عن السلطة والهوية و”أممية اليسار واليمين”
فكرتان رئيسيتان ميزتا اليسار منذ نشأته: العالمية والتضامن الدولي. أن تنتمي لليسار، كان يعني أن تتبنى مطالب عمال مناجم الفحم في أستورياس الإسبانية أو مناجم النحاس في التشيلي، ونضالات الأفارقة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ودعم حركات التحرر في العالم، والنضال من أجل العدالة والمساواة وحقوق السكان الأصليين في أمريكا الجنوبية، أو في أي بلد آخر في العالم. هذا ما كان يميز اليسار عن اليمين الذي لم يؤمن أبداً بالتزامات خارج دائرة مصالح الرأسمال ومنطق الربح والاستغلال.
تميزت مطالب اليسار التي ساهمت في انتشاره بالكونية، وقامت علاقته بالإنسان على المبادئ وليس القبيلة، بالانتماء للإنسانية وليس الانتماء العرقي أو الجغرافي. بينما انتصر اليمين دائما وفي كل بقاع العالم لانتماءات تتعلق بالعرق أولا، ثم الانتماءات الطبقية التي تخضع هي الأخرى للتمييز حين يتعلق الأمر بالحقوق الفردية وتحقيق العدالة والمساواة.
السؤال الحارق الذي يواجه اليسار اليوم يتعلق بمدى استمرار هذه العناصر في تحديد هذا التمييز، وإذا توقفنا لحظة للتفكير في مكونات هذا الاختلاف التقليدي بين اليمين واليسار، ندرك أن هذه العناصر خضعت للتغيير في قاموس اليمين بعد هزيمته في الحرب الثقافية، وبروز يمين جديد وليد العولمة والثورة الإعلامية والتكنولوجيا الرقمية وتأثيرها العنيف على الرأي العام العالمي، وبدأت ملامح هذا التغيير تظهر جليا في خطاب اليمين الجديد في ارتباط وثيق بالسياقات الجغرافية والتاريخية والثقافية، سياقات لها وقعها على التعريفات التقليدية للآخر، بما فيها التعريفات العنصرية.
من الواضح اليوم أن تعريف شخص أسود يختلف بشكل كبير عن التعريف القديم، اعتماداً على ما إذا كان الشخص الأسود يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية أو في السنيغال، لون الأول لا يحدد علاقته بقاموس اليمين في علاقته بالانتماء. كذلك تعريف المسلم، أن تكون مسلما في مدريد أو في باريس أو في موسكو يفرز في غالب الأحيان انتماءات مختلفة، وأحيانا متباعدة، ما يؤدي إلى هويات مختلفة للغاية، ولو أن جميعهم يحملون هوية أخرى تسمى الأصلية، قد يكون للمسلم المولود في مدريد أو في باريس موقف مختلف جوهريا تجاه العالم عن المسلم الذي انتقل للعيش هناك وهو بالغ. أولوية الانتماء هنا بالنسبة للأول ترتبط بالمنشأ قبل الجينات أو اللون أو الدين التي يقتسمها مع الثاني.
في هذا السياق وعلاقة بهذا الموضوع، دعت الفيلسوفة الأمريكية سوزان نايمان اليسار العالمي إلى التوقف للتفكير في موضوع الهوية والقوميات في علاقتها بالعالمية والمبادئ الكونية القائمة على التضامن والحرية والعدالة والمساواة، وكمثال معاصر تستشهد سوزان ـ وهي يهودية ـ بالقومية اليهودية للسياسيين الإسرائيليين، وتفكك النموذج الإسرائيلي بما يلي:
“في البداية، تأسست دولة إسرائيل بأمل أن لا تتكرر المحرقة، وأن لا يكون اليهود من جديد ضحايا للتاريخ، وتحولت السياسة الإسرائيلية اليوم مع نماذج مثل وزير الأمن القومي الإسرائيلي، الإرهابي إيتامار بن جفير، إلى اعتماد دولة إسرائيل سياسة مقصودة لاستغلال ذاكرة المحرقة لمواجهة كل انتقاد للاحتلال وتبرير جرائم إسرائيل في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة”.
