فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في غاية المأساوية.بخلاف جلِّ الشعوب المستعمَرة في إفريقيا،آسيا،وكذا أمريكا اللاتينية،اقتضى الوضع من الشعب الفلسطيني مقارنة مع باقي حركات التحرُّر الوطني، تبنِّيه مرحلة جديدة للمقاومة وتضحيات أخرى.
ناهيك عن أشكال المقاومة قبل 1948 وكذا سنوات الصمت العشرين التي اكتنفت وجود الشعب الفلسطيني نفسه،هاهو يخوض منذ أربع سنوات مقاومة مسلَّحة قصد إقناع الأوساط الموصوفة بمناهضتها للاستعمار،بأنَّ فلسطين وطن شعب وإسرائيل ليست شيئا آخر سوى احتلال”من نمط استعماري”.
قصد امتلاك قياس الالتباس الإيديولوجي وتداعياته على القضية الفلسطينية،يكفي استدعاء نموذج جان بول سارتر،رجل أبان فعليا عن معارضته للاستعمار،وانحاز تماما إلى جانب الشعب الجزائري خلال حربه التحريرية ثم شارك في ”المحاكمات”التي أدانت الجرائم الامبريالية في فيتنام،لكنه خلال الوقت نفسه سيدافع عن إسرائيل وكذا سياسة موشي دايان العائد من سايغون حيث جَنَّد هناك ربَّانا مجرمين أوكلت لهم مهمَّة قصف فيتنام الشمالية.
مثال يكشف إلى أيِّ حد،أظهرت حقيقة تلك الأوساط التي عرفت برفضها الاستعمار داخل أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية،أي مفكرين طالبوا بإعادة النظر ثانية في مختلف منطلقات الإيديولوجية البورجوازية،بأنَّهم سجناء مختلف البديهيات الزائفة التي تراكمت منذ نهاية القرن التاسع عشر باعتبارها جزءا من فكر”اليسار”.
يتعلق الأمر فعلا ببديهيات تبلورت نتيجة سلسلة وقائع انطلقت من قضية دريفوس ثم مجزرة ملايين اليهود من طرف النازيين،وكذا وقائع خاصة بالمجتمع الأوروبي الغربي الرأسمالي تعدُّ النازية حصيلة ونتاجا له.
مَثَّل دعم إنشاء إسرائيل وكذا ممارساتها،بالنسبة للعالم الغربي مع يمينه و”يساره”،طريقة للتعبير عن الضمير المرتاح. لكن قدر تجلِّي حقيقة الصهيونية،يصعب أكثر فأكثر تبرير المصير الذي هُيِّئ للوطن الفلسطيني وشعبه بمعاداة النازية المتوارية،كلما أفرز المجتمع الغربي وكذا إيديولوجيو الامبريالية والصهيونية،نظريات متغيِّرة،تبدو متباينة بل ومتعارضة،لكنها في الواقع تنحو صوب نفس الهدف :تبرير وجود إسرائيل والحفاظ عليه.يذهب ذلك،من ”مقدمة الجِسر الغربي”غاية ”النزعة السلمية”المناضلة لماكسيم رودنسون،مرورا بالتأويل الواقعي،الوضع القائم وكذا”التطور الاقتصادي الإقليمي”.المقصود بذلك ملاءمة دائمة بين مناهج التحوير والتمويه حسب الوقائع،مناهج مرتبطة فعاليتها بالسيطرة المتزايدة للشَّبكات الصهيونية على مستوى النشر والطباعة الغربيين لاسيما تلك المصنَّفة بكونها يسارية.
من بين ضحايا التكييف الإيديولوجي والثقافي،نجد أطر أفريقيا الشمالية الذين تلقوا تعليما استعماريا- بورجوازيا فرنسيا وتأسَّس فكرهم على نحو سهل جدا،ارتباطا بالأوساط الفرنسية المسماة يسارية،بسبب دعم الأخيرة للحركة الوطنية في شمال أفريقيا.نتذكَّر نداء أحمد بن بلة ”إنَّنا عرب،عرب،عرب”.مثلما نتذكَّر جراء ذلك،انذهال وصدمة عدد كبير من مثقَّفي شمال إفريقيا،بحيث تبنَّى كل واحد من هؤلاء تفسيرا معينا استعرضته الصحافة الفرنسية.
حدثت صدمة يونيو 1967،وكذا المقاومة الفلسطينية،حينها شرعت تلك الأطر تسائل بديهيات الثقافة الغربية المضلِّلة،وتبلورت وقائع تاريخية خاصة بالمجتمع الأوروبي،غريبة عنا تماما.
لكن يتعلق الأمر،بإعادة طرح تساؤل لم يرتكز على الأساسي،فقد استند التحليل دائما وكذا التصرف على المفاهيم الغربية،”واقعية” تتوخى تهميش الحقيقة الملموسة،حسب موضوعية تستخفّ بذات موضوع ما نسميه دون اهتمام بالصراع الإسرائيلي العربي،أزمة الشرق الأوسط،الإشكال الفلسطيني،إلخ،ينبغي التساؤل ثانية مع أخذ بعين الاعتبار المقاومة الفلسطينية مثل واقعة جديدة تغيِّر المعطيات القديمة وتبرز الإشكالية الحقيقية،أي الوجود الإسرائيلي.يتعلق الأمر تحديدا بنفس تطور إيديولوجيي الصهيونية واليسار الأوروبي.يتكيَّفون مع الوضعية الجديدة،يندِّدون بتفجير المنازل،ويلومون ضحايا النازية لأنهم وظفوا ثانية لصالحهم نفس أساليب النازية،لكن مختلف ذلك يصبُّ وجهة الإيحاء بلقاءات،وخلق مجموعات سلمية،ثم الدعوة إلى حلول ”فيدرالية” و”كونفدرالية” إلخ.
ضمن طليعة هؤلاء نجد ماكسيم رودنسون،وكذا أوري أفنيري(هذا النائب الإسرائيلي الشهير،و”القومي الإسرائيلي”الذي يصنَّف بأنه ”مناهض للصهيونية”)، تقدميون وثوريون يرمزون حاليا إلى الأداة الأكثر نعومة وفعالية في يد الصهيونية على مستوى الدعاية والتضليل.فلا أحد منهم تساءل من جديد حول الوجود الإسرائيلي ككيان،والتطرق إلى إشكالية اغتصاب الوطن الفلسطيني،واكتفوا بمناقشة ”البنيات الراهنة”لإسرائيل،وشجب النزعة التوسعية لمسؤوليها،إلخ.يترقبون”تَجَرُّدهم من النزعة الصهيونية”كي يشيِّدوا”دولة مزدوجة الجنسية”،وتوطيد مختلف أشكال التعاون، ثم الكونفدراليات،إلخ.
تعكس هذه الجماعة لدى الصهيونية والسياسة الإسرائيلية،نفس وضعية عناصر ”الوعي الفرنسي”بالنسبة للحماية إبَّان مرحلة نضالنا قصد تحقيق الاستقلال الوطني.”الوعي الفرنسي” و”الحضور الفرنسي”،ظاهرتان ولدتا وتعارضتا لحظة التقويض الجدِّي للصَّرح الاستعماري من طرف المقاومة الشعبية المسلحة.تبلورت الفكرة الجنينية للاستعمار الجديد خلف وصاية إنسانية،ثم التفكير في المستقبل،تهيئ وسائل الحفاظ على الضروري ومعارضة تأخُّر جملة مصالح بحيث تعكس قسوة ذلك يأسا وكذا الإحساس بنهاية وشيكة.
