منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، دخل علم الإجتماع في المغرب أقصى درجات العزلة والإقصاء، بالشكل الذي جعله، كواحد من أهم روافد العلوم الإنسانية، يصبح اجتهادا تقنيا تتخصص فيه مصالح وزارة الداخلية التي تحركها طبيعيا هواجس أمنية محضة وليس غايات علمية معرفية، تكون أداة تنوير للفرد وللمجتمع ولكل صاحب قرار سياسي وتنموي. (كانت تصدر بالرباط مجلة عملية رصينة منذ 1930 حتى سنة 1973، هي “النشرة الاقتصادية والإجتماعية للمغرب” التي حين تمت مغربتها في الستينات سيرأس تحريرها عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي)، بالتالي بدلا من أن تتطور المدرسة المغربية لعلم الإجتماع، التي كانت قد بدأت تتشكل ملامحها الواضحة منذ أواسط الستينات، أصبحت المرجعية التحليلية السوسيولوجية موضوع محاربة وإقصاء·

كان قرار إلغاء الفلسفة من الجامعات المغربية الجديدة والإبقاء عليها في جامعات الرباط وفاس فقط، بغاية التقليص من الطاقم التربوي المتشبع بالعلوم الإنسانية، المستوعب لها ولأدوات تحليلها، الباث لها في عقول الناشئة، يهدف بالأساس إلى تقويض أمرين هامين في مجال البحث العلمي الخاص بالعلوم الإنسانية، هما مجالي علم النفس وعلم الإجتماع، باعتبارهما اجتهادين تنويريين للكائن الفرد، الباحث عن المعرفة في أرقى فضاءاتها وهي الجامعة· لأن منتوجهما المعرفي وأدوات تحليلهما الحاسمة في فهم الذات وفهم الجماعة واستيعاب الكيمياء التي تتحكم في العلاقات بينهما معا، هي الأمر الذي ظل يقلق خيارا سياسيا حينها، لم يكن يرتاح لإنتاج أفراد مجتمع متشبعين بيقين مواطَنَةٍ نقدية، مُحاسِبَةٍ، واعية بشرطها الذاتي وشرطها المجتمعي، تتمثل القيم البناءة للحداثة (وليس فقط التحديث) وتدافع عنها من قبيل قيم التضحية، روح الجماعة، الوطنية، الوفاء وعدم بيع الذمة في الإنتخابات وغير الإنتخابات· فكان القرار بإطفاء نور المعرفة الهام هذا ولجمه والتحكم فيه، مما فتح الباب لنكوص معرفي هائل في الذاتية المغربية على مدى العقود التالية، كلنا نلمس نتائجه اليوم، من خلال ما نعايشه من نوعية “المواطنة المغربية” القائمة، التي يغلب عليها الفكر النكوصي، الغيبي والغارق في الخرافة والكثير من التطرف والتعايش قدريا مع آفة الفساد الإداري·

إن ملامح التطرف تلك عديدة تبدأ من اللباس، إلى السلوك، إلى اللغة المحللة، إلى ضعف الإيمان بالمستقبل، إلى مستوى الإطمئنان لسقف الإنتماء، إلى التشويش الواقع في الرؤية للذات وللعالم····

كانت التجربة المغربية معرفيا في مجال علم الإجتماع، تجربة واعدة جدا، كونها أنتجت أدوات تحليل مستنبطة من واقع مغربي محض، ومن تراكم تحليلي وطني عالم، سمح بالبدء في رسم ملامح طريق واضحة أمام نخبة الأنتلجنسيا المغربية، التي هي الإطار الطبيعي لإنتاج قيم التصالح مع الذات ومع الواقع، وتعميمها في المجتمع· حيث كان لتأسيس المعهد المغربي لعلم الإجتماع سنة 1964 من قبل ثلة من الباحثين المغاربة الرصينين، وترأسه من قبل الدكتور عبد الكبير الخطيبي، بعضا من الحلم الواعد لامتلاك المعرفة العلمية الرصينة للواقع المغربي، كواقع مركب، يعيش لحظة تحول هائلة على مستوى القيم والبنيات الإجتماعية، يطمح أفراده إلى ربح ما أضاعه الآباء والأجداد من سنوات هائلة ضمن منظومة سلم القيم الكونية، التي تؤهلهم إلى التصالح مع لحظتهم التاريخية والإنتماء إلى أسئلة التقدم والحداثة·

كان اكتساب المعرفة السلاح الحاسم الذي أدرك المغاربة آنذاك، من موقع خصوصيتهم كأمة ناهضة استفاقت من صدمة الإستعمار وامتلكت الوعي الملموس بالواقع الملموس (هو هنا في لحظته التاريخية تلك امتلاك المعرفة عبر التعليم)، حيث أدركوا أن امتلاكها هو السبيل الحاسم لربح كل مراحل التأخر التاريخي المكبلة للطاقات والمؤجلة للتحول المأمول· فكان أن تحقق نهوض سياسي ومجتمعي وتربوي ورياضي ومعرفي وفني وثقافي، سمح بميلاد ما أصبح يعرف بعد ذلك بسنوات ب “المدرسة المغربية في علم الاجتماع”، الموازية لبروز “المدرسة المغربية في التاريخ”، و “المدرسة المغربية في الفلسفة والفكر”، و “المدرسة المغربية في النقد الأدبي”، و”المدرسة المغربية في التشكيل”، و”المدرسة المغربية في الدراسات القانونية والعلوم السياسية”، ترجمانا للدور المحوري للجامعة كفضاء عال لإنتاج المعرفة والتربية على اكتساب شرط العلمية·

