اللوحةل : الفنان الفلسطيني فضل ايوب
تناول اللقاء مع المناضل اليساري الراحل أبراهام السرفاتي (1926-2010) الذي تزامن مع انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، عدة مواضيع؛ منها الدواعي الحقيقية لانعقاد مؤتمر مدريد، وجدوى مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، ومستقبل الدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى الصهيونية ومرجعياتها الدينية، واضطهاد اليهود الشرقيين، وتناقضات المنظومة الإسرائيلية، وغيرها من المواضيع…
س : بعد انهيار الكتلة الشرقية، نهاية الحرب الباردة، حرب الخليج، ”النظام العالمي الجديد”، تتَّجه الأنظار حاليا إلى انعقاد مؤتمر السلام في مدريد… ماتصوركَ في هذا الإطار؟
أبراهام السرفاتي : ما الأسس التي وفقها التأم مؤتمر مدريد؟ الالتزام الوحيد المتداول، إجراء مفاوضات حول الوضع النهائي للأراضي المحتلة في غضون ثلاث سنوات من الاستقلال. بينما لا يوجد التزام ثان غير هذا، أساسا ما يتعلق بالدولة الفلسطينية، ولا ديباجة نصٍّ أمريكي يتصور مستقبل الدولة الفلسطينية. النتيجة الوحيدة، استقلال أفراد دون الأرض. لذلك، أعلن إسحاق شامير، بأنَّ هذا الاستقلال لا يمنع يهود العالم كي يواصلوا التواجد في ”يهودا والسامرة”. يتعلِّق فعليا هذا المشروع الأمريكي – الإسرائيلي بكامب ديفيد أخرى قد اتَّسع مجالها أكثر. يكمن الهدف في إفساح المجال أمام حافظ الأسد كي يلج منظومة كامب ديفيد، مع احتفاظه بصورة القومي العربي. بمجرد استدراج سوريا، سيتمُّ العمل على تحطيم منظمة التحرير الفلسطينية التي تظلُّ رغم كل عيوبها القوة الثورية في المنطقة، المعطى الذي أرادت باستمرار أمريكا وإسرائيل اجتثاثه، منذ مبادرة ويليام روجرز سنة 1970، ويتواصل السعي غاية اليوم إلى تصفيتها، باقتياد منظمة التحرير الفلسطينية وجهة تنازلات تؤدي إلى تصفيتها ذاتيا سياسيا. هنا يكمن في اعتقادي مشروع مؤتمر مدريد.
س : ألم يكن ضروريا بالنسبة إلى الفلسطينيين المشاركة في مدريد؟
أبراهام السرفاتي : نعم، أعتقد بأنَّه ليس ضروري، لقد وافقوا على الاستقلالية، لكنهم لن يعيشوا ذلك قط، بحيث فقدوا ذلك سلفا، رغم ادعائهم بأنهم يعتبرون الاستقلال مثل مرحلة أساسية بالنسبة للشعب الفلسطيني. استقلال يقتصر على الأشخاص بينما يستمرُّ انتماء الأرض إلى إسرائيل، هنا مكمن المؤامرة.