الحضور الصهيوني والوعي الصهيوني،تحديد موضوعي لاشتغال ينزع صوب الإبقاء على الضروري :”لاأريد شعبا ليبراليا،مناهضا للاستعمار و الروح العسكرية،لأنه سيكون شعبا ميِّتا”أجابت غولدا مائير عن سؤال صحفي أبدى خشيته من اختفاء”قيم الشعب اليهودي”نتيجة الأساليب النازية الخالصة التي توظَّف ضد العرب.لاأتبيَّن قط طبيعة هذه القيم المفترضة لهذا الشعب المزعوم،جَسَّد وجوده أصل وأساس أكبر سرقة في التاريخ،سرقة بلد.والسارق لايتوفر على دستور،ويرفض الإخبار عن حَيِّز ينتهي إليه البلد المستهدف سرقته،بل مافتئ صوت مسؤولي إسرائيل يعلن بأنَّ الأخيرة من تضع إطارا لحدودها.
من اليهودي الذي يدَّعي رفضه للصهيونية ويستنكر بلا تردُّد تلك السرقة،ومتسائلا حول الوجود الإسرائيلي،دون تكريس أولوية جوهر كلامه إلى الإسهاب في التذكير التاريخي عن معاناة اليهود،ثم مصير مليونين من اليهود المهاجرين.جراء هذا الانحياز، والسعي وفق منحنى دائري،يقلب حقيقة القضية ويعيدها إلى مرمى العرب،والفلسطينيين ضحايا السرقة.نعم،لكن،أقرُّ بحقِّ الشعب الفلسطيني،وشرعية المقاومة،إلخ،لكن ما الحلّ؟ لاتجيبني على أيَّة حال،مثلما قال أحمد الشقيري بضرورة ”رمي اليهود في البحر”؟المبادئ مستثناة،لاسيما أكثرها أولية،أي عدم مواصلة طلب الحلّ من ضحية السرقة.
تحافظ وجهة النظر على نبرة الصدق،وكذا وتيرة التجانس ثم نبرة الماركسية-اللينينية !أفق يلامس السموّ حين التقاء المقاربة النفسية والاجتماعية،وتجلِّي سعي التقدمي المناهض للصهيونية بهدف إثبات أنَّ”إسرائيل ليست بوطن”.
إذن،بدل قَلْبِ الإشكالية الجوهرية،وطرح الخيارات على الضحية وليس المحتَلِّ،الذي يحظى بخدمة حين تحوير النقاش،بإذكاء سجال سطحي مُخْتَلَقٍ تماما.
صار الصراع الدموي لشعب سُرق وطنه ضمن سياق تقديم خدمة أساسية للامبريالية،ونقطة تجميع الصهيونية،مجرد موضوع للتاريخ القديم.لكن،بوسعنا أن نلتمس أكثر من المثقفين اليهود،إذا امتلكنا فكرة ولو ملموسة قليلا عن مناهج الضغط التي توظِّفها القنوات الصهيونية حسب أشكال مختلفة وعلى امتداد كل المجالات.بيد أنَّ المجال هنا،ليس للحديث عن هؤلاء الأفراد،ولا ذاتيتهم أو صدقهم.
توخَّت الملاحظات الواردة سابقا،إعطاء فكرة أولى بخصوص تعدُّد عناصر الالتباس التي تكتنف القضية الفلسطينية وتحدِّد وجهة النظر وكذا موقف مثقفي شمال إفريقيا التي تكوَّنت في المدرسة الرأسمالية-الاستعمارية الفرنسية.هذا يقتضي :
1- رؤية كيف أنَّ الصهيونية،تعتبر أول مستفيد من كل بديهيات الإيديولوجية البورجوازية المهيمنة،لاسيما تلك المرتبطة بالأدب الاستعماري الجديد المخصَّص ل”التخلُّف”.يلزم بغية تبيان واضح لسمة تلك البديهيات المضلِّلة،إطالة الحديث عن جوانب ليست خاصة بالقضية الفلسطينية.
2- أتاحت هذه البديهيات أمام الصهيونية ممارسة تأثير مباشر على بلداننا وأطرنا،الاستفادة سواء من الظروف الثقافية،التقنية والاقتصادية(روابط مع القوى الاستعمارية القديمة و “يسارها”)،ثم الظروف الجغرافية والتاريخية(ابتعاد عن حيثيات ظواهر الشرق الأوسط،بحيث لايذكر منها سوى العلاقات الخارجية والسلبية).
3- انطلاقا من هنا ، يمكن الإقرار بأنَّ تطور مابعد 1967،إذا ترجمته إعادة مساءلة الأفكار التي تلقيناها،فلم يتجه التأويل بعد نحو الأساسي.يستمر التشويش حول الإشكالية الجوهرية،بحيث تغدو الانهزامية ”واقعية”أو ”موضوعية”،ولازالت الأمور مستندة على الارتباط بالمظاهر،علما بأنَّ الانخراط إلى جانب الشعب الفلسطيني يمثل جزءا لايتجزأ من مستوى الارتباط مع حركة التحرُّر.
أولا-الصهيونية أول مستفيد من البديهيات المضلِّلة للفكر الاستعماري وكذا الاستعمار الجديد قبل وبعد يونيو 1967 .
يتعلق الأمر،وجب التذكير،بتسليط الضوء أولا على معطيات الإيديولوجية الرأسمالية-البورجوازية الغربية، ضمن مفاهيم،وتبريرات وكذا سلوك أغلبية أطر أفريقيا الشمالية والثقافة الفرنسية فيما يتعلق بالإشكالية الفلسطينية.ثقافة تأتَّت لنا عبر الأدب الاستعماري والاستعمار الجديد،ارتباطا ب”التقدم”ثم ”التخلف”،بينما تمثِّل حقيقة مفاهيم وكذا تعليل القضية الفلسطينية عنصرا متكاملا على مستوى الموقف الفكري وكذا ممارسة مثقفي شمال إفريقيا أمام قضايا التحرُّر والاستعمار الجديد عموما.
لايمكن أن تتبدَّى هذه الصلة جليا سوى بتوضيح التحليل في إطار أمثلة ملموسة تكشف عن درجة راهنية البديهيات المضلِّلة التي ينطوي عليها الفكر الاستعماري الجديد.ينبغي التوضيح أولا،بأنَّ الإيديولوجية البورجوازية الغربية مع كل ”العلوم الإنسانية”المرتبطة بها، محض وصفية.إنها حصيلة وكذا بنية فوقية لنمط الإنتاج الرأسمالي، تكمن وظيفتها في تبريره،لذلك تنحصر في تحليل مظاهره الخارجية،أو دراسته من خلال قطاعات قصد تجنُّب تفسير مبدئه المحرِّك،أي علاقات الاستغلال التي ينهض عليها كنظام شمولي.الاستحقاق الكبير لماركس، طرحه ثانية سؤالا رصد هذه الخاصية الوصفية الخالصة والمخادِعة لهذه الإيديولوجية،منطلقا من مبدأ جوهري قوامه”كل شكل يتجلى،يعتبر مجرد صيغة للتمويه”.
سيقدم أطرنا الأفضل إن تأملوا هذه الصيغة التي تعني تركيز انتباه الفكر البورجوازي على الشجرة قصد إخفاء الغابة،قاعدة الغابة الرأسمالية.فكر مثلما الشأن مع نمط الإنتاج الرأسمالي الذي أفرزه،بمثابة نسق متجانس يمتلك منطقه الخاص،ويتكيَّف باستمرار مع المعطيات الجديدة محافظا على تجانسه ومنطقه الخاص. بل حتى هذه الإيديولوجية الوصفية،لم تلقَّن إلينا،إنما فقط نتاجها الثانوي عبر منظومة التدريس الاستعماري ثم جلّ الأدب الاستعماري الجديد حول ”التخلف”.