كان مشروعا تربويا متكامل الأضلاع، منتجا للمعرفة وللقيم، مؤطرا لأنتلجنسيا مغربية مميزة في كامل الخريطة العربية، عملت استراتيجية كاملة لتقويضه من باب أن ذلك المشروع يؤسس لإنتاج إنسية مغربية جديدة، أي لهوية مغربية جديدة، يكون الأفراد فيها عقلانيين، محللين، محاسبين وبنائين·

إن التراجع المغربي اليوم في مجالات القراءة والكتابة والتعليم، واتساع فضاءات المعرفة النكوصية والتغريبية (في جوانبها السلبية)، التي تدفع أفراد المجتمع إلى أن يكونوا أشبه بما سبق وأسماه الباحث السوسيولوجي المغربي الدكتور محمد جسوس ” الضبوعة “، هو نتيجة منطقية لتلك الإستراتيجية التقويضية للنهوض المعرفي والعلمي للمغاربة·

إنه بالعودة إلى مبحث علم الإجتماع بالتحديد، فإن المعرفة التي أنتجها جيل عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون ولازاريف ومحمد جسوس، ثم الجيل الذي تلاهم من طلبتهم خاصة عبد الله الحمودي، محمد الطوزي، حسن رشيق، رحمة بورقية، فاطمة المرنيسي، عبد الأحد السبتي وغيرهم كثير، قد شكلت المرجعية الإطار لكل الفعل السياسي (المعارض)، المتساوق مع تيار النهوض المجتمعي المغربي، الذي قلنا إن أسسه آتية من ما أحدثته لحظة صدمة الإستعمار في الذات المغربية، كونها كانت لحظة امتحان أيقظ المغاربة من سبات تاريخي طويل، وجعل سؤال: “لماذا تقدم الآخر وتخلفنا نحن؟!”، ليس سؤال نخبة فقط (كما كان عليه الحال منذ أواسط القرن 19 حتى سنة 1912 تاريخ بداية الإستعمار رسميا) بل سؤال مجتمع بكامله·

كان المنتوج المعرفي لعلم الإجتماع بخصوصيته المغربية، أداة تحليل هائلة لكل العائلات السياسية الوطنية والتقدمية المغربية في الستينات والسبعينات إلى نهاية الثمانينات، حقق لها على مدى سنوات تجاوبا هائلا مع أكبر الشرائح المجتمعية في المغرب، كونها أدركت عميقا نسيج البناء المجتمعي للمغاربة، ورسمت أحلامهم وطموحاتهم التاريخية من خلال برامج ومشاريع سياسية كاملة، كانت ترجمانا للطموح المغربي الشعبي آنذاك (ولا يزال على كل حال في أغلب ملامحه العامة إلى اليوم)· فجاء القرار السياسي الرسمي بحجب نور المعرفة هذا لأنه يُنتجُ آلية تنوير لا تتطابق والخيار الغالب في الدولة الناهضة آنذاك، المعيدة لتأسيس ذاتها وبنيانها (كانت للأسف إعادة بناء محافظة وفي خصومة مع المجتمع وليس في تساوق ومصالحة مع طموحه ومع فورة نهوضه التاريخية)·الخيار الذي كان يرى أن الأسلم لها هو إعادة بنينة الإطار التقليدي للدولة والعمل على إعادة ترسيخ الخيار المخزني كآلية للتدبير والحكم· فكان أن تحول مبحث علم الإجتماع من أداة تحليل تنويرية للمجتمع، إلى أداة تحليل أمنية للسلطة فقط، تسعى من خلاله إلى استباق ما قد يحدث من تطورات مجتمعية بغاية توجيهها والتحكم فيها· فكان أن أصبح عندنا ما يمكن وصفه ب “تقنيي علم اجتماع”، وليس “علماء اجتماع”· والمسافة هائلة بين التقني والعالم، لأن الأول يحاول فقط إصلاح أعطاب الآلة، بينما الثاني قوته في أنه يجدد صناعة الآلة نفسها·

إن المثير تاريخيا أن ما وقع مغربيا مع مبحث علم الإجتماع وعلم النفس والفلسفة وباقي العلوم الإنسانية، منذ أواسط الستينات، هو ذات ما وقع في تجربة مجتمعية لها قوة خصوصية حضارية، تكاد تشبه قوة الخصوصية الحضارية للمغاربة، وهي التجربة الإيرانية· لقد حورب علم الإجتماع هناك واضطهد وقتل علماء إيرانيون بارزون، مما كانت نتيجته هي ما نعرفه من تطورات في ذلك البلد الإسلامي البعيد (لعل تجربة حياة عالم اجتماع إيراني كبير مثل إحسان نراغي خير مثال على ذلك)·