س : ألا تظنُّ في إمكانية استثمار الفلسطينيين لهذا المؤتمر كمنصَّةٍ؟
أبراهام السرفاتي : الآن وقد ذهبوا إلى لقاء مدريد، يجدر بهم فعليا توظيف المؤتمر كمنصَّةٍ. بهذا الخصوص، تتبدَّى بعض المؤشِّرات الايجابية على مستوى المفاوضات، فليست كلِّيا سلبية، غير أنها تقتضي استراتجية أكثر، وغيابها غير مرتبط حقيقة بالزمن الحاضر بل تعود إلى خمسة عشر سنة. يمكن الإقرار، بامتلاك منظمة التحرير الفلسطينية لاستراتجية بين سنتي 1968–1969، خلال فترة بلورة مفهوم الدولة الديمقراطية الفلسطينية، كان أبو إياد (صلاح خلف) مهندسها الرئيسي، ثم حدث التخلي عنها فعليا سنة 1975 حينما صارت المرحلة التكتيكية غاية في ذاتها. بالموازاة، تخلَّت منظمة التحرير الفلسطينية عن الصراع السياسي والإيديولوجي ضد الصهيونية. هنا يكمن خطأها، وتركيزها فقط على مكاسب دبلوماسية قصيرة الأمد. بالتالي، تسير التنازلات التي تمَّت شهر دجنبر 1991، خلال مؤتمر مدريد ضمن نفس منحى القبول بالحلِّ رقم 242، الذي أصدره مجلس الأمن سنة 1988. اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بالدولة الإسرائيلية بشكل واضح وملحوظ، قصد بلوغ إمكانية المفاوضات الدبلوماسية المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لقد استساغت حتى قبل ذهابها إلى مدريد مفهوم الاستقلال الجزئي. لو تمسَّك الفلسطينيون باستراتجيتهم التي تطلَّعت نحو إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية، لأمكنهم تحقيق شروط أخرى بمناسبة هذا المؤتمر، علما بأنه منذ حرب الخليج اختلَّت موازين القوى ولم تعد لصالحهم. تعني دلالة ”النظام العالمي الجديد” عدم تحرُّك أيّ شيء في المنطقة. بينما يظلُّ الإشكال الفلسطيني، البذرة الثورية التي بوسعها تحريك منطقة الشرق الأوسط. لذلك تستهدف المخطَّطات الأمريكية سحق الشعب الفلسطيني عبر تنظيمه الوطني. يلزم تغيير علاقات القوى، عمل يقتضي أجلا طويلا. أفق يحتِّم على المناضلين العرب، والذين يناضلون من أجل القضية الفلسطينية، امتلاك منطق معين. نقول بأنَّ الصهيونية إيديولوجية عنصرية، ثم أيضا مفهوم مصطنع، في نطاق نزوعها كي تخلق مختلف أجزاء دولة وشعب أسطوري، الشعب اليهودي. إما يوجد هذا الشعب، حينها انتقاد الصهيونية ليس له من دلالة، لأنَّ الشعب اليهودي على أرضه: أرض الميعاد. بالتالي، إذا مُسَّ سنتيمتر مربَّع من أرض الميعاد، تنهار ضمنيا جلّ مرتكزات الهندسة الإيديولوجية الصهيونية. لذلك، لن تقبل الأخيرة بإعادة تسليم ولو شِبْرٍ واحد من الأرض. أو لا يوجد قط هذا الشعب اليهودي، وإسرائيل مجرد دولة مصطنعة يلزمها التداعي. لاأشك في صدق أهل اليسار، ولا أيضا مناضلي جماعة ”السلام الآن”. غير أنه طوباوي من يتخيَّل إمكانية تنازل الصهيونية عن جزء من أرض الميعاد. حقيقة، تستدعي النضال ضد الصهيونية قصد بلوغ السلام واستعادة الأراضي المحتلة. تحافظ قوى اليسار الغربية على أوهام ”السلام الآن”مادامت بنية هذه الحركة متناقضة. هناك من جهة، إرادة صادقة للوصول إلى السلام عبر استعادة الأراضي المحتلة، ثم في نفس الوقت، يكمن ارتباط بالإيديولوجية الصهيونية، ممَّا يكشف عن وضعية متناقضة للغاية. لا يمكن للدولة الإسرائيلية الانصياع لمسألة إعادة الأراضي المحتلة.
س : مع ذلك، يلتقي الفلسطينيون والإسرائيليون حول طاولة المفاوضات في مدريد!
أبراهام السرفاتي : خطوة إلى الأمام، لكن حتى يتأتى لسياسة معينة إنتاج ثمارها، ينبغي لها الارتكاز على استراتجية، وإلا تغدو مجرد انغلاق.