في كتابه “رسائل إلى ناشط شاب”، يشير عالم الاجتماع الأمريكي تود جيلتين إلى الجاذبية التي يثيرها استناد السياسة اليوم إلى الهويات القبلية، واعتماد اليمين المتطرف الجديد خطاب الدفاع عما يسميه “الهوية الضحية” التي يصفها بالأصلية. يوضح جيتلين أن العاطفة التي تغذي السياسة الهوياتية والخطاب اليميني الجديد الذي يدافع عنها يمكن أن تكون نقطة ضعفها، وغالبا ما تخفي مساوئ عميقة، ويختم تفسيره بأن السياسة الهوياتية التي يرفعها اليمين المتطرف اليوم غالبا ما تتمسك بالماضي وتعود إلى الوراء، وبما وصفته سوزان نايمان بـ” لانحراف المأساوي نحو القبلية”.
انتبه اليمين المتطرف الجديد لتأثير الخطاب السياسي الهوياتي واستفاد من استدلالات اليسار حول مطالب الأقليات باعتبارها حقوقا خاصة، وليست حقوقا إنسانية، واعتمدها في بناء خطاب يقوم على شرعية حقوق الإنسان الأبيض في أوروبا وأمريكا الشمالية وهويته المهددة باستمرار توافد المهاجرين من عرقيات مختلفة.
أعطى هذا الخطاب نتائجه الواضحة بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2016، وبروز الحركات اليمينية الهوياتية التي اكتسبت قوة في معظم الدول الأوروبية، وفازت في بعضها في الانتخابات وتمكنت من تشكيل بعض الحكومات، كهنغاريا وإيطاليا، ومضاعفة مقاعدها في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو الفارط بما مهد لها الطريق للسيطرة على الهيآت التنفيذية في الاتحاد الأوروبي بالتحالف مع اليمين المحافظ.
تعيدنا حجج اليمين الجديد، أو اليمين القبلي الهوياتي، إلى نقاش بداية القرن الماضي حول التنوير ومعنى العقل في العلاقة مع السلطة، حول أيهما يأتي أولا، تدهور العقل أم تعزيز السلطة. كان المفكرون في القرن العشرين مثل فوكو وهايدغر يتفقون في اعتبار ما سموه “عقل التنوير” كسلطة سائدة مكرسة للسيطرة على الطبيعة، ومعها على الشعوب الأصلية التي يعتبرونها جزءا من الطبيعة. من هذا المنظور اعتبروا العقل أداة مجردة وتعبيرا عن السلطة وآليات التغيير والتطور.
نمو اليمين القبلي اليوم وانتشاره في العالم وطريقته في الاستدلال بالعقل لتبرير خطابه العنصري الجديد، يدعو حتما إلى العودة للتفكير في علاقة السلطة بالعقل والهوية، وكذلك معنى الهوية في علاقتها بالانتماء من خلال التنوير نفسه، في النهاية ــ تقول سوزان نايمان ــ هو العقل نفسه كوسيلة تربية أكثر تهذيبا، لكنها كذلك أكثر تلاعبا بالسيطرة والتحكم كما أشار روسو وديدرو في تحليلهما للثقافات غير الأوروبية.
يقول ديدرو في حديثه عن الاستعمار الإسباني للمكسيك: “كانوا يظنون أن هذه الشعوب ليس لديها نظام حكم، لأنه لم يكن موجودا في شخص واحد، وأنها ليست متحضرة، لأنها مختلفة عن الحضارة في مدريد، وأنها لا تملك فضائل، لأنها لا تتبع الدين نفسه الذي يتبعونه، وليس لها فهم أو معرفة، لأنها لا تتبنى وجهة النظر نفسها في مدريد”
الجمعة 13 شتنبر 2024 .