قصد تحقيق مزيد من التوضيح ولكي لا أبتعد عن موضوعي،أنطلق من واقعة بلا أهمية،لكنها تكشف إلى أيِّ حد لازالت تلك المناورات والأكاذيب الاستعمارية (مايزيد عن خمسين سنة)تعدُّ بديهيات لدى المثقفين المغاربة”قدماء ثانوية أزرو”،الملتئمين بداية الصيف في مؤتمر،رفضوا الإقرار باتخاذ موقف حول القضية الفلسطينية شريطة النظر إليها كما لو أنها تندرج ضمن نفس قائمة أنغولا،الموزمبيق،إلخ،ليس بهدف التأكيد على كونها قضية استعمارية،بل سعوا إلى تصنيفها على أنها قضية ”عربية”لذلك لاتهمُّهم بشكل مباشر أكثر من غينيا المسماة برتغالية.مثال بليغ عن انتهازية في حالتها المباشرة،لكن يعكس ذلك خاصة كيف أضحت الصهيونية في بلداننا،المستفيد الأول من منظومات فكر وطَّدتها الاستراتجيات الاستعمارية،ثم مدى إمكانية استثمارها تداعيات حياد بل والتحالف الموضوعي لأطر بلداننا.
لكن نتائج الفكر الرأسمالي-الاستعماري،الأكثر جسامة وتعميما،احتقاره لنا كوطن عربي،والتسليم لهذا العربي بوضعية خلقتها فعليا الامبريالية ثم واصلت نسجها أدواتها المحلية. لقد سمع الجميع بالتعليقات المرتابة أو المتشكِّكة التي يعلن عنها مثقفون مغاربة لحظة اكتشافهم إشارة عربية من هذا القبيل ترصد الخسائر الصهيونية؟حينما تُوجه إليهم ملاحظة مفادها بأنه ليس عاديا إيمانهم المنتظم بالمعلومات الصهيونية مقابل اعتراضهم على أخرى صادرة من بلدان تضمُّ مقاومين عربا.انتقاء،يفضح انحيازا فكريا إلى جانب إسرائيل،غير أنَّ جوابهم دائما نفسه : بعد يونيو 1967 ،لم يعد بوسعي تصديق العرب.
فعلا،فجريدة لوموند التي توجِّه رأي هؤلاء الأطر،تعلِّمهم”الواقعية والاعتدال”،ترعى رغبة الانتهاء من كل ذلك،والتطلُّع إلى “السلام”،تحفِّز وتشجِّع على نقاشات بخصوص ”التسوية”أو ”حظوظ التسوية”لما تسميه ”النزاع الإسرائيلي-العربي”.يظهر هذا المثال الثاني،حجم استفادة الصهيونية من أنساق فكر رسَّخها الاستعمار،ثم مختلف المرفقات الثقافية التقنية واللسانية للبلد مع القوة الاستعمارية القديمة، روابط تسمح بتعميم أدوات إعلام اختُرقت أغلبها من طرف الصهيونية أو تتحكَّم فيها (دون الحديث عن علاقات الهيمنة والاستغلال الاقتصاديين،حيث تشكِّل البلدان العربية بالنسبة للصهيونية قطاعا أساسيا لصرف الموارد المالية).
يقود الحديث عن تأثَّر أُطُرنا ببديهيات الفكر الرأسمالي-الاستعماري المضلِّلة،بخصوص فهمهم القضية الفلسطينية،صوب طرح القضية الاستعمارية الجديدة والامبريالية.علاوة على ذلك،سواء مايتعلق بالحكومات كما الأفراد،فمستوى الانخراط بجانب الشعب الفلسطيني،يتأمَّل مباشرة درجة العداء إلى الامبريالية،لأنَّ الوقائع أجبرت الصهيونية كي تتبدَّى أكثر فأكثر حسب طبيعتها الحقيقية :إنها ليست فقط محمية للامبريالية،ومجرد أداتها في الشرق الأوسط،لكنها أيضا طابورها الخامس ضمن أمكنة أخرى لاسيما إفريقيا.ينبغي إدراك،بأنَّ حركات التحرُّر داخل بعض بلدان إفريقيا الاستوائية،تقود حاليا صراعا تحت شعار : ”ضد الامبريالية والصهيونية”،وقد ثبت لهم اشتغال”المساعدين التقنيين”الإسرائيليين في إطار استراتجية إمبريالية تعتبر إسرائيل أداتها.
حقيقة تفضي إلى استحضار حيل أكثر حذقا وفعالية تشكِّل جزءا من الأدب الاستعماري الجديد تُعرف تحت موضوعة ”التخلف”،فاعتمادا عليها تمكَّنت إسرائيل من تحقيق الاعتراف بها،وإرسال ”المساعدين التقنيين”إلى بلدان عِدَّة،تكوَّنت أطرها (مثلما الشأن مع أطر بلداننا)في مدرسة الاقتصاد السياسي البورجوازي وإيديولوجيتيه الوصفيين بكيفية خالصة،فاستكانوا خلف الاقتناع بالمظاهر،من خلال إنجازات إسرائيل وتعبِّر عن نموذج لتسوية المشاكل وكذا ”الحلقات الشرِّيرة”الشهيرة للتخلف.هكذا،اهتموا بالشجرة التي تخفي الغابة،متجاهلين بأنَّ إسرائيل تستهلك خمس مرات أكثر مما تنتج بفضل موارد انتُزعت من مجموعة بلدان بواسطة زمرة أُطر حدث استقطاب جزء كبير منهم داخل تلك البلدان نفسها
هاهي إذن الصهيونية،المستفيد الأول مرة أخرى،من بديهيات غير صحيحة حول التخلف مثلما تتناوله صفحات مجلة”العالم الثالث”،الأداة الأكثر حذقا وفعالية وتدميرا للاستعمار الجديد (علاوة على ذلك يشرف على إدارتها صهاينة مشهورون).تعتبر هذه الأداة النموذج الأكثر وضوحا،عن قدرة تكيُّف إيديولوجيو الاستعمار الجديد مع تطور القوى التقدمية.بهدف إقناع أطرنا أكثر،وكذا “التقنيين ”عندنا،فقد رسِّخوا لديهم الواقعية،وكذا المراحل المطلوبة قصد القطع مع ”حلقات التخلف الشرِّيرة”والتأكيد في نفس الوقت على أنها قطيعة تتطلب إصلاحا زراعيا،و تأميمات معينة،إلخ.
يتعلق الأمر بإجراءات تنطلق من نفس هوية مبدأ،التكيُّف الدائم لإيديولوجيي الصهيونية مع تطور حركة الرأي المعادي لإسرائيل. تُقترح لجان للسِّلم،تستنكر النزعة التوسعية لموشي ديان،إلخ.قصد الحفاظ على المطلوب،أي وجود إسرائيل كدولة،سيقدم الإشكال ك”أزمة للشرق الأوسط”طبيعية بين دول متجاورة،وليس قضية تحرير بلد.كما أُوِّلت التداخلات بين القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية من جهة،وكذا علاقات إسرائيل مع البلدان المجاورة من جهة أخرى،باعتبارها”حلقات خبيثة”،كما الحال مع التداخلات بين الزراعة والتعليم وكذا موازنة المدفوعات لبلد “متخلف”والتي يتم تقديمها مثل ”حلقات شرِّيرة”.