س: على الأقل وضع مؤتمر مدريد إسرائيل أمام تناقضاتها. استند الدليل الصهيوني على رفض الفلسطينيين للحوار، لكنهم حاليا يحاورون…
أبراهام السرفاتي : يتجلى خطأ منظمة التحرير الفلسطينية، في اعتمادها بانتظام على تحالفات مع الدول، لذلك عندما انهارت تلك التحالفات اكتشفت نفسها معزولة بغير استراتجية. فضَّلت منظمة التحرير الفلسطيني خيار الدبلوماسية. فما الذي استفاده ياسر عرفات، بعد استقباله رسميا من طرف فرانسوا ميتران؟ عمليا لا شيء. لقد شاركت فرنسا في حرب الخليج، وواصلت دعمها لإسرائيل. اكتفت منظمة التحرير الفلسطينية بتعويضات شكلية، وانتصارات دبلوماسية، بينما المطلوب ممارسة ضغط شامل.
س : ألا يفسَّرُ الأمر بغياب روافد عميقة لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل صفوف الشعب الفلسطيني؟
أبراهام السرفاتي : برز هذا التأويل حين القطيعة مع أبي موسى. لكن الوقائع أظهرت عدم دِقَّته. يُطْرَحُ السؤال حول معرفة كيف تأتَّى للشعب الفلسطيني بلوغ مستوى من النضال والوعي مع الانتفاضة، في خضمِّ تراجع إدارة منظمة التحرير الفلسطينية. يصعب الحديث عن قطيعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني، رغم علاقاتها مع القادة المحلِّيين وبيروقراطيتهم. في المقابل، بوسعنا ملاحظة فجوة لكن ليس إلى درجة القطيعة بين مستوى نضال الشعب الفلسطيني ثم ضعف منظمة التحرير الفلسطينية على المستويين السياسي والدبلوماسي. وضع يفسر الدعوة المتبنَّاة ضمن صفوف اليسار الفلسطيني قصد تحقيق إصلاح عميق في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. إصلاح من هذا القبيل، سيؤدي أيضا إلى إعادة تكييف استراتجية منظمة التحرير. يبقى الشعب الفلسطيني مرتبطا بمنظمة التحرير لأنَّ وجوده موصول بها ويمثِّل استبعادها صيغة لإنكار ذاته.
س : ألا يمكن أن يشكِّل مؤتمر مدريد فرصة للإقرار بوجود الشعب الفلسطيني؟
أبراهام السرفاتي : أنا متشائم للغاية بهذا الخصوص. يعترف مؤتمر مدريد بالفلسطينيين دون الشعب الفلسطيني. بما أنَّ الفلسطينيين قد ذهبوا حاليا إلى المؤتمر، فيجدر بهم التحلِّي بالحزم بخصوص شروط مواصلة المفاوضات: عدم التنازل فيما يتعلق بمسألة طرد الفلسطينيين من أرضهم، وعدم التوقف عن التنديد بالمستوطنات.
س : لماذا لايتبنون هذا الموقف؟
أبراهام السرفاتي : إدارة منظمة التحرير الفلسطينية غير واعية كفاية بالقوة التي يجسِّدها نضال الشعب الفلسطيني. لو تحقَّق هذا الوعي أكثر، لاهتدى بها نحو رفض العملية الجارية على منوال سيناريو كامب ديفيد وعدم الاشتراك في اللعبة. لكن ذلك يستدعي تغييرا جذريا، مادام الأمر يقتضي الاعتراف أمام ملياري عربي، بمنظومتها البيروقراطية وضرورة العودة في حالات معينة إلى نهج السرِّية. لايعني ذلك زرع القنابل، بل قيادة فعل سياسي في خضم السرِّية. مثلا داخل الأردن، تحقَّقت إمكانية خلق فعل ملموس أكثر لو لم تراهن منظمة التحرير الفلسطينية على دعم بأيِّ ثمن من طرف الملك حسين. لقد أفرزت منظمة التحرير الفلسطينية بنية بيروقراطية تلجم النضالات، بالتالي كيف سيتمكَّن الشعب الفلسطيني من تكسير هذا القيد؟ هل يلزمه خلق منظومة خارج منظمة التحرير؟ لا أعتقد. أيضا، لا يحقُّ لي إعطاء الدروس. مساهمتي مجرد تصور أطرحه على المناضلين الفلسطينيين بهدف التأمل، الذين يحتاجون قبل كل شيء إلى استراتجية ويمكن مواصلة التفكير ضمن هذا الأفق.
