مقدمـــة :
أمام ما يشهده العالم المعاصر من نزاعات ناتجة أساسا عن السعي إلى بنائه وفق تقابل بين الإيجاب والسلب، بين الخير والشر، معي أو ضدي، صديقي أو عدوي، إلخ؛ لم يعد هناك من يجادل في أن حل مختلف المشاكل ووضع حد لها ـ أو التقليل منها على الأقل- لتباين المواقف بين مختلف الأطراف المتصارعة يتوقف على اعتماد الحوار النقدي ونهج سبيل الحجة المقنعة.قد يعتمد في الحوار على التعاون لحل النزاعات، لكنه قد يتخذ طريق الغلبة والقهر والإكراه.وبما أن مختلف أطراف النزاع أضحت مقتنعة بوجوب التخلي عن حل المشاكل بالصدام والعراك والخصام، فقد أصبحت سبل التحاور والتفاوض المستندة إلى العقلانية والتفكير النقدي السبيل الأنجع للإقناع والاقتناع.وعلى هذا فالدخول في الحوار الإقناعي يتطلب البدء باستحضار مبدأين أساسيين هما:مبدأ التعددية ومبدأ الحق في الاختلاف.وهو ما يعني أن تلافي منزلقات الحوار يقتضي البدء بتحديد الشروط الضابطة لمختلف التفاعلات الحوارية وعلى رأسها الحق في الحوار القائم بدوره على الحق في الاختلاف.ليصبح الحوار وحق الاختلاف المنطلقين الأساسيين لقيام حوار فاعل وفعال يصون الآخر ويعترف به وبأحقيته في أن يتمتع بنفس الحقوق.فالحوار هو في ذات الوقت مسلك للتفاهم وسبيل لشرعنة التعددية والاختلاف،ومن ثم وسيلة لاستبعاد كل أشكال الاستعباد والتسلط والقهر، ومحو آثار الفرقة والفتنة.إنه السبيل الأوفق لتجاوز العديد من المشاكل والعوائق التي تطرح أمام الفرقاء.
يتضح من هذا أن الحوار وسيلة لضبط المتفق عليه والمختلف فيه بين مختلف أطراف النزاع.فلا يمكن التسليم بمشروعية التعددية وبمبدإ الحق في الاختلاف وما يترتب عليهما إلا بالحوار العقلاني الهادئ القائم على التعاون وتدبر المطلوب بطرق عقلانية ونقدية.إنه وسيلة لإقامة الحجة فيما اختلف فيه الناس سواء في الرأي أو المعتقد.ولا سبيل إلى تحقيق هذا الأمر إلا بترسيخ ضوابط الحوار النقدي في كل مجالات الحياة.
1- التدليل بين السبل المشروعة وغير المشروعة :
يتطلب تحصيل الأمور المشار إليها التمرس على مختلف آليات التناظر سواء المشروعة التي تستهدف الوصول إلى الصواب،وغير المشروعة التي نسلكها لصد كل من سولت له نفسه اعتماد التغليط والتضليل والتدليس لتحصيل مطالبه.فمادام كل تحاور يتطلب وجود طرفين على الأقل، فهذا يقتضي من كل طرف إدراك طبيعة السؤال وتدبر الجواب؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يقتضيه الحوار المشروع من كل من السائل والمجيب.ولن يتحقق هذا إلا باستحضار اللغة التي تشكل الركن الثالث إلى جانب المتكلم والمخاطب.فالوظائف التركيبية والدلالية والتداولية تلعب دورا أساسيا في تحقيق الكفاية التدليلية والتبليغية والإقناعية للخطاب.وهو ما يميز اللغة الطبيعية عن باقي الأنساق السميائية الأخرى، في الوقت الذي تمكننا من بناء الخطاب وفق طرق تدليلية و تبليغية متعددة ومتنوعة.لهذا نجد أن من الخطاب ما هو محكم وما هو متشابه، ما هو ظاهر