تشكِّل الانقسامات العربية وكذا نزعتهم اللفظية بالنسبة للمشكلة الفلسطينية،نفس تأثير”تضخم التركيبة السكانية ”على التخلف،بمعنى التبرير،من خلال جواب حاضر في كل مكان. المبدأ نفسه :يلزمنا أولا إدانة ذواتنا،والتصدِّي بداية لمشكلاتنا.
يتوافق التبرير تحديدا مع طبيعة تكوين وكذا عقلية”التقني”الذي يريد التقدم بصدق.كيف يمكننا الارتياب في حسن نية من يقترح تأميم قطاعات الاقتصاد الأساسية و كذا الإصلاح الزراعي،إذا لم نطرح السؤال بخصوص الدور الحقيقي لهذه القطاعات ثم بكيفية شمولية إشكالية استغلال البلد ؟يستحيل التشكيك بأنَّ تأميم السكك الحديدية يفي بغرض الرأسمال الاستعماري،بحيث يواصل استنزاف المواد الأولية وكذا إدخال منتجات مصنَّعة،بينما يؤدي الضحايا أنفسهم تكلفة العجز،بمعنى جزءا من التكاليف العامة لاستغلال البلد.لانشك قط في أنَّ”الإصلاح الزراعي”بمعنى توزيع أراضي الاستعمار،يبهج دائما الرأسمال الاستعماري مادام يتواصل حصوله على المنتوجات عينها لكن بأثمنة منخفضة للغاية،مع ضمان الحفاظ على تلك الوضعية لفترة طويلة.
نفس الأمر بالنسبة لمختلف الاصطلاحات وكذا الحلول ذات المظهر الوطني والتقدمي،في ظلِّ غياب أطروحة عن جوهر القضية،تلك المتعلقة بالطبيعة الاستعمارية للنظام الاقتصادي والاجتماعي المؤهَّل ل”التخلف”.نزعت مختلف المجهودات التي يطرحها إيديولوجيو الاستعمار الجديد،نحو تغيير لبِّ الإشكالية،عن طريق تحمل مسؤولية مايحدث إلى نفس الأشخاص الذي يكابدون تحت وطأة الامبريالية ومفعول استغلالها،بواسطة دلائل”تقنية” وأرقام منتقاة.
كلمات معجم من قبيل واقعية، موضوعية مفترضة علميا،ثم عقلانية،تكشف عن أساس هذا الأدب،وقد صارت معايير تحليلية وتقويمية عند أطرنا الذين يوصفون ب”التقنيين”.لقد رأينا مفكِّرا عراقيا يكتب ”دراسة”مشفَّرة،تجزم بضرورة سعي العرب لتسوية إشكالية التخلف قبل سعيهم إلى قتال إسرائيل أو القضاء عليها. وجهة نظر غير معزولة،مادام تأويل حيثيات القضية وفق المنظور”التقني”،رقميا،أخذا بعين الاعتبار الدعم اللامشروط لإسرائيل من طرف الامبريالية الأمريكية،وقوَّة الشبكات الصهيونية على امتداد العالم،يجسِّد عنوان المسار”الواقعي”لانهزامية تعتبر حسب هذا التصور امتيازا منطقيا.
هذا الاختيار”الواقعي”بالنسبة لشخص يستبعد تماما الصراع ضد الامبريالية، ويناصر جيدا إيديولوجيا البورجوازية الوصفية،يسعى في الوقت ذاته رؤية إسرائيل مثل كيان يواجهه العرب،وليس باعتبارها قاعدة للامبريالية ضمن قواعد أخرى.حضور ثقافي وإيديولوجي للاستعمار الجديد والصهيونية معا،يمارس تأثيره الفوري حول فكر مثقفينا. موقف هؤلاء من القضية الفلسطينية،غير منفصل عن تصورهم نحو القضايا الداخلية للتحرُّر الاجتماعي والاقتصادي،وكذا الصراع ضد الامبريالية وعملائها.يلزم القول،بأنّ تداعيات ذلك،اتخذ منحى فعالا عندما شَغَلَ حقلا راكم الالتباس واللامبالاة بين طيات الحالات التاريخية والجغرافية وكذا أصداء الوقائع الخاصة بالشرق الأوسط.
ثانيا :اللامبالاة المزدرية قبل 1967 :نتيجة الفعل المباشر للصهيونية،منذ عشرين سنة،يضاف إلى سوء فهم الظواهر الداخلية في الشرق الأوسط.لم تكتف الصهيونية،بالاستفادة من الحضور الاستعماري الجديد،وكذا النتائج المباشرة حول فكر وموقف أُطرنا،بل خاضت ورسَّخت مشروعا للتَّسميم أكثر فورية وأدركت كيفية توظيف الشروط الخاصة بشمال إفريقيا،قصد رعاية اللامبالاة حسب كل أشكاله حيال الشعب الفلسطيني،وبعد 1967 إذكاء الالتباس و المواربة.عاملان أساسيان،ساعدا بهذا الخصوص، بكيفية مباشرة :
* نشاط ساعدت على بلورته الأوساط الفرنسية الموصوفة بكونها يسارية،التي دعَّمت الحركة الوطنية من أجل الاستقلال.
*تحييد شمال إفريقيا،وإبقائها على هامش ظاهرة التحول الإيديولوجي والسياسي، الذي ساد الشرق الأوسط نتيجة خلق دولة إسرائيل.
ردود الأفعال نحو صرخة أحمد بن بلة(إنَّنا عرب،عرب،عرب)تكشف إلى أيِّ حد، أمكن هذين العاملين تخدير أطرنا طيلة عشرين سنة،وتكريس الاحتقار نحو ذواتنا.
أ-الفعل المباشر للصهيونية بواسطة اليسار الفرنسي.
سأكتفي بإظهار تطور مناهج التضليل منذ خلق إسرائيل غاية حرب .1967
،أعقبت الحرب العالمية الثانية،وأتاحت المجال أمام إظهار إسرائيل كعنصر للتقدم بجانب منظومات الإمارات الإقطاعية المنتمية إلى القرون الوسطى.البلدان الاشتراكية نفسها، تظاهرت بكونها مقتنعة بذلك نتيجة اعتبارات استراتيجية ودبلوماسية معروفة جدا.
لاشيء يمنع الأدب والصحافة المعروفة بكونها يسارية،كي تتغنى بمزايا ”الاشتراكية الأصيلة”وكذا الحالة المجردة التي أقامها نموذج الكيبوتس.انقاد طلبة شمال إفريقيا خلف ذلك،كي لايكشفوا قط أصل إسرائيل وكذا الكيبوتسات،حيث “اشتراكيتها”ليست شيئا ثانيا سوى تدبيرا ماديا اقتضته وظيفة الكيبوتس منذ إنشائها.
حدث توطيد الصهيونية بالقوة،ولاعلاقة أبدا لأساليب التنظيم لديها مع ”الاشتراكية”،بل تخضع صيغ الإنتاج والاستهلاك لضرورات عسكرية.
ينبغي لهذه الأسس امتلاك إمكانية البقاء،مع التطلع نحو أن تصبح عديدة بما يكفي، وانتظار تبلور فرصة خلق دولة إسرائيل ثم تطبيق مختلف مناهج التنظيم المتعلقة بحياة داخل ثكنة من خلال يافطة بلد ضمن سياق التطور الاستعماري.بتحقُق المخطَّط،واحتلال فلسطين،يلزم بداية جَعْلنا ننسى جوهر الاستعمار نفسه.بكل بساطة،خلق تبرير ”الاشتراكية الأصيلة”المستلهمة من داوود وعدالة سليمان !مما يتيح في الآن ذاته الحفاظ على أسطورة إنكار الذات والفكر الريادي ثم رعاية ذلك.