س : ألا يغيِّر التدخل الأمريكي المباشر في حرب الخليج دور إسرائيل على المستوى الجيو-سياسي؟
أبراهام السرفاتي : يعتقد كثير من العرب بأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية سترغم إسرائيل كي تعيد الأراضي المحتلة. تشرح مقالة حديثة نشرتها صحيفة الغارديان، التحوُّل الطارئ على الدور الاستراتجي لإسرائيل داخل المنطقة بحيث لم تعد له نفس الدلالة منذ إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الخليج. وضع يمكنه أن يتيح أمام الولايات المتحدة الأمريكية كي تفرض السلام على الدولة الإسرائيلية، نظير الدعم الذي قدمته الدول العربية خلال حرب الخليج. تحليل من هذا القبيل، غير وارد في إطار الوضعية الحالية للأشياء، وأستبعده تماما، بل يثير اعتراضات كثيرة. ليست الولايات المتحدة الأمريكية كيانا متجانسا. ترتبط داخلها هيكليا، المنظومة العسكرية-الصناعية بالجيش الإسرائيلي. تمثِّل الدولة الإسرائيلية في المنطقة واجهة عسكرية لأمريكا، فأرضها بمثابة مضمار لتجريب وتطوير الأسلحة الجديدة. لقد رأينا ذلك خلال حرب الخليج مع صواريخ باتريوت وكذا العقود التي وُقِّعَت فورا بين الجيشين الأمريكي والإسرائيلي. لم تضمر قط الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الدول العربية نفس الثقة مثلما شأنها مع إسرائيل، المرتبطة معها بكيفية هيكلية. لذلك اهتمت كثيرا المنظومة العسكرية-الصناعية، بدعم دولة إسرائيل لأنها الطليعة العسكرية للجيش الأمريكي في المنطقة. لاينكشف أمر ذلك عبر مختلف حيثيات السياسة الأمريكية، بل حاليا بين طيات مظهر مقنَّع، بوسعه أن يعود كي يشغل مقدمة المشهد خلال المستقبل القريب.
س : لا تستنكر الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء المستوطنات فوق الأراضي المحتلة، ينمُّ هذا الصمت عن توافق موضوعي مع الإيديولوجية الصهيونية؟
أبراهام السرفاتي : إنه ”النظام العالمي الجديد”. ترتبط هذه الوضعية بتراجع النضال الإيديولوجي المناهض للصهيونية. لقد شاركتُ مؤخَّرا في عدد معين من اللقاءات تمحورت حول الموضوع الفلسطيني. تحدثتُ خلالها عن الصهيونية، بينما لا أحد يتكلم عن هذا الموضوع اليوم في فرنسا. بعد هذه اللقاءات زارني مناضلون يناهضون الصهيونية وقالوا لي التالي: ”نتمنى أن تحدثنا عن الصهيونية لكن تبعا لسياق الدبلوماسية الحالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هل يمكن ذلك؟ ”. هناك جمود فظيع. يصعب قَلْب علاقات القوى سوى بالنضال ضد الإيديولوجية الصهيونية ضمن مضمارها الخاص، داخل إسرائيل أوَّلا وكذا في علاقة مع الرأي العام الغربي. لايمكن الإصغاء للقضية الفلسطينية سوى إذا نجحت منظمة التحرير الفلسطينية في تقويض الأساس السياسي للصهيونية، لاسيما داخل إسرائيل. معركة يمكنها الاستمرار عشرين سنة، لكننا أضعنا سلفا خمسة عشر سنة. يلزم مواصلة الصراع ضد الصهيونية، كي تتعرَّى أمام أنظار الرأي العام الغربي وتصبح مماثلة للأبارتييد. لذلك، يلزم امتلاك