و صريح وما هو ضمني ومقتضى ومستلزم،إلخ.هذا التعدد الوظيفي هو ما قد يستغله المغالط قصد التضليل والتغليط.فقد يأتي بحجة مقبولة ظاهريا لكنه في الباطن يراعي حجة أخرى وغرضا آخر.همه في ذلك أن يفقد الخطاب مقاصده ليدخل الشك والريبة في قلب محاوره.ومن ثم وجب الاحترازمن استعمالات خاطئة وخاضعة للغلط أوالتغليط.فعدم احترام شروط الخطاب وضوابطه تجعله غير قادر على تحصيل الكفاية التدليلية والتبليغية المتوخاة منه.فالجانب التدليلي يتطلب من المتكلم اعتماد منهجية واضحة ومتسقة وتامة، في الوقت الذي تقتضي الكفاية التبليغية استحضار قدرات المتلقي ووضعه، مع اعتماد سبل تبليغية تتوخى الإقناع بطرق تتناسب وقدرات المخاطبين.ذلك أن صحة التدليل وسلامة التبليغ يمكنان المخاطب من إدراك مقاصد المتكلم بشكل كاف لا شبهة فيه. وبالتالي يصح الخطاب من جهة المقصود والمفهوم معا، فيحصل المطلوب منه. لهذا يُستحب استخدام تعابير جلية ومحكمة، مع الاستعانة أحيانا بمجموعة من العوامل خارج ـ لغوية التي تجعل الخطاب يُحصل الكفاية الإقناعية المتوخاة منه.إن مراعاة وضع المتلقي وحاله يعد من شروط حصول الفهم.وهو ما يعني أن طبيعة المخاطب وقدراته التحصيلية قد تدفع بنا في عمليتي البناء والتدليل إلى اعتماد آليات محددة وانتهاج مسالك معينة تتوافق وقدراته.فقد نعمد أحيانا إلى إدراج عدد من المقدمات التي تكفي لتحصيل النتيجة المطلوبة؛ وقد يكثر هذا العدد أو يقل بحسب المخاطب.وقد نلجأ إلى طي بعض المقدمات أو السكوت عن بعض المقتضيات التي يمكن أن تستلزمها العبارة.وقد يكون المطوي والمضمر أحيانا أكثر من الظاهر والمصرح به.كما يمكن القيام بتغيير الترتيب، فنبدأ بذكر النتيجة لندلل عليها بعدئذ.وقد يكتفي المتكلم بالإيماء أو بالإشارة إليها مع ترك المخاطب يستنبط ذلك، وغيرها من الطرق التي تبدو لنا ملائمة ومناسبة للهدف المتمثل في إفهام المخاطب، ومن ثم إقناعه.
إن تحقيق مجمل هذه الأهداف يتطلب اعتماد خطاب ملائم وكاف حتى يعتقد المخاطب في صدقه ومن ثم يعمل بمقتضياته.لذا يفترض أن تخضع الأقوال لقواعد وضوابط تحدد فائدتها التوصيلية و الإقناعية. ونختزل هذه القواعد في:
أ ـ قواعد التهذيب.
ب ـ قواعد التوجيه والتبليغ.
ج ـ قواعد التدليل.
يستفاد مما قيل أن للكلام شروط لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يصرف اللغو إلا بعد استيفائها.من بين هذه الشروط ماهو عام، مثل الاعتبار والتعقل والتدبر، مع الابتعاد عن الحيرة والتشكيك والغي والافتراء والإفك والإملاق والرياء والهجر، وكل المواقف التي تحول دون تحقيق الأهداف المرسومة ضمن ضوابط حوارية مشروعة ومعقولة؛ ومنها ماهو خاص بالناظر-السائل والناظر-المجيب.وبما أن العلاقة بين المتكلم أو المستدل والمخاطب أو المستدل له لا تسير في كل الحالات وفق ضوابط مضبوطة ومستلزمات مشروعة فقد يزيغ أحدهما أو كلاهما عن الغاية من الحوار.وقد يصبو إلى ذلك باعتماد وسائل عدة تهم جانب الأقوال أو الأحوال أوهما معا؛ لتصبح الحالة التي يتغاير فيها المفهوم مع المقصود أكثر الحالات التي تعكس عدم التعاون بين العارض والمعروض عليه.يعني هذا أن العلاقة بين المتناظرين لا تكون في كل الحالات واضحة وملتزمة بضوابط الحوار وأخلاقياته، بل قد نجد أنفسنا أمام علاقة مشبوهة يكون مصدرها الموضوع أو أحد الطرفين أوكليهما.ليصبح الهدف في هذا المقام هو إقناع المخاطب بطرق تدليسية وتمويهية و تغليطية.وفي مثل هذه الحالة قد يتبع المغالط مسالك تدليلية تضليلية وتمويهية تعود إلى الصورة أو المضمون أوهما معا.فيكون التضليل ناتج إما عن مضمون الأقوال، بحيث يقدمها المغالط على أنها صادقة، لكن الأمر ليس كذلك حقيقة؛ وقد يعود إلى طريقة التدليل على الدعوى فيوهمنا بأنه التزم بطرق تدليلية منطقية صارمة ودقيقة، في حين أن الأمر كذلك ظاهريا فقط و ليس حقيقة.وبالتالي قد يخفى على غير المتمرس وغير المُلم بمختلف أساليب التضليل والتغليط تبَين مكامن الغلط أو التغليط.