تأميم قناة السويس،وكذا مافعله انحطاط روَّاد خدمة الاستعمار الفرنسي-الانجليزي من خلال عدوان 1956 على مصر،أبان عن الطبيعة والوظيفة الحقيقية لهذه الاشتراكية المفترضة.يلزم تغيير الموضوع،وفي الوقت ذاته صرف الانتباه عن الهدف الحقيقي للعدوان،الذي رمى إلى القضاء على النظام الوطني الوحيد الذي استطاع التصدي لمنظومة الحكم القروسطية والفيودالية ثم شروعه في بلورة سياسة تقدمية.
هكذا بدأت المرحلة الثانية،المتمثِّلة في قدرة اليهود على تحويل الصحراء إلى فردوس،بجوار هؤلاء العرب الجبناء والعاجزين،مثلما انطلقت في نفس الوقت الحملة بشأن الأقليات اليهودية في البلدان العربية.
عندما طرح المهدي بن بركة تصوره عن إنشاء فرع لحقوق الإنسان في المغرب، جاء جواب دانيل مايير رئيس الرابطة الدولية لحقوق الإنسان،مؤكِّدا على شرط أولي أساسي :أن يشجب أولا،الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،تقييد حقِّ خروج اليهود المغاربة،ويطالب بمنحهم جوازات السفر دون تمييز أو إشارة ”ذات خاصية دينية”.
للإشارة،فأغلب المثقفين اليهود المغاربة،الذين أعلنوا موقفهم الرافض للصهيونية شنُّوا حملة دائمة قصد تسهيل الهجرة المكثفة ضمن مبرِّر ”المبادئ”.اقتضى الوضع خنق الديمقراطية كليا داخل بلدنا،مما يعيد التساؤل حول مختلف جوانب سياسة التحرُّر،حتى يتم تصدير اليهود المغاربة نحو إسرائيل بكيفية ديمقراطية جدا وعلى نطاق واسع (المراهقين أولا،الشباب،الآباء فيما بعد انطلاقا من مخيمات التجمع).
في تونس،لم يكن المسؤولون محتاجين إلى تدخلات المجلس اليهودي العالمي وكذا المساومة الأمريكية قصد السماح بهذا التصدير وتشجيعه(بالتأكيد قصد إزعاج عبد الناصر !).
المرحلة الثالثة،فيما يتعلق بتكييف البروباغندا الصهيونية الموجَّهة نحو بلداننا،عندما ضاعف”المعتدلون”إعلانات”واقعية”،توحي بالامتنان من طرف إسرائيل نتيجة مساعدتهم على توطيدها من خلال سلبية تواطئهم أو نجاعة سياستهم المنحازة إلى صفِّ الامبريالية.خلال هذه المرحلة،الموضوع ليست قط اشتراكية الكيبوتسات أو عبقرية اليهود التي جعلت من الصحراء فردوسا،بل تعلَّق الأمر برثاء مزدوج يمكن اختزاله كالتالي :
*حول البلدان العربية،التي تستنزفها النفقات العسكرية بدل الاهتمام بمشاكل ”التخلف”.
*حول إسرائيل،هذا البلد الصغير لبناة يتصفون بالشجاعة، محاطة بأعداء مسلَّحين من طرف موسكو.
منذ عدوان 1956،توالى سقوط منظومات الحكم الإقطاعية الواحدة بعد الأخرى. ذلك أنَّ الامبريالية عجزت عن تحديد سياسات مختلف أنظمة المنطقة،ولم يتمكن المسؤولون الصهاينة وبكيفية سهلة جدا ودون رادع تغيير مجرى مياه نهر الأردن.هكذا،بدأت التعبئة من أجل عدوان 1967،عامين قبل ذلك،أمام تزايد الأنظمة التقدمية في مصر،سوريا، العراق، والجزائر والتي طرحت الإشكالية الحقيقية للمرة الأولى،تحرير فلسطين من طرف الفلسطينيين أنفسهم.
لم ينتظر الفلسطينيون غاية تلقِّي الاقتراح،ذلك أنهم بادروا بداية يناير 1965،إلى إطلاق شرارة المقاومة المسلحة عبر تفجير تلك المنشآت التي خُصِّصت لتحويل مياه نهر الأردن.لكن غاية اللحظة،لازال تمسُّك أطر شمال إفريقيا بالمقولات الصهيونية التي أشرت إليها سابقا،لاسيما أنهم يجدون بين طياتها تأكيدا لتقييمهم العام الذي يزدري بلدان وشعوب ومسؤولي الشرق الأوسط.
ب) عدم استيعاب الظواهر الداخلية للشرق الأوسط :
بعيدا عن الشرق الأوسط،لم يختبر الشمال الإفريقي ظواهر التحوُّلات التي هزَّت الشرق الأوسط منذ صدمة.1948ظواهر لاندرك عنها سوى معطيات خارجية وسلبية، كما تقدمها الصحافة الغربية المؤيِّدة للصهيونية.تعكس هذه الظواهر،تخطيطيا ثلاث تيارات :
الأول،يحيل على ضباط شباب،خبروا واقع الجبهة الفلسطينية،ثم أدركوا بأنَّ المسؤولين الفعليين عن خلق إسرائيل،الإقطاعيون الخونة في السلطة،معطى عبَّرت عنه صيغة ملائمة للغاية”إسرائيل في القاهرة”.لذلك،أمسكوا بالسلطة عقب انقلابات عسكرية،بينما تميَّز تكوينهم السياسي والإيديولوجي بالبساطة،لقد سعى هؤلاء الضباط الشباب المصريون،ثم العراقيون والسوريون،أن يجعلوا من القضية الفلسطينية،قضية دولة للجيش الرسمي.هكذا،سقطوا في فخِّ العدو،بحيث انصبَّت مساعيهم على طرح القضية كصراع بين البلدان المجاورة،غاية نسيان وجود الشعب الفلسطيني.دافعت مفاهيم تلك المجالس العسكرية وقادته،صوب تقبُّل الحركة الفلسطينية وتشجيعها،لكن شريطة الاستمرار تحت وصايتهم،واحتفاظهم بالمبادرات وكذا توقيت تنفيذها،لحظة يلزمها طبيعيا انتظار التنفيذ من طرف جيوش مدرَّبة،إلخ.
الظاهرة الثانية،تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين،وإن فقدت حاليا أهميتها،لكنها شكَّلت خلال سنوات 1948 و1960،تيارا قويا جدا وفعالا للغاية.تبنُّى أعضاؤها القضية حسب مفاهيم دينية،كواجب ديني يقتضي صراعا دائما،وإن تبدَّى السعي بكيفية غير منظَّمة وميئوس منها.اهتدت بها تدريجيا مبادراتها المتبنَّاة كي تتخذ موقفا مناهضا للأنظمة الحاكمة القائمة حديثا،بالتالي الالتجاء إلى أسلوب العنف مع إهمال القضية الفلسطينية. الامبريالية،المنتبهة لهذه الحقيقة،لم تفوِّت التدخل قصد تشجيع هذا الاتجاه ووضع ”مستشاريها التقنيين”بجانب قادة الحركة الذين انتهى بهم المطاف كي يصبحوا عملاء يقظين للامبريالية من المحيط الأطلسي غاية أندونيسيا.