مثابرة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بغية استلهام معركته، ثم تحمُّل المضيِّ ضد التيار خلال سنوات أخرى. لايمكن تحقيق مكسب مادي سوى بالمبادرة إلى تغيير موازين القوى. يستمر تراجع منظمة التحرير الفلسطينية منذ خمسة عشر سنة، بل بقيت عالقة في إطار تناقضات تكتيكية: من جهة محاولة تحقيقها مكاسب مادية بأيِّ ثمن ومن جهة ثانية رهانها الضمني على حرب كلاسيكية. ساد هذا التناقض العالم العربي غاية انهيار الاتحاد السوفياتي وكذا اندلاع حرب الخليج. كان الدعم السوفياتي دائما مجرد تضليل. أتذكَّر حرب سنة 1973، التي أثبتت عدم قدرة الدول العربية مهما بلغ تسلُّحها، على هزم الإسرائيليين، رأس الرمح العضوي للإمبريالية الأمريكية، عبر آليات حرب كلاسيكية. بوسع الجيش الإسرائيلي أن تصله لحظيا مختلف الوسائل التقنية لأكثر الأسلحة الأمريكية تطوُّرا، قياسا إلى الترسانة الأخرى التي يقدمها الاتحاد السوفياتي إلى البلدان العربية. شهر أكتوبر 1973، حدث تغيُّر في مجرى معركة الدبابات عند الجانب الآخر لقناة السويس نتيجة الإمداد المباشر للصواريخ الأمريكية المضادة للدبابات. تعمَّد هنري كيسنجر ترك أنور السادات ينقد ماء الوجه، قصد التحضير جيدا لاتفاقية كامب ديفيد. استمر خداع الدعم السوفياتي حاضرا لدى المناضلين العرب خلال كل تلك الحقبة. ذلك تحديدا مادفع منظمة التحرير الفلسطينية كي تقبل تسوية القرار 242، تحت ضغط غورباتشوف، مما سلَّط الضوء أيضا منذ أكثر من عشرين سنة على فكرة إمكانية انعقاد مؤتمر دولي، في إطار دائما وهمية إمكانية اعتماد البلدان العربية على الدعم السوفياتي، بينما شكَّل مشروع بريجنيف سنة 1982، خطوة إلى الوراء قياسا لما أسفر عنه بيان قمة فاس. لاأعتقد بأنَّ منظمة التحرير الفلسطينية يمكنها الذهاب غاية درجة الإذعان، واستساغة استقلال دون ضمانة حول الدولة الفلسطينية. يرغب الشعب الفلسطيني في دولة فلسطينية، وأعتبرُ مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، الممثِّلين الشرعيين للشعب الفلسطيني، لكن هؤلاء القادة لايزالون يتوهَّمون إمكانية أن يحقِّقوا بالدبلوماسية ماعجزوا عنه في خضمِّ علاقات القوى. يكمن هنا تناقض نتيجة غياب رؤية استراتجية وقد أبانت عن ذلك مرحلة مدريد. موازين القوى ليست في صالح الفلسطينيين، بالتالي ينبغي التعامل مع لقاء مدريد مثل أرضية سياسية ممتدَّة في الزمان. لنتذكَّر مفاوضات بابتيست كليبر حول فيتنام التي استمرَّت ثلاث سنوات. موازين القوى على أرض الواقع لم تسمح للفيتناميين كي يطلبوا ماحصلوا عليه في نهاية المطاف خلال توقيعهم على اتفاقية السلام. عسكريا، لم تكن الوضعية مختلفة جدا بين سنوات 1970و1973، لكن في غضون تلك السنوات الثلاث تغيَّرت موازين القوى داخل الرأي العام الأمريكي لصالح الفيتناميين. يستدعي استمرار لقاء مدريد، انكباب منظمة التحرير الفلسطينية ومناضلي القضية، على تطوير فعل سياسي يطوِّر بدوره الآراء العامة الغربية والإسرائيلية.
