مباشرة بعد إعلان النظام العالمي الجديد، راسلته الحياة في يوم مشمس من شهر رمضان. كتبت له عبارتين لا ثالث لهما.
دق ساعي البريد على باب منزله دقتين فقط. كان جد قلق وكأنه ينتظر خيرا أو حدثا غير مألوف. توجه إلى الباب مهرولا بحماس وتوجس مربكين. تسلم الظرف في فضاء أوسع. عتبة دارته منفتحة على مساحة خضراء بأفق اكتسحته الغيوم الداكنة العاقر. في برهة زمن لم تتجاوز عشر ثوان، انتقلت نظراته الحادة عبر ثلاث طبقات متواصلة : غيوم متراكمة في مخاض تزداد سوادا وكأن ألما غريبا ألم بها، فمساحات خضراء حزينة قلقة على المصير، ثم الظرف بين يديه. أصابه الذهول بسبب طبيعة الطوابع البريدية ومادة التشميع الرسمية المحكمة.
فتح الظرف متلهفا مرتبكا. ركز بنظرة حادة بعينيه الضيقتين في الورقة المكتوبة بخط كوفي مقدس. قرأ العبارتين بتأن غير مبال بسرعة الزمن. ثم أعاد قراءتهما بتأمل ونباهة الشداد منشغلا باستخلاص الدلالات والعبر.
تاه المسكين في سهاد عميق. تردد صدى أصوات مدوية غريبة على أذنيه. هتافات توافدت على مسامعه من كل مكان. لم تتكرر إلا عبارتان كالصاعقة، وبصدى يصم الآذان، وكأن مصدرهما ألسنة الجن والشياطين : “يا عمي أين اختفيت وانعزلت، نحن في أمس الحاجة إليك”.