الظاهرة الثالثة،مرتبطة ب”الحزب الاشتراكي البعثي”.حاول مؤسِّسه ميشيل عفلق،طرح القضية الفلسطينية في خضم صراع شامل إيديولوجي وسياسي على مستوى العالم العربي بحيث يؤدي انتقاله إلى الاشتراكية التحرُّر من الإقطاع والصهيونية والاستعمار.تأسَّست الاشتراكية البعثية،على مرجعيات مجد سابق،وترفض مبدئيا حقائق الاشتراكية العلمية،فكان عليها هيكلة نفسها بلا شك على منوال جماعات شبيهة بتنظيم الكاربوناري(إيطاليا)،وخلايا نصف سرِّية والتأثير في فئات اشتراكية محدودة،لاسيما الأنتلجنسيا والضبَّاط.لكن،عندما تقرَّر الإعلان عن هوية الحركة على مستوى مجموع العالم العربي،بادر حينها مؤسِّسو البعث السوريون كي يحدثوا في عين المكان فروعا للتنظيم داخل كل البلدان العربية.
تباينت وجهات التيارات الثلاث،بينما اكتفى الشيوعيون العرب بإدانة ”البورجوازية الصغرى”الانتهازية،سواء من اليمين أو اليسار.باستثناء العراق،المتقاربة مع الاتحاد السوفياتي،فقد بقيت ظاهرة عارضة بحيث ارتكزت أمميتها البروليتارية منذ سنة 1948،على تبرير الدبلوماسية و الاستراتجية السوفياتيتين.
لكن رغم السجالات والصراعات التي تعارض بينها،تلتقي تلك التيارات على مبدأ مقاومة الإقطاعية،فقد ساهم كل واحد منها بنصيب فيما يتعلق باستئصال المنظومات الإقطاعية،بحيث لم يصد منها سوى السلط التي تميَّزت بيقظتها وتكتلها ثم تحالفها مع الامبريالية.
نستعيد فقط من مختلف ذلك،المعطيات البارزة والسجالات وكذا الانقسامات. أُوِّلَت هذه الانقسامات باعتبارها ملازمة للذهنية العربية،كما لو بوسع إقطاعيٍّ أجير لدى الامبريالية الارتباط ذات يوم بحركة تحرُّرية.الوقوف عند المظاهر الخارجية،جعل أطر شمال إفريقيا تعتاد على تناول الشرق الأوسط مثل كتلة واحدة،بالخلط بين الشعوب والأنظمة،والاقتناع ثم الاغتباط ب”تفوُّق ذهني مختلف”عن ذهنية عرب الشرق الأوسط العاجزة عن تمثُّل العقلانية والديكارتية !مادام هذا العربي،لم يسمح لنفسه بالتأقلم مع اليسار الفرنسي والثقافة الاستعمارية الجديدة،الملتئمين ضمن نفس التضامن الفعال مع الصهيونية.الموضوعية بالنسبة لهذا التصور،كونه أدرك حيثيات القضية الفلسطينية،تماما، ضمن الذاتية الوطنية،والتبرير فقط من خلالها.
احتاج الوضع إلى حرب 1967 كي ينبعث التساؤل من جديد،لكنه تساؤل ظل جزئيا جدا مثلما قلت،استحال عليه اتخاذ صيغة مختلفة في ظل أشكال فكر الثقافة الرأسمالية-الاستعمارية،ارتباطا بمخطط التكييف الدائم من طرف الصهيونية مباشرة،أو بواسطة اليسار الفرنسي،ثم أخيرا منظومة حقائق العالم نفسها،والتي لايشغل اهتمام أطرنا سوى جوانبها الظاهرة والسلبية.
حرَّض انطلاق شرارة المقاومة الفلسطينية وكذا تطورها،على مسألة إعادة النظر في الأفكار القائمة،بيد أّنَّ الالتباس استمرَّ جاثما على الأساسي،مع تداعياته الفظيعة، مادام الأمر لايتعلق بتضامن فكري وعاطفي،لكن بدموية معركة يومية.
ثالثا : العناصر الجديدة للالتباس ونتائجها العملية الراهنة
قاربت طويلا العناصر الإيديولوجية والثقافية الدائمة التي تحدِّد طريقة التفكير عند أُطرنا ويبيِّن ما الذي تستفيد منه الصهيونية غاية الوقت الحالي.بعدها،انتقلت إلى رصد الموضوعات التي طوَّرتها الصهيونية بواسطة اليسار الفرنسي قبل 1967،ثم المبررات التي تجعل أطر شمال إفريقيا يكتفون بالوقوف ضمن إطار المناحي الخارجية والسلبية، لظاهرة عميقة ومحرِّرة خلخلت الشرق الأوسط منذ هزيمة 1947 – 48 .
سأحاول الآن،تحليل النتائج الحالية والملموسة لتلك التعبئة الإيديولوجية المتواصلة على امتداد عشرين سنة،والتساؤل عن سبب بقاء الأغلبية الكبيرة من أطرنا ذوي التكوين الثقافي الفرنسي على هامش المعركة ضد الصهيونية وإسرائيل،مع إذكاء سجالات لانهائية،حول أخطاء الماضي،القريب والبعيد،وكذا علاقات القوة،”التسوية”،حظوظ التسوية،إلخ
أ- أولا المبدأ المحرِّك للتحرير الذي ينطوي في ذاته على الحلِّ و سبله.
قلت بأنَّ حرب 1967،ثم التطور السريع والمثير للمقاومة الفلسطينية،أدَّيا إلى إعادة التساؤل من جديد،مع التأكيد بأنَّه تساؤل لم ينصب على الجوهري.يتعلق الأمر في الواقع، بنفس التطور الذي خضع له التطور العالمي والغربي،تطور اكتسى وتيرة سريعة بالتصرف المتعجرف لإسرائيل والصهاينة داخل بلدانهم.
ماأسميه بالجوهري،يكمن في الالتباس الكامن دائما حول الموضوع الذي ننعته بلا تمييز القضية الفلسطينية،أزمة الشرق الأوسط أو الصراع الإسرائيلي العربي.بينما يستمر هذا الالتباس قائما داخل فكر العربي،بالتالي لن يخرج موقفه عن منطق الإساءة للثورة الفلسطينية،ضمن نفس سياق مايفهمه جيدا الصهاينة والإقطاعيون،حيث تضافر مجهوداتهم التي تنزع نحو تصنيف”أزمة الشرق الأوسط”باعتبارها مجرد صراع بين دول متجاورة.
قصد تقديم فكرة ملموسة عن النتائج الفورية والبعيدة عن التباس حظي بالعناية،سأنطلق من النموذج الفيتنامي.كل الذين ساندوا أو ادعوا مساندتهم للشعب الفيتنامي في مقاومته لم يطرحوا أبدا ”الواقعية”على طاولة النقاش أو ملاءمة اختياراته وأفعاله.اكتفى الجميع بتثمين قرارات وتضحيات بطل الشعوب،وقد استندت ملاحظتهم جميعا على ارتباط بالمبدأ الملهِمِ :تنتمي فيتنام إلى الشعب الفيتنامي فقط،وإن اقتضى السعي تضحية الشعب برمته.ينطوي هذا المبدأ على ”الحلِّ”وكذا الوسائل والتضحيات اللازمة،بينما ينصبُّ النقاش على ”الحلول”العملية،التكتيكية،التي تستدعي تنظيم وتطوير الصراع ضد المعتدي.حلول، مستلهمة من معرفة جيدة بوسائل ومناهج العدو،لكن أيضا الإيمان بعدالة القضية مما يحافظ ويعضِّد إرادة الإقناع.