س : لا تظهر بوضوح رغبة إسحاق شامير في استمرار المؤتمر لفترة طويلة جدا. ألا يمثل إبعاد اثني عشر فلسطينيا، وقصف جنوب بيروت، محاولة لتقويض أشغال المؤتمر؟
أبراهام السرفاتي : لاأعتقد بأنَّ إسحاق شامير والحكومة الإسرائيلية، يتطلَّعان إلى إفشال مؤتمر مدريد، بل على العكس من ذلك، وهم يدركون امتلاكهم مواقع القوة. لقد طردوا اثني عشر فلسطينيا واكتفت سواء منظمة التحرير أو البلدان العربية ببيان لفظي، خلق لديهم شعورا بالرضا لكن دون تحريك فعلي للملف أو إرجاع فلسطيني واحد. أيضا، اكتفوا بإعلانات لغوية أخرى لن تمنع بالمطلق عمليات الاستيطان. صحيح، أعلن بوش عن قرار الفيتو بخصوص عشر مليارت دولارات، لكن ستنتهي صلاحيته ومفعوله سريعا، فقد رصدت مقالة نشرتها صحيفة “ذي إيكونوميست”شهر يوليوز، وجود قنوات أخرى توفِّر نفس الضمانات من طرف المنظومات البنكية دون المرور عبر ضمانة الكونغريس الأمريكي. عموما، ستضع الحكومة الصهيونية يدها على تلك المليارات بالتالي إمكانية أن تواصل إقامة المستوطنات، كي تستقبل مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي السابق. إذن، إسحاق شامير والحكومة الإسرائيلية لهما كل المصلحة بخصوص انعقاد لقاء مدريد في ظلِّ ادعاء يزعم بكونه لقاء للسلام، وتأكيدهم بانتظام تأييدهم لفكرة تحقيق السلام. بناء عليه، تنصبُّ مصلحة منظمة التحرير الفلسطينية في رفض مايجري، ولا ينبغي لها الذهاب مرة أخرى إلى واشنطن، قبل عودة الفلسطينيين الإثني عشر المطرودين، مع الدعوة إلى وقف المستوطنات، لكن أن تذهب للمفاوضات ويبقى خطابها حول وضع حدٍّ للمستوطنات دون تأثير يذكر !: ”لن نتفاوض أبدا دون عودة هؤلاء الفلسطينيين!”. ربما يأخذ الأمر سنة من الضغوطات، خلالها يندلع نزاع سياسي لدى الرأي العام الغربي والإسرائيلي، شعاره: ”إذا كنتم ترغبون في السلام، فلا تطردوا قط الفلسطينيين!”.
س : ما الدور الذي تلعبه الانتفاضة؟
أبراهام السرفاتي : الانتفاضة أساس الصراع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية وكذا الشعب الفلسطيني. للأسف، لاتوجد قيادة سياسية على مستوى الانتفاضة.
س : ألا تشعر بتأطير إسلامي، تشرف عليه حماس، يمكنه أن يعمل على تصلُّب النضال الفلسطيني، أو أخذه من منظمة التحرير الفلسطينية، مادامت حماس غير منضوية ضمن صفوف منظمة التحرير؟
أبراهام السرفاتي : بدأت حماس تشغل موقعا أكبر نتيجة افتقاد منظمة التحرير الفلسطينية لاستراتجية سياسية، فقد تطوَّر التنظيم على ضوء إخفاقات منظمة التحرير الفلسطينية. وضع يعني من الناحية العملية بأنَّ ”مسار السلام” في مدريد، مع كل الاحتمالات، لن يفضي أبدا إلى تكريس سلام فعلي في منطقة الشرق الأوسط، حتى وإن تمكنوا، وهو ما لا أعتقده، من دفع منظمة التحرير الفلسطينية على توقيع اتفاق حول الاستقلال، ثم من خلال ذك توقيع حافظ الأسد على اتفاقية كامب ديفيد جديدة مع الدولة الإسرائيلية. لقد بلغ الشعب الفلسطيني مستوى معينا من الوعي بعدم التنازل قط عن نضاله الوطني. إذا لم يتطوَّر هذا النضال عبر وسيلة تقدمية، سيكون بواسطة أخرى إسلامية. لحسن الحظ، لا توجد فقط حماس، بل هناك أيضا تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي يناضل ضمن أفق جذري. بالتالي، يكمن وجود بديل تقدمي بين صفوف الشعب الفلسطيني. لكن إذا تراجعت حركة فتح، أكثر فأكثر سياسيا على أرضية الصراع، والتي لها داخل فلسطين تيارات عديدة أكثر جذرية من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ثم تطوَّر مسار منظمة التحرير الفلسطينية، وهو ما لا أعتقده، ضمن سبيل الإذعان، طبعا نتائج من هذا النوع ستؤدِّي إلى تعضيد وجود حماس.