بالرغم من أن الحوار يمر بمراحل تتمثل أساسا في مرحلة الفتح ومرحلة المواجهة ومرحلة التدليل فمرحلة الختم، فهذا يجعلنا غير قادرين على الجزم بأن كل هذه المراحل قد تمر حسب الخطة المحددة والمرسومة سلفا.فقد يبدأ الحوار مشروعا يحترم كل طرف واجباته، لكن هذا لا يضمن بشكل قطعي عدم إمكان استغلال أحد الطرفين حدثا معينا لينقلب الحوار الهادئ والعقلاني إلى جدال، فمغالطة.وفي هذا المقام يمكن أن نتخيل واقعة بسيطة قد تحدث بين زوجين.إذ يمكن أن ينطلقا من نقاش هادئ ليتحول إلى تباين في وجهات النظر فصدام ونزاع وعراك وضرب وإكراه وتضليل أمام تدخل الأسرة لينتهي إلى المحاكم بعد ادعاء كل منهما أحقيته في الحضانة. وهكذا فاستحضارنا لمثل هذه الحالة يبين وجود أكثر من طريقة تنتقل بنا من تناظر هادئ وعقلاني إلى استخدام الدسائس ومختلف أساليب التضليل؛ بل قد يحضر العنف والإكراه أحيانا. وهو ما يدل من وجهة أخرى على أن بعض أنواع الحجاج ليست تغليطية في حد ذاتها، بل استخدامها بطرق غير مشروعة واعتمادها من قبل أشخاص معينين في ظروف خاصة هو القابل لجعلها كذلك.كما أن من الناس من يعمد إلى الاعتراف بغلطه عندما يتبين له ذلك ومنهم من يتمادى في ذلك ويعاند مدعيا أنه على حق.وهو السلوك المتبع من قبل المغالط الذي يعمد إلى استخدام أساليب تستند إلى القوة والعنف والإكراه والاستهواء والاستمالة والاستدراج، وغيرها من السلوكيات التي تترك جانب الحجة المقنعة لتعمد إلى طرق غير مشروعة تنبني على الترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعلى هذا يتبين أنه إذا كانت الطرق المحمودة والمشروعة في كل تفاعل حجاجي ترمي إلى التدليل انطلاقا من مقدمات صادقة واعتمادا على مسالك تدليلية متسقة وتامة، فإن هناك تفاعلات حوارية لا تنشد هذا الهدف ولا تحترم مجمل ضوابط وأخلاقيات الحوار العقلاني الهادئ. ويختص هذا النوع الأخير بكونه يرتكز على التمويه والتغليط والتدليس والتلبيس، وغيرها من السبل التي تيسر للمغالط عملية طمس الحقائق بهدف تحصيل نتائج يصعب الوصول إليها بطرق الحجة المقنعة.
