يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخية” كحدث ملموس في واقع ملموس في زمن بعينه.
من الملفات التي ظلت دوما موضوع تورية لأسباب فوق تاريخية (بعضها سياسي وبعضها ثقافي مصلحي)، ملف حقيقة الشخص الشهير في تاريخ المغرب الحديث ب “بوحمارة” (عمر بن دريس الجيلالي الزرهوني) وكونه عميلا لفرنسا الإستعمارية بالجزائر.
كل الوثائق التاريخية المتقاطعة مع تمرده على السلطة المركزية بالمغرب ابتداء من سنة 1901 تؤكد أنه غادر المغرب سنة قبل ذلك متوجها إلى الجزائر (أقام بمستغانم ثم بوهران وزار مدينة الجزائر بشكل متقطع). قبل أن يعود إلى شرق المغرب ومنطقة الريف ويشرع في نسج حيل تقنية محلية تعتمد في أجزاء منها حيلا خرافية شعبية وحيلا دينية للزوايا مكنته من اكتساب ثقة أتباع بالمنطقة وقبائل بكاملها. على أن حيلته الأكبر هي حين ادعى أنه هو الأمير مولاي امحمد إبن السلطان الحسن الأول الذي كان معتقلا في مكناس وأنه الوريث الشرعي للعرش وليس السلطان مولاي عبد العزيز. حيث صدقته العامة تلك بشرق المغرب وبالريف.
الأساسي في الأمور هنا هو الجواب على السؤال:
من أين كانت تأتيه الكمية الأكبر من الأسلحة وجزء من الخطط العسكرية؟
كل المصادر غير الفرنسية تجمع على أنها كانت تأتيه من الجزائر برا وبحرا. دون إغفال الإشارة إلى مكر اللغة والتوصيف حيث كل المصادر الفرنسية المتعلقة بقصة “بوحمارة” تصفه ب “الثائر” بينما باقي المصادر المغربية الموثوقة أكثر تصفه إما ب “المتمرد” أو ب “الروكي” (الروكي هي الخارج عن القانون). مع التذكير أن بوحمارة ليس فردا بسيطا بمنطق الأمور حينها، فهو رجل متعلم درس الهندسة الطوبوغرافية بالجزائر وفرنسا ضمن فريق الطلبة المغاربة الذين أرسلوا للدراسة بالخارج وأنه عين في مسؤولية إداريةمحترمة بقصر فاس وأنه أصبح في ما بعد الكاتب الخاص لواحد من أشقاء السلطان مولاي عبد العزيز، قبل أن يختفي فجأة لسنة كاملة.
للأسف القصة التي سادت حتى الآن بخصوص “بوحمارة” هي تلك التي رسختها المصادر الفرنسية، التي ظلت تتحاشى دوما الإشارة إلى الفترة التي قضاها بالجزائر وأن تأطيره السياسي والعسكري تم هناك قبل قرار إرساله إلى شرق المغرب. أي أن تجنيده قد جاء ضمن مخطط استعماري أكبر كان من واجهاته احتلال أجزاء واسعة من الأراضي الصحراوية المغربية الشرقية ابتداء من سنة 1900 (التي ألحقت اليوم بدولة الجزائر كما ورتث من الإستعمار)، ثم استقطاب الزوايا حيث تم منح الحماية الفرنسية الرسمية لواحدة من أقوى وأكبر الزوايا بالمغرب والتي كان لها نفوذ حتى داخل الجزائر وهي الزاوية الوزانية، وأخيرا تحريك تمرد عسكري بشرق المغرب وبالريف لإضعاف الدولة المركزية المغربية من الداخل بل والتخطيط لتحقيق انقلاب بها على مستوى هرم السلطة من خلال دفع “بوحمارة” إلى ادعاء أنه الأمير امحمد بن الحسن الأول وأنه الأحق بالعرش.
بالتالي، كثير من الكتابات التاريخية بالمغرب ظلت للأسف سجينة المصدر الفرنسي وحده حين كتابتها عن قصة “بوحمارة”. بينما واقع الحال أن حجية الكتابة التاريخية تلزم بتقاطع تعدد المصادر والمقارنة بين الوقائع في هذا المصدر أو ذاك، ثم مدى وثوقيتها حسب درجة قربها الدقيق من الحدث والواقعة التاريخية.
من النقط الدالة على ذلك، أن نهاية “بوحمارة” بفاس بعد اعتقاله بالريف تقول بأن السلطان مولاي عبد الحفيظ قد رماه للسباع التي التهمته. وهذه قصة غرائبية لا مرجع لها سوى المصادر الفرنسية. والحال أن الحقيقة غير ذلك تماما.