س : تبدو دائما مثلما كان الشأن معك إبَّان سنوات السبعينات، مدافعا عن صورة شعب فلسطيني يجسِّد على امتداد المنطقة لَبِنة وعي معاصر. لكن لو استطاعت القضية الفلسطينية تشكيل هذه البذرة سلفا، يُفترض تبلور المسار نتيجة توالي عدَّة فرص تاريخية. ألا يعتبر انتظاركَ قويا جدا صحبة القضية الفلسطينية؟
أبراهام السرفاتي : لن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية بالثورة بدلا عن البلدان العربية، لا ينبغي بثّ هذا الوهم بين صفوف الشعب الفلسطيني. يلزم على نضال منظمة التحرير الفلسطينية اقتفاء محورين أساسيين: دعم الانتفاضة وتوجيهها، ثم السعي إلى تقويض الأسس السياسية للصهيونية ضمن سياقها العام. سواء ارتباطا بالرأي العام الغربي أو داخل إسرائيل نفسها، بالتركيز على التناقضات الكامنة لدى الساكنة الإسرائيلية.
تتيح أسطورة مفهوم الشعب اليهودي إمكانية تبرير خلق دولة إسرائيل. لقد ولدت الصهيونية السياسية في أوروبا الوسطى والشرقية، قصد الإجابة على إشكاليات مرتبطة بالجغرافيتين. تضخيم “الشعب اليهودي” مسألة مفتعلة. هنا يكمن أصل التناقض الذي بوسعنا تلمُّسه داخل المجتمع الإسرائيلي. منذ البداية، اعتُبر يهود الشرق مجرَّد أداة، وليس مكوِّن جوهري للصهيونية. سنة 1948، حَفَّز انشقاق اليهودية الأوروبية الحركة الصهيونية كي تلتفت وجهة المغاربة والعراقيين، بينما لم تدخل مطلقا هذه المناطق. كانت مضطرَّة كي تثير وتختلق اضطرابات حتى تثير أجواء الرعب داخل البلدان العربية وتهجير اليهود من هذه البلدان. لازال التناقض ماثلا غاية اليوم بكيفية متوقِّدة بين اليهودية العربية والصهيونية، التي تبقى إيديولوجية سياسية وقومية أوروبية. حاليا، تحاصر اليهود المشرقيين مشاكل اجتماعية، وبدأوا في التماس المال من أجل مدن التنمية(داخليا)وليس الأراضي المحتلَّة. ستمائة ألف شخص يعيشون تحت عتبة الفقر داخل إسرائيل، هاجروا أساسا من بلدان الشرق. تستحوذ أكثر على اهتمامهم مشاكلهم المجتمعية والاقتصادية وليس الإيديولوجية. لم تعد تشتغل المفاهيم الصهيونية المحرِّضة بنفس الكيفية، أو بشكل أقل فأقل.