ينطوي المبدأ في ذاته على ”الحلِّ”وكذا وسائل تحقيقه.حينما يبلغ الصراع مرحلة متطوِّرة،يشرع المعتدي في اقتراح نقاشات بخصوص”الحلِّ”وتطويرها،وكذا طريقة الامتثال إلى شريعة الشعب المقاوِم دون أن يخسر الأخير المواجهة.هكذا،تتزايد الانشقاقات الداخلية ضمن جبهة المحتل،حيث تتجلَّى خطوط الحدود الفاصلة بين”الحمائم والصقور”، “الوعي الفرنسي والحضور الفرنسي”،”الوعي الصهيوني والحضور الصهيوني”.
لكن”الحمائم” تنتمي إلى المعتدي،وتفكِّر في مصالحه العليا على المدى الطويل،مثلما تعكسه حالة الحركة التقدمية الموصوفة بكونها مناهضة للصهيونية التي يعبِّر عنها مكسيم رودنسون وآخرون.يكمن دور هؤلاء في التحوُّل بنقاش داخلي ضمن معسكر المعتدي،والانتقال به إلى جهة الضحية،بجانب العرب،وقد نجحوا تماما بهذا الخصوص.
هذا مايسمى بقَلْبِ معطيات القضية،بطرح سؤال”التسوية”،على الضحية وليس اللصِّ.الشعب الذي لم يسمع بمكسيم رودنسون ومجلة ”عناصر”لن يترك نفسه للانخداع،يل سيبادر إلى تهيئ لوائح بأسماء الآلاف(أربعة عشر ألف مغربي)قصد الذهاب إلى القتال.كما فعل الطبيب المصري البالغ سبعة وعشرين سنة الذي قتل في ضواحي حيفا،أو الأمير الكويتي وقد أدرك مستوى من القناعة بحيث ترك أولاده،وثرواته وحريمه قصد خضوعه إلى تدريب والذهاب إلى فلسطين مع تعهده بأن يموت هناك أو يعود ثانية بجواز سفر فلسطيني.
سؤال الاقتناع أولا :فلسطين للفلسطينيين،المبدأ المحرِّك المنطوي في ذاته على” الحَلِّ”وكذا وسائل بلوغه.إشكالية الارتباط بالمبدأ،والذاتية الوطنية،ومشاعر الكراهية نحو المحتلِّ وجريمته،دون ذلك يظلُّ المنطق،والتحليلات التكتيكية مجرد طريقة تراكم ضمن إطار موقع الضحية نقاشات مملَّة لكنها تخدم تطلّعات المحتلِّ.يحضر صنف هذه النقاشات، عند الأطر المغربية التي تحتفظ على وضعية مشاهد يقظ و مرتاب جراء وعيه بكونه عربيا،ثم يقلّ خجله أكثر فأكثر بخصوص هذه الهوية”إنَّنا عرب،عرب،عرب”.
ليس نحن من يُفترض أنه يمتلك جوابا عن سؤال مطروح على الصهيونية والذي يهدِّد الوجود الإسرائيلي،ولا كذلك الخوض في نقاش ”الحلِّ”عن إشكالية تهمُّ المحتلّ، ونفرض على الثورة الفلسطينية الإقرار بهذا ”الحلِّ”.فلسطين للفلسطينيين،مع مختلف النتائج المرتبطة بتحرير بلد محتلّ.لذلك،يلزم على المستوطن اتخاذ قرار بضرورة البقاء أو الرحيل،وتقديره مدى استعداده أو قدرته على التأقلم مع الوضعية الجديدة ومختلف تداعياتها.لماذا سيختلف المستوطن اليهودي الذي يقيم داخل فلسطين،عن الذي تواجد قبل قرن من ذلك داخل الجزائر أو جهة أخرى؟
من الطبيعي أنَّ الأوساط الحرَّة في أوروبا الغربية،مثل جان بول سارتر،أرادت توظيف متغيِّرات باسم الواقعية أو تباينات ”السياق”.لقد أشرت بداية إلى مبرِّراتهم الفكرية والتاريخية،التي تجعلهم يتغاضون عن التعارض بين مثالي هوشي منه و موشي دايان،وبالتالي شخصنة مسألتي الحرية وكذا الاحتلال الاستعماري.لكن،عندما أبرزت المقاومة الفلسطينية،القضية الحقيقية،من جوف الوقائع،وأضحى التناقض وتداعياته الفعلية،صارخا جدا،وفاضحا للغاية،اكتفوا حينها باللعب على وتر الكلمات،والتحدث عن”القضية الفلسطينية”مثل جانب وكذا عنصر ملحق ب”أزمة الشرق الأوسط”،في خضم”النزاع الإسرائيلي-العربي”.
نتيجة تأثيرهم المعرفي،فقد فرضوا علينا ضمن صفوف أُطرنا،نقاشات لانهائية حول ”الحَلِّ”. بدأ تداول أفكار،من قبيل أنَّ الوضع في فيتنام لم يكن بسيطا للغاية،فلسطين ليست هي فيتنام،و”العرب”ليسوا بالفيتناميين،لأنهم يفتقدون لتجربتهم وكذا فضاء غاباتهم، إلخ.من جهة أخرى،لاينتظر”شباب”أمريكا سوى يوم وموعد الانطلاق،إنهم ليسوا مثل يهود فلسطين الذين لهم ”خلفية علي البحر”.أخيرا،لم يكابد الفيتناميون التدخلات،والانقسامات بين أنظمة الحكم والأحزاب في منطقة الشرق الأوسط. بناء عليه،ينبغي البحث عن “التسوية” عبر مشاكل جامعة الدول العربية،و استراتجية الاتحاد السوفياتي،إلخ،لكنها معطيات تغيَّرت،حينما صارت المقاومة الفلسطينية ”عنصرا جديدا”،تبلور في خضم حرب 1967، وحالت دون تفاوض الملك حسين…
تنشأ الحلقات القذرة،تأخذ شكلا،ثم جراء انسداد الأفق،تُستلهم بلا وعي معايير التأويل المتجلِّية على امتداد عشرين سنة من التعبئة الذهنية،وتشعر أصحابها بارتياح الضمير من ثمة الانزواء ضمن دائرة المتابع المنتبه والقلق في نفس الوقت.
لذلك ألححتُ،على أنَّ مقاربة التشكيك التي أثارتها حرب 1967وصارت عاجلة نتيجة تطور المقاومة الفلسطينية،لازالت جزئية ولم تتحوَّل بعد إلى كنه القضية.بما أنَّ المبدأ المحرِّك غير حاضر كمسلَّمة للانطلاق،ونواصل بحث ونقاش حلول أخرى غير الذي يتضمنه هذا المبدأ ذاته،سنبقى عربا ضمن زمرة تقدميي أوروبا،بحيث يخترق التقدمي صفوف العرب كي ينتج لهم خطابا قائما سلفا، يلزمه البقاء متداولا ضمن صفوف المحتلِّين. لكن،الإشارة هنا فقط إلى الجانب الفكري للقضية.
ب) نتائج عملية :
أؤكِّد قبل كل شيء،بانتفاء مختلف معاني الانخراط الفكري بجانب الشعب الفلسطيني، إذا لم يترجمه الحد الأدني من المشاركة على جبهة الدعاية وتجميع الموارد المالية،وكذا صنيع أكثر ضرورة من السابق،يستهدف حصر الاهتمامات والأنشطة الصهيونية داخل البلد قصد التنديد بها والتصدِّي لها.سعي،يسائل من الوهلة الأولى”قضايا دقيقة حول السياسة الداخلية !”.للتذكير،ترتبط مباشرة درجة الالتزام إلى جانب الشعب الفلسطيني،مثلما تشكِّل أساسا جوهريا،بين طيات الانخراط الفكري والعملي مع حركة التحرُّر داخليا وخارجيا (يتعلق الأمر في نطاق حالات معينة،بمصالح ترعب السيطرة الصهيونية على بعض قطاعات النشاط الاقتصادي).