من المصادر التاريخية المغربية الموثوقة، كونها تصدر عن شهود من عين المكان بالريف وبفاس عايشوا الأحداث عن قرب ومن داخلها، نجد كتابان هامان هما:
– “الكشف والبيان عن سيرة بطل الريف الأول محمد أمزيان” لصاحبه الفقيه العربي الورياشي.
– “حول مائدة الغداء” لصاحبه المختار السوسي.
ففي الكتابين معا نجد تفاصيل مدققة كثيرة من شهود مغاربة عايشوا ما وقع بشرق المغرب والريف ما بين 1901 و 1909، أي الثماني سنوات من الإستنزاف التي نجح في خلقها “بوحمارة” لما كان فيه فائدة للطامع الإستعماري في المغرب حينها (فرنسا).
في الكتاب الأول نجد أدق التفاصيل عن المعارك ومجالاتها الجغرافية، مثلما نجد بالتدقيق مصادر السلاح التي أغلبها كان يأتي من الجزائر المستعمرة إلى شاطئ بشمال المغرب. مثلما نجد تفاصيل مدققة حول ممثلي الشركات الفرنسية الطامحين لوضع اليد على معادن الشمال وعلاقاتهم ب “بوحمارة”. وأخيرا القصة التفصيلية لسقوط بوحمارة واعتقاله بدعم كامل من القبائل الريفية بقيادة البطل محمد أمزيان.
في الكتاب الثاني تفاصيل أخرى مدققة من واحد من أهم المصادر التاريخية ورجل ثقة السلطان مولاي عبد الحفيظ ورفيق طفولته ومراحل دراسته الذي هو الباشا إدريس منو. الذي قوة شهادته كامنة في أنه الشخص الذي كان مشرفا بشكل رسمي على حراسة “بوحمارة” بعد نقله إلى فاس، وأنه أكثر من ذلك هو الذي نفذ أمر الإعدام فيه رميا بالرصاص بأمر من السلطان وأحرق جتثه بعد قطع رأسها. ذات المسؤول المغربي المقرب جدا من مصدر القرار بفاس يؤكد أن سبب إعدام المتمرد ذاك راجع إلى وصول أخبار من مصدر ديبلوماسي ألماني على أن السفير الفرنسي أقنع زملاءه من سفراء الدول الأروبية بطنجة بالتوجه إلى السلطان مولاي عبد الحفيظ من أجل التوسط لديه لنقل “بوحمارة” إلى سجن طنجة. والغاية مفهومة على كل حال. فقرر السلطان المغربي إعدامه يوما واحدا قبل وصول ذلك الوفد الأروبي، الذين قال لهم بعد استقباله لهم: “للأسف تأخرتم في الطلب فقد نفذ أمر الله البارحة”.
بخصوص مسألة قطع رأس “بوحمارة” كما يشرح تفاصيلها الباشا إدريس منو في كتاب المختار السوسي “حول مائدة الغداء”، فالسبب يرجع إلى أن الباشا استشعر أن السلطان مولاي عبد الحفيظ ساوره الشك في حقيقة تنفيذه للإعدام، خاصة بعد أن أخبره كيفية التنفيذ حيث إنه استدرج “بوحمارة” إلى ساحة داخل سور القصر وكان يتحدث معه بشكل ودي، بعد أن كلف مخزنيا تابعا له أن يخرج عليهم وينفذ حكم الإعدام رميا بالرصاص، لكن المخزني ذاك حين وقف أمامهما بسلاحه تردد قليلا، فقام الباشا بأخد المسدس منه وأطلق ثلاث رصاصات على “بوحمارة”. بالتالي، أحس أن السلطان شك في حقيقة التنفيذ وأن صديق طفولته ربما يكون قد تواطئ مع الديبلوماسيين الأروبيين وهربه إليهم. فما كان من الباشا إدريس منو سوى أن حمل الدليل إليه وهو رأس القتيل.
إن الخلاصة هي أن كتابة التاريخ في ما يرتبط بقصة “بوحمارة” تحتاج دوما إعادة تحيين وتدقيق. فالرجل كان مجرد عميل لفرنسا الإستعمارية بوقائع الأحداث التاريخية، ضمن مخطط استعماري فرنسي أكبر عمل بالتواتر على إضعاف الدولة المغربية وسلطتها المركزية بغاية تسريع احتلال المغرب وإلحاقه بالجزائر وتونس المستعمرتين قبله بعقود (الجزائر منذ 1830 وتونس منذ 1882).