حاصل الكلام أن من النظار من لا يقصد إلا نصرة الحق، ومنهم من ينصر كل ما اعتقده ولو بغير دليل. لذا لابد من تحديد مجموعة من الضوابط الذاتية والموضوعية التي بها يتم إحكام مسالك الوصول إلى الصواب.خصوصا وأن الأمر يتعلق هنا بالخطاب المغالط الذي يختص باعتماد أساليب تضليلية تقوم أساسا على الطمس والإخفاء والتعتيم؛ ومع ذلك يحاول صاحبها أن يجاريها مجرى منطقيا حتى يتمكن من خداع خصمه وجعله يأتي بفعل ذميم.وهكذا فبعض الأساليب التي يستخدمها المغالط يرائي بها ليوهم خصمه بأنه حكيم دون أن يكون كذلك حقيقة، ويصطلح على هذا النوع باسم”الحكمة المرائية”.حيث يوهم خصمه بأنه يفعل فعل الحكماء، لكنه في الحقيقة مجرد مضلل.فهو يتظاهر بما ليس فيه، مدعيا الحكمة.ومن ثم أطلق على هذا النوع اسم”المخاطبة السوفسطائية” أو”الحكمة المموهة”.أما متى تشبه المغالط بالجدلي فهو يوهم المتلقي بأن خطابه يستند إلى مقدمات محمودة ومشهورة دون أن يكون الأمر كذلك حقيقة.إنه القول الذي يتكون من مقدمات ذائعة أو مسلمة ظاهريا دون أن تكون كذلك حقيقة، بل يروم صاحبها تضليل خصمه للظفر به وإلزامه شنعة. وبالتالي وجب التمييز بين أنواع من المخاطبات التي نحددها في المخاطبة السوفسطائية والمشاغبية والعنادية والامتحانية. فمتى استخدم القول عنوة للتضليل وإيهام الخصم بأنه حكيم، فهو سفسطة ومماراة، وصاحبه سوفسطائي ومماري.ومتى كان للغلبة وإظهار عجز الخصم أو مدافعته وتعجيزه إن كان مبطلا مصرا على الباطل سمي عناديا. ومتى اعتمد ليوقع به ويلزمه شنعة سمي مشاغبيا. أما متى استخدمه الحكماء لكشف محل المدعي الكاذب أو لتصحيح مصلحة محمودة مثل اختبار المعرفة سمي امتحانيا. وعليه فقد نُمكن المجادل من عدم الوقوع في الغلط والتغليط، وبالتالي دفع المغالط وحفظ نفسه من الباطل.
بهذا نقول بأن القياس السوفسطائي يأتلف من مقدمات وهمية كاذبة؛ تكون إما شبيهة بالحقيقة لكنها ليست كذلك، أو شبيهة بالمشهورة دون أن تكون كذلك.كقولك مثلا: كل ميت يجب دفنه والحجر ميت يلزم عنه أن الحجر يجب دفنه.أو أن تشير إلى صورة فرس على حائط وتقول:هذا فرس وكل فرس صهال فهذا صهال.أو أن تقول في رجل يتكلم في العلم على غير هدى:هذا يتكلم بألفاظ العلم، وكل من هو كذلك فهو عالم فهذا عالم.لنخلص إلى القول بأن من القياس ما هو قياس حقيقة ومنه ما يوهم أنه قياس من غير أن يكون كذلك في الحقيقة، بل هو مضلل ومغالط.فالقياس الحقيقي هو الذي يُعرف بأنه “متى وضعت فيه أشياء أكثر من واحد لزم عنها بذاتها، لا بالعرض، شيء آخر باضطرار”.أما القياس المبكت فهو كل قياس تلزم عنه نتيجة هي نقيض النتيجة التي وضعها المخاطب.فالمغالط قد يوهمنا بأنه أورد قياسه على شاكلة القياس الأول من غير أن يكون الأمر كذلك حقيقة. وعليه فمتى كانت مواده من اليقينيات قيل عنه تبكيت برهاني؛ أما إن كانت من المشهورات والمسلمات سمي بالتبكيت الجدلي.
2- سبل التغليط بالأحوال ( خارج ـ لغوية):
لما حددنا هدفنا الرئيسي في تناول مسالك التضليل والتمويه الخاصة بطرق التدليل فإننا نؤكد على أن وسائل التدليس والتضليل متعددة ومتنوعة.فقد تعود أساسا إلى طبيعة الموضوع أو إلى وجود تباين بين مقصود المتكلم ومفهوم المخاطب.وهكذا فقد يختلف المتناظران ويشتد النزاع بينهما نظرا إلى أن موضوع الدعوى لم يعلم بالتعيين ولم يحدد بالضبط،أو أن يكون أحدهما جاهلا بالموضوع،ومع ذلك يتمادى في النظر فيه وعدم الاعتراف بجهله،أو أن يقع نظر أحدهما على ما لم يقع عليه نظر الآخر،فيبني حكمه على ما وقع عليه نظره مخالفا بذلك ما وقع عليه نظر الآخر،وقد يكون أحدهما على يقين من أمره بدليل قاطع ويعمل على جعل غيره يصل إلى الحقيقة،لكن الآخر يعاند،فيضلل.وقد يتخذ التضليل في مثل هذه الحالات أوجها عدة،منها أن يقوم أحدهما بتحريف كلام خصمه وإخراجه عن سياقه،أو أن يستهزئ منه ويستصغره،أو يعمد إلى إثارة قضايا شخصية بهدف تجريحه والنيل منه،إلخ.وغالبا ما يقوم في مثل هذه الحالة بالتهجم المباشر على الشخص من خلال التنقيص من كفاءته والطعن في سلوكياته والتشكيك في معتقداته واستحضار ماضيه،وما إلى ذلك من العوامل التي يبتغي من خلالها الحط من قيمته والنيل منه. وقد يتبع أساليب أخرى منها ادعاء عدم انسجامه ووجود تضارب بين أقواله وأفعاله،أو زعم أن خطابه لا يتلاءم مع الظروف التي صيغ فيها ولا يستجيب للمستلزمات المطلوبة.