مع الحالة الفلسطينية،يستدعي الارتباط بالمبدأ المحرِّك لكل فعل وطني تحرُّري، مفهوما شاملا،عبر اتخاذ موقف شامل إزاء الإقطاعية العربية الخاضعة للامبريالية،بحيث أعطى تقاعسها المشترك مبرِّرا معينا كي تتوطَّد إسرائيل.
لقد تفادى الملك حسين خلال ”القمة الإسلامية”،ذكر اسم الشعب الفلسطيني أو دعم حقِّه،كما رفض حديث مندوب الشعب الفلسطيني عن أماكن محفوظة للأردن،مما يستدعي الاختيار بين معسكرين،مفهومين،وكذا مجموعتين تتعارض مصالحها. معسكر جلِّ إقطاعيي وكذا رجعيي العالم العربي،والذين حوَّلوا بعد حرب يونيو 1967،الملك حسين إلى “بطل”وأسقطوا مختلف تجليات كراهيتهم على عبد الناصر،وانكبُّوا على تقديم ”أزمة الشرق الأوسط”مثل حقل صراع بين دول متجاورة.
انصبَّت مختلف مجهودات إسرائيل نحو المحافظة على نفس الانطباع والالتباس،بمضاعفة العمليات على الحدود،والترويج لمبدأ التفاوض،مما يسمح في نفس الوقت إلى :
*تجنُّب النقاش حول وجود إسرائيل نفسه،وتقديم الثورة الفلسطينية كظاهرة عارضة،ومجرد فعل ملحق لحرب المواقع أو الاستنزاف التي تخوضها الجيوش العربية الرسمية.
*تبرير مزاعمها التي تتناسب مع أبعادها الاستراتجية وتوفير حدود آمنة ومضمونة،مع مطالبة الدول العربية المجاورة باستعادة عافيتها من خلال القيام بدور شرطيِّ الصهيونية ضد الفلسطينيين،وضع يقتضي اعترافا بإسرائيل من طرف الدول العربية.
*مضاعفة الضربات على امتداد خطوط وقف النار،قصد إزاحة مشروع التحرير الذي ينهض به الشعب الفلسطيني،إلى مرتبة ثانية،تحت غطاء”العدوان ضد البلدان العربية”.
تواصل البلدان العربية المحكومة بالإقطاع،الامتثال لمنطق اللعبة السائدة،وتقييد “طموحاتها”بخصوص إنهاء”عواقب العدوان”،واستمرارها على نفس الدرب،يمنحها إمكانية وسمها بالحداثة أو الاعتدال.
يضاف كل ذلك،إلى اعتبارات السياسة العالمية،وتوافقات القوى الكبيرة،ثم استراتجية الاتحاد السوفياتي،المعروفة جدا،بحيث يتمُّ تعضيد مختلف التجليات التي تضفي على العداوات مظاهر نزاع نشب بين دول مجاورة.لذلك،فالدولة الإسرائيلية موجودة،وهي بصدد خوض حرب مع الدول العربية المجاورة،وتواصل الحصول بسخاء من الامبريالية وكذا الشبكة الصهيونية العالمية،على الأسلحة والمال كي تواجه جيرانها.
أيضا،هل ينبغي التأكيد،على أنَّ الوضعية الراهنة اختلفت جذريا عما كان سائدا على الأقل قبل ثمانية عشر شهرا،في خضم سياقات علاقات وروابط القوة بين الدول.تتحول سريعا علاقات القوى العسكرية،كمِّيا وكيفيا،ونحن نتذكَّر بهذا الخصوص،افتقاد الجيش المصري لمقوِّماته، قبل عامين،ثم انتقل تدريجيا وبفعالية صوب تبني استراتجية هجومية.
أن تكون حرب استعادة المواقع أو الاستنزاف،فلا يندرج تحرير فلسطين،ضمن شؤون الجيوش العربية الرسمية،سواء بالنسبة للمصري، السوري، العراقي، الجزائري، السوداني أو الليبي.أيضا،لايمكن لمنظومات الحكم في هذه البلدان،ولا أيِّ حركة تقدمية عربية،تبنِّي دعوة”التخلُّص من آثار العدوان”،بمعنى بلوغ الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة1967 وترك الشعب الفلسطيني لمعانقة مصيره.على العكس من ذلك،سيندِّدون بمن يدعو إلى ذلك أو يتكلَّم عن”تحرير الأماكن المقدسة”،بهدف الاستمرار في تكرار نفس الخطاب و في الوقت ذاته التغاضي عن خاصية النزاع المناهضة للامبريالية.
تقع على عاتق الشعب الفلسطيني مسؤولية تحرير وطنه،ومعه الأماكن المقدسة الموجودة هناك.يتمثَّل الدعم أولا في الاعتراف بحقِّ تحديد وسائل ومناهج التحرير،مع العلم،بأنَّ تحرير فلسطين مسألة كل عربي كواجب قومي ووطني،من هنا وجوب الإقرار للشعب الفلسطيني الذي طرد من أرضه،الحقّ في اعتبار كل جزء من الإقليم العربي مثل أساس لتحضير الصراع وتنظيمه ماديا وعسكريا.وضع يفترض،بأنَّ قضية العلاقة بين تحرير فلسطين من طرف الشعب الفلسطيني،ثم علاقات الحرب التي تعارض بين الدولة الإسرائيلية مع الدول العربية المجاورة،طرحت كالآتي :
*مكمن العدوان الحقيقي في وجود الدولة الإسرائيلية،أصل العدوان الأول الذي خلق شرارات الصراع الحالي(كيفما كانت التسمية).
*كان هذا العدوان،وسيبقى جزءا من الاستراتجية الامبريالية،التي تطبق في الشرق الأوسط قصد خلق وتأبيد وضعية ملائمة لاستغلال الثروات البترولية.
*تفترض حرية فلسطين اختفاء دولة إسرائيل،بمعنى الصراع ضد الامبريالية على مستوى العالم العربي.
طرح القضية وفق هذه المفاهيم ،ليس بتطرف، ولا اعتدال، ولا واقعية، ولامثالية. إنها بكل بساطة،موضوعية أولية تلاحظ وقائع لاجدال حولها وبلا منازع، ترتكز على التذكير ببديهيات متجرِّدة عن التضليل. تخلُّصت، قبل كل شيء،من تلك المرتبطة بالفكر الاستعماري الجديد،والنظر إلى الظواهر الداخلية في الشرق الأوسط دون الاحتفاظ فقط على المناحي الخارجية والسلبية.
لقد أسهبت في الحديث عن كل تلك القضايا،قصد إظهار بأنَّ حرية فلسطين،الحرية بكل بساطة،تقتضي أولا حرية الأفكار،مما يفترض مبدئيا إعادة استفسار شمولي حول مفاهيم تستند على الإيديولوجية الوصفية البورجوازية.
في نهاية المطاف،مسؤولية الأطر وكذا تقاعسها نحو القضية الفلسطينية،تشكل جزءا من موقف شامل،فكري وعملي تتعلق بحركة التحرُّر عامة.
(*) عن صفحة فيس بوك الكاتب سعيد بوخليط