إن رهان الإصلاح مغربيا اليوم لن يمتلك كامل ملامحه، بدون الوعي بأهمية عودة العلم والمعرفة إلى مجالات إنتاج القيم وتعميمها بالمغرب· والعلم في المجالات التنموية ذات الإرتباط بالعلوم السياسية لا يتحقق عاليا إلا بجرأة فسح المجال أمام عودة روح الفلسفة وعلم الإجتماع ليس فقط إلى مجالات التكوين (كما حدث تقنيا منذ عشرين سنة تقريبا)، بل إلى منظومة آليات صناعة الرأي العام المنتجة للفرد المغربي المأمول انتصار العقلانية المدنية في تشكيل بنيته القيمية والسلوكية التي هي الإعلام والثقافة.

علينا أن نستحضر أن التحولات المتحققة مغربيا منذ ثلاثة عقود تتحدد أساسا في التغيير الذي طال النسيج المجتمعي، كوننا انتقلنا من مجتمع غالبية ساكنته في البداوي إلى مجتمع غالبية ساكنته في المدن، بما يعنيه ذلك من تحول على مستوى الإنتظارات العمومية للناس وفي أشكال ممارسة الحياة اليومية، وفي إلحاحية الإصلاحات في مختلف مجالات الخدمات العمومية، ثم في أشكال التأطير المجتمعي التي تسمح بإنتاج نماذج لأفراد مغاربة بنائين، فاعلين، مفيدين لذواتهم وللجماعة، بدلا من أفراد ليسوا أكثر من قنابل موقوتة، مثل ما حدث مع الأشقاء في الجزائر، حيث التحول المجتمعي المماثل (من مجتمع قروي إلى مجتمع مديني)، أفضى إلى نكوص تنموي وسياسي قاد إلى عنف حرب أهلية، خاصة بعد أن وجدت الطبقة المتوسطة هناك في مؤسسة الجيش الملاذ الذي احتمت به ورسخت دوره، بسبب كونه المؤسسة التي رأت فيها تلك الطبقة الدرع الحامي لحقها في الدفاع عن اختيارات حياة وجودية هي في خصومة مع المشروع السياسي المعارض للحركة الإسلامية الناهضة بالجزائر آنذاك·

إن هذا التحول المجتمعي المتحقق في المغرب منذ ثلاثة عقود يفرض الرؤية إلى واقع المغاربة عبر أدوات تحليل علمية لا يوفرها بالشكل الأسلم غير مبحث علم الاجتماع. مما يعني أن هذا العلم هو حاجة راهنة مجتمعيا ومصلحيا وأن حسن توظيف آليات اشتغاله العلمية الرصينة (واحد من موادها نتائج الإحصاء العام كمثال فقط) هو الذي سيقودنا إلى الإقتناع أن المغرب اليوم في حاجة إلى “انتقال ثقافي وإعلامي” يساعد في تمنيع “الذات المغربية” ليس بمنطق الإنغلاق أو النرجسية أو القطيعة مع العولمة والطريق السيار للذكاء الإصطناعي، بل بما يسمح بتلقيح الفرد المغربي ضمن أفق مشروع مجتمعي ممتد في الزمن ضد اختراقات فيروسية تشل ملكة تصالحنا مع العالم من داخل منظومة الخصوصية التاريخية والحضارية للمغاربة.

إن ما يتعرض بالتواتر منذ عقود للقصف الهوياتي عبر آليات إنتاج منظومة قيم تواصلية وثقافية وفنية (في القلب منها ما نعيشه من اتساع دائرة “مسخ صحفي” مثل بقعة زيت في المقروء والمسموع والمرئي) هو “الجدار الأخير للهوية المغربية” المتمثل في “رأسمالنا الثقافي” الصانع تاريخيا للإنسية المغربية، الذي لا قدر الله وبدون أي نزوع لليأس أو المبالغة أو المزايدة سيفضي بنا جميعا إلى أن نصبح جسدا وطنيا منخورا لا قدرة له على التفاعل بإيجابية مع فاتورة العولمة. ويكاد المرء يتساءل بقلق وغيرة، كيف أننا على مستوى إنتاج منظومة التدبير الإستراتيجي للشأن العام (في الدولة وفي المجتمع عبر أحزابه وجمعياته ومؤسساته الأكاديمية) نكاد نكون عُمْيًا أمام هذا الذي يصير بشكل يكاد يكون يوميا. هنا يكمن للأسف “عجزنا المغربي” الأكبر (déficit global). لأن الضحية فيه هو الإنسان المغربي، حيث التحدي اليوم هو إلحاحية إعادة صناعة للإنسان ببلادنا.

إن “أزمة القيم” بالمغرب تلزمنا بالأمل في قرار سياسي ذي أفق استراتيجي ينتصر ل “الإنتقال الثقافي والإعلامي والتربوي والتعليمي” بالمغرب ليس برؤية “التقني” بل بجرأة وكفاءة “العالم”.

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…