يتضح من هذا أن من الحجاج ما ليس مغالطا في حد ذاته لكن استخدامه بطرق غير مشروعة وبشكل مفرط أحيانا هو القابل بجعله ينتهي بنا إلى التغليط.ويتضح هذا بصفة خاصة عندما نتجاوز ما ادعاه المحاور إلى التهجم عليه قصد تجريحه والنيل منه.فقد يتحول الحجاج في مثل هذه الحالة إلى عراك وخصام تحضر فيه كل أنواع القذف والشتم والخروج عن الود والعفة وحدود اللياقة والاحترام. وينطوي هذا النوع من التهجم على منزلقات يجب الاحتراز منها بعدم الدخول في الفعل ورد الفعل.فمن شأن هذا أن يسد كل منافذ التفكير العقلاني والنقد الهادئ. فعوض تدبر الأمر باعتماد الحجة البالغة والمقنعة قد يلجأ أحد المتحاورين إلى أساليب أخرى منها الطعن في شخص الخصم بذمه و استرذال أقواله والاستهزاء منه والتنقيص من قيمته واتهامه بعدم الإنصاف،وغيرها من أساليب الضغط التي يمكن أن يعمد إليها بغية إسكاته.كما أنه قد يتخذ سبيل الثناء والنفج والمدح مع ذكر مناقبه وهممه ومكارمه،وكل هذا بهدف أن يطمئن له خصمه حتى يتمكن منه فينقلب عليه.وقد يعمد إلى الإبطال عن طريق مقابلة النتائج التي قال بها خصمه بمقابلها،بعد أن يخرجها عن ضوابط معينة،كتغييرالسياق التي وردت فيه.وبالجملة يختص هذا النوع من التحاج بقيام تناقض بين الملفوظ وظروف التلفظ به.
بهذا يتبين أن الغاية من استخدام هذا النمط من الحجاج هو التهجم على الشخص وانتقاد تصرفاته باتهامه مثلا بعدم الالتزام بما يطالب الآخر الالتزام به،أو بعدم وفائه بتعهداته، وغيرها من الأساليب التي تمكننا من التغلب عليه بطرق مباشرة أو غير مباشرة.وعلى هذا يمكن القول إن الغاية من هذا النوع من الحجاج هو الإيقاع بالخصم إما رغبا أو رهبا.وبالتالي قد يوجه المغالط حجاجه إما:
أ ـ وجهة سلبية: فيها يعمد إلى تحقير الخصم والتنقيص من قدراته والتشكيك في كفاءته و مصداقيته.
ب ـ وجهة إيجابية.فيها يعمد إلى الثناء عليه والإعلاء من شأنه و مكانته وقدراته و الإقرار بمصداقيته وتثبيت كفاءاته وذكر محاسنه.
قد لا تكون العمليتان في حد ذاتهما مغلطتين لكن استخدامهما بشكل غير مشروع يفضي بهما أحيانا إلى التضليل.فقد تنتهي بنا الحالة الأولى مثلا إلى مغالطة عندما نغفل ونتجاهل الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا الوضع من خلال القرارات التي يمكن أن يتخذها الشخص وهو في هذه الحالة.فلنتخيل هنا النتائج التي يمكن أن يقدمها خبير أومستشار نحتقره ونشكك في مؤهلاته وقدراته ونطعن في مصداقيته.أما الحالة الثانية فتفضي بنا إلى مغالطة متى أفرطنا في مدحه والإعلاء من شأنه إلى حد الغرور الذي يمكن أن يستغله ليفتري علينا ويخدعنا ويحول عملية التدليل على المطلوب إلى مغالطة.وبالتالي عوض أن يتم الإقناع بالحجة قد نستغل أحد هذين المسلكين بغية التضليل والتغليط.وهكذا فقد نقبل بأمر ما لا على أسس بينة وأدلة موضوعية،بل لأن للقائل سلطة يستغلها للضغط علينا وجعلنا نقبل بنتائجه رغبا أو رهبا.