س : كيف تنعكس التناقضات الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي، وهل تبلور وعي نوعي لدى اليهود العرب بوسعه إتاحة إمكانية الانشغال بالمسألة الفلسطينية؟
أبراهام السرفاتي : إنه تقدير على المدى الطويل. أعتبر نفسي متفائلا، لكنه ليس بالتفاؤل الايجابي. تظهر التناقضات الإسرائيلية الداخلية، بأنَّ الوعي بالتناقضات الموضوعية، تصاحبه تسوية بديلة، من شأنه تمكين القوى المعارضة للصهيونية كي تنظِّم نفسها بامتياز والعمل على اقتحام الكيان الصهيوني. سعي يقتضي مشروعا ثوريا تتبناه المجموعات المناضلة ضمن صفوف يهود عرب إسرائيل، ثم مشروعا ثوريا داعما وموازيا تشتغل عليه منظمة التحرير الفلسطينية. طبعا، الشروط صعبة داخل المجتمع الإسرائيلي. لكن شريطة استلهام منظمة التحرير الفلسطينية استراتجية مختلفة، وغيابها يفضي إلى تعطُّل تطوُّر الإمكانات الثورية. فيما يخص مفهوم الوعي، لا يمكننا خاصة أن نقابل بين’ ‘الوعي” و”اللاوعي”. هناك حدس داخل كل إنسان مضطَهَدٍ، حتى وإن اختبر انقلابا جراء الاضطهاد وفق تصور باولو فراير. بطريقة أو أخرى، في إطار ما يسميه ماوتسي تونغ بالمعرفة الحسية، تكمن بذرات امتلاك الوعي. هذا الوعي ليس قط، مثلما يقال غالبا بخصوص سؤال لينين، ما العمل؟ بمثابة شيء معين يتأتَّى مصدره من الخارج، لكن نتيجة تبلور المعرفة الحسية إلى عقلانية. نحتاج حينها إلى مشروع متماسك يتشكَّل بناء على التناقضات الموضوعية، ويسمح بانبثاق مانسميه بالوعي عموما. بلورة المعرفة الحسية نحو أخرى عقلانية، هنا مكمن الدور الثوري للمناضلين اليهود الشرقيين داخل دولة إسرائيل. يقتضي الوضع كذلك ترابطا مع مشروع استراتجي لمنظمة التحرير الفلسطينية. تمثَّل أصلا ذلك في الدولة الديمقراطية الفلسطينية، واليوم يلزم خطوة أخرى قصد بلوغ الهدف. لقد أكَّدتُ بين طيات كتاباتي، بأنَّ مشروع مؤتمر فاس سنة 1982، قد يجسِّد هذه المرحلة، شريطة عدم إغلاق الباب أمام الموضوع الاستراتجي. يقود تأييد الصهيونية، صوب كبح إمكانية تحوُّل وتطور المعرفة الحسية لدى الجماهير اليهودية الشرقية المضطَهدة إلى معرفة عقلانية، ثم تغدو الصيرورة مسدودة سلفا.
س : يبدو كما لو ترغب في الإقرار بأنَّ تركيز منظمة التحرير الفلسطينية على مقاومة اليهود العرب المضطَهَدين كمعطى استراتجي وسياسي، يعتبر أكثر أهمية من مفاوضات السلام؟
أبراهام السرفاتي : نعم، ينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية الانخراط في نقاشات مع الحركات الإسرائيلية، الرافضة للصهيونية حتى بشكل ضمني.
س : ألا تجازف هذه الحركات، التي تقودها الطبقات المتوسطة، كي تطوِّر على المدى القصير انتهازية شبيهة بالتي وظَّفها بعض مسؤولي حركة الفهود السود؟
أبراهام السرفاتي : أولا لم تكن حركة الفهود السود منحدرة من الطبقات الوسطى، بل عَبَّرَت أساسا عن حركة للجماهير المضطَهَدة، ومن المهم تحليل كيف حدث التئام هذه الحركة. تمتلك بنيات المجتمع الإسرائيلي قنوات للتعافي فعالة جدا، ربما حتى أكثر من مختلف المجتمعات البورجوازية الغربية، لكن ذلك يرتبط خاصة بالمشروع الاستراتجي. تبلور معرفة حسية إلى أخرى عقلانية ليس أمرا بسيطا. تطوَّرت الأفكار بهذا الخصوص منذ عشر أو اثني عشر سنة، فهل بلغت مرحلة مُهَيّأة بما يكفي قصد التحفيز نحو إمكانات ثورية للجماهير الثورية الشرقية المضطَهَدة في إسرائيل؟ ربما ليس بعد، لكن حينما نقرأ نصوص الجبهة الشرقية، فالتطور ثابت. هناك أيضا موانع، مصدرها أيضا الإيديولوجيات التي تسود المجتمع الإسرائيلي وتفتقد إلى استجابة من طرف منظمة التحرير الفلسطينية. نحتاج إلى مشروع متكامل يربط بين مشروع لتحرير اليهود الشرقيين الخاضعين للاضطهاد الصهيوني ثم مشروع لتحرير فلسطين.
مرجع الحوار: Abraham Serefaty: Ecrits de prison sur la palestine ;1992. pp: 9-21
سعيد بوخليط
عن صفحة الكاتب سعيد بوحليط