة” وصولا إلى “الوهابية” وكل التيارات الجهاديّة الداعيّة إلى الحاكميّة. وعلى هذا الأساس امتلك هذا التيار كل هذه القوة في التأثير على الوعي الشعبي, وحقق كل هذا الحضور في تاريخ الفكر الإسلامي حتى اليوم, تسانده قوى سياسية خارج السلطة وداخلها في عالمنا العربي حيث وجدت فيه حصان طروادة لتحقيق مصالحها الأنانية الضيقة.

كاتب وباحث من  سورية

1-.( أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (3/ 171)، برقم: (2651)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (4/ 1964)، برقم: (2535).). راجع موقع اسلام ويب.).

2- .( وممن ضعفه الإمام أحمد بن حنبل قال: (لا يصح هذا الحديث) وكذلك الإمام ابن عبد البر قال: ( هذا إسناد لا تقوم به حجة) والإمام ابن حزم قال: (هذه رواية ساقطة). وقال الشيخ الألباني: موضوع. والله أعلم. موقع اسلام  ويب.)

3- راجع موقع الجزيرة نت – وقعةُ الحرّة.. يوم ارتوت المدينة النبوية بدماء الصحابة وأبنائهم!.

4- د. حسن ابراهيم حسن- تاريخ الإسلام –ج1- دار الجيل – بيروت ط3- 1991- ص152 .

5- (موقع الامام الشيرازي – وكذك كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي).

 6–الدين في المجتمع والدولة – ندوة – مركز دراسات الوحدة- 1990- ص209.

7- حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية- الفارابي – بيروت- 1980 ط3- ج1- ص 364.

 8- الطيب تيزيني- من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة  – القسم الثاني- دمشق – وزارة الثقافة- 2005-ص 45و55.

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…