نشير في هذا الصدد إلى أن استخدام السلطة قد يكون مشروعا عندما يتم في إطار الحدود المرسومة له بحسب القوانين والأعراف،لكن قد نعمد أحيانا إلى استخدامها بطرق غير مشروعة بأن نستغلها فيما لا يحق لنا أن نستخدمها فيه.وفي مثل هذه الحالة الأخيرة تحضر أساليب أخرى تقوم على القوة والإكراه والوعد والوعيد،بالإضافة إلى مختلف الأساليب التي نستخدمها في سعينا إلى الإقناع بكل السبل المتاحة.فاللجوء إلى السلطة يكون مشروعا عندما تكون مخولة وتطبق في حدود ما يسمح به القانون وما هو معترف به.أما متى استغلت لتحقيق مآرب أخرى وتجاوزت حدود المسموح به أصبحت أداة غير مشروعة وقابلة لتوليد إكراهات.فأحيانا نكون غير مقتنعين بما يقدم لنا أو بما يطلب منا التسليم به نظرا لتفاهته أو لعدم تقديم أدلة واضحة ومقنعة.إلا أن تدخل قوة خارجية ضاغطة تجعلنا نمتثل لسلطتها ونتصرف وفقا لما تريد.وبالتالي فقد ينتهي بنا حجاج من هذا النوع إلى مغالطة في الوقت الذي لا نُحكم فيه قوة الحجة بل نراعي اعتبارات أخرى كفيلة بتكييف الحجاج بحسب من يوجه إليه.وفي مثل هذا الحالة لا ينصب اهتمامنا على مدى صدق المقدمات بقدر ما نراعي مدى إمكان قبولها من قبل من ستوجه إليه. وعليه،قد ننتج مغالطة في الوقت الذي نتخلى فيه عن معيار صدق الحجة وقوتها لصالح معايير ليست لها أية أهمية سوى استخدامها لغرض دغدغة المشاعر وإثارة العواطف والأحاسيس. فالأهم في مثل هذا المقام هو أن يتقبل المخاطب آراءنا و مواقفنا وقراراتنا.
على هذا،نجمل الضوابط التي يخرقها أو يتحايل عليها المغالط في :
أ ـ ضوابط مادية: يسعى المغالط إلى أن يظهر بمظهر مقبول في حين أن ما يبطنه عكس ما يظهره.كما أنه لايتوارى عن استغلال كل الظروف والفرص التي تتاح له لصالحه ولو على حساب غيره.فمتى تبين له ضعف ما يتكلم به حاول تمريره بكل الحيل الممكنة.ولتحقيق هذا قد يركز اهتمامه على محاوره فيتخذ معه إما طريقة التهجم عليه بغاية إرباكه وإظهاره بمظهرغير مقبول،أو طريقة الثناء والمدح حتى يستكين له فينقلب عليه.كما أنه قد يولي اهتمامه جهة الحضور بأن يسعى إلى استعطاف الحاضرين واستدراجهم إما رغبا وإما رهبا؛ حتى يصبح كلامه مقبولا،وكلام خصمه غير مقبول.ولهذا قد نعاين جريان المناظرة في مجلس يعيقها، وذلك لأن أعضاء المجلس قد تحولوا إلى مناصرة أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر. فيفاضلون بينهما بأن يؤازروا أحدهما ويناصروه في مقابل اللمز وإثارة الشغب والفوضى مع محاولة تشتيت انتباه الآخر سواء بالعبارة أو الإشارة.وقد ينقسم أعضاء المجلس إلى فريقين كل منهما يناصر أحد الطرفين،وبذلك يقوم كل طرف بتشجيع من يناصره والإعلاء من مكانته مقابل ترذيل وتبخيس أقوال الآخر وإزعاجه،بل الذهاب إلى حد التبرؤ منه.وعلى العموم فالمغالط يستخدم حيلا متعددة ومتنوعة تسعفه لتحقيق أغراضه.فمتى غفلت عن ذلك لم يظهر الفساد،فيحصل الكلام بلا فائدة.
ب- عدم الصدق في القول وعدم الإخلاص في العمل: من أهم صفات المغالط عدم الالتزام بما يقول إنه يلتزم به، ومن ثم التباين بين أقواله وأفعاله.فقد يقول قولا ولا يعمل به،وقد يسلم بما لا يعتقد فيه ومالا يصدق به ،ومع ذلك يحاول أن يوهم محاوره بأنه يعتقد في دعواه.ولتحصيل هذا الهدف يلبس الحق صفة الباطل والصدق صفة الكذب.وقد يعمد إلى اتباع طرق أخرى منها أن يخرج كلامه أو كلام غيره على خلاف ما يقتضيه،مستندا في ذلك إلى صور متعددة ومختلفة،كأن ينزل غير السائل منزلة السائل أو ينزل من لا ينكر الخبر منزلة من ينكره،أو تنزيل الصادق منزلة الكاذب،إلخ.القصد من كل هذا هو الاحتيال والرياء والبغي بغية الظفر بالخصم.وبذلك فهو لا يتوخى المناسبة في الكلام ولا يصوغ كلامه بطريقة ينكشف من خلالها كل ما في نفسه من مقاصد.فهدفه الأسمى هو أن يوقع بخصمه.
نخلص إلى القول إن المغالط قد يستخدم ما هو خارج ـ لغوي أو يستعين به من أجل الإيقاع بخصمه.وغالبا ما يلجـأ إلى استغلال مجموعة من الإجراءات بعد تبديلها وتغييرها حتى يتمكن من أن يخرجها عن مقاصدها الحقيقية ويطوعها لأغراضه.فهو يعرض عن الإقناع بالحجة للتهجم على الشخص والنيل منه رغبا أو رهبا.وعليه،متى كان أحدهما أو هما معا مغالطين فتلك مناظرة قائمة على النصب والاحتيال.
3- مسالك التغليط بالأقوال (اللغوية):
للناس حيل وتلبيسات من لم يعرفها لا يمكنه الاحتراز منها فيسقط من حيث لا يعلم.منها أن يحتال على الخصم بدعوى التعمق في العبارة حتى لا يفهم الخصم من كلامه إلا القليل لكثرة ما فيه من شبهة وغموض.وإذا أراد أن يتكلم على كلامه أو يحكي شيئا منه للكلام عليه يقول:”لم أقل هكذا”أو “لم أقصد ما تدعيه”.ومنها كذلك أن يحتال المسؤول على السائل فيخرجه عن سؤاله،أو يحتال السائل على المسؤول فيخرجه عن جوابه،إلى غير ذلك من السبل المغلطة التي قد يستغلها أحدهما لإخراج الآخر عن مقاصد الخطاب.وهو ما ذهب بنا إلى الربط بين مختلف الأساليب التضليلية والتدليسية الممكنة من جهة اللفظ أو المعنى أو سبل التدليل أو من هذه الجهات مجتمعة. وهو ما يوضح مرة أخرى أن المغالط يمكن أن يستغل كل الفرص المتاحة أمامه لسوق خصمه إلى الغلط.
قبل بسط القول في طرق التغليط بالأقوال نشير إلى أن اللفظ قد يكون غير مغلط في الأصل لكن المغالط يستخدمه بطريقة تمكنه من التمويه والتضليل.و قد يقع التغليط من جهة اللفظ مفردا كان أو مركبا.ونتكلم عن هاتين الحالتين كلما لم يطابق القول المعنى،بشكل يجعل دلالة اللفظ مشتركة.ويمثل هذا الوضع إحدى الحالات التي يستغلها المغالط سائلا كان أم مجيبا للتمويه وسوق المحاور إلى مالا يرغب فيه.حيث يستخدم المغالط حيلا وتلبيسات تنتهي بالمخاطب إلى أن يفهم من القول ما يخالف المقصود،بشكل يفضي إلى تعطيل الفهم،وبالتالي سوق خصمه إلى الضلالة.لهذا يشترط أن يفهم كل من السائل والمجيب من اللفظ معنى واحدا حتى تكون دلالته عندهما واحدة.إذ الألفاظ متى حرفت أو بدلت أفضت إلى الشبهة والعجز في الإدراك والفهم.وبالتالي فإن تلافي هذا المآل يتوقف على استخدام ألفاظ جلية حتى تكون معانيها مناسبة وملائمة.
قد يعود الغلط من جهة المعنى إلى جملة من الأفعال المغلطة التي يستند إليها المغالط لتحقيق هدفه حفظا أو إبطالا.ويتعلق الأمر بالمضامين التي قد تكون صادقة أو مشهورة أو يتسلمها من مخاطبه.فقد تكون في الأصل غير مغلطة،لكنه يعدلها ويبدلها بشكل يسمح باستخدامها لهذا الغرض.ومن ثم يكون بمقدوره أن يغلط إن هو تكلم،كأن يجعل المعنى المقيد مطلقا أو المطلق مقيدا،أو يقيد في مكان ما أطلقه في مكان آخر،أو أخذ بالعرض ما اعتبره بالذات في موضع آخر،أو بالذات ما اعتبره بالعرض في مكان آخر،أو يجعل الموضوع محمولا والعكس بالعكس،أو بإيجاب ما لايجب،أو إسقاط قسم أو أكثر أو زيادة قسم فاسد،إلخ. ليستبدل بذلك ما هو باطل بما هو حق وما هو كاذب بما هو صادق وما هو شنيع بما هو مشهور.وبالتالي نقول بأن المغالطة تعود بالأساس إلى استخدامه للفظ مشترك يحمل معنيين على الأقل،أحدهما يناسب المفهوم والآخر المقصود.ومن ثم فقد يستغل المغالط البعد البنيوي والوظيفي للغة لجعل المفهوم يغاير المقصود،أو يوهم المخاطب بأن الأمر يهم المقصود وغير المقصود معا،وأنه لا فرق في أخذه بهذا المعنى أو ذاك.وبهذا يُدخل الحيرة والشك على محاوره ليجعله لا يستقر على دلالة واحدة ومحددة.و يستند في فعلته هذه إلى آليات تغليطية يضفي عليها صفة الحق أو المشهور حتى يُظهر حجاجا غير سليم بأنه سليم اعتمادا على مقومات تتعلق بالدرجة الأولى باللغة من خلال خصائصها التركيبية والدلالية و التداولية.أضف إلى ذلك إمكان استغلاله لمجموعة من الظواهر التي تيسر له هذا الأمر،مثل الاستعارة والتشبيه والإحالة الذاتية وقابلية انعكاس ألفاظ اللغة الطبيعية،وغيرها من الظواهر القابلة بجعل صور الشبهة تتعدد وتتكاثر أمام المتلقي.فقد يتوسطها لطمس الحق وطيه،أو خلطها بالباطل،أو استغلال المتشابه قصد النيل من المحكم،وغير ذلك من السبل التي تكشف عن نيته المبيتة والخبيثة.بحيث لايتخلف عن استغلال كل ما توفره اللغة من إمكانات قصد استدراج المخاطب واستمالته وبالتالي تغليطه.
4- تهافت الحجاج المغالط من جهة البناء والتدليل:
يعد التناظر المسلك المنهجي الذي نشترك فيه مع غيرنا بهدف تحصيل المطلوب وفق مقتضيات تدليلية صحيحة ومتسقة وتامة.و يتعلق الأمر بعملية تصحيح الأدلة في سياق تناظري بين مستدل يعمد إلى بسط حججه بطريقة إقناعية مع الوضع في الحسبان ما يمكن أن يعترض به عليه محاوره،ومستدل له الذي تتراوح مواقفه بين التسليم بما قُدم له من حجج أو الاعتراض عليها إن كليا أو جزئيا.إذ لا يكتفي المستدل بوضع الدليل بل يروم النظر فيه مع محاوره حتى يتمكنا من تقويمه.ولتحقيق هذا الغرض على الناظر مدعيا كان أم معترضا الإحاطة الكافية بمختلف السبل التي تسمح له ببناء الأدلة وإبطالها،مع القدرة على كشف صحيحها عن فاسدها.لهذا يتوخى أن يكون الدليل متسقا وتاما حتى يبقى بمنأى عن أي اعتراض، لأن الإثبات بالدليل يكون بصحة مقدماته وبسلامته من الاعتراض.
لكن المغالط يعمد إلى استخدام استدلالات فاسدة مع السعي إلى إظهارها على أنها صحيحة.الأمر الذي يتطلب من كل من انتصب للتصدي للمغالط أن يكون متمكنا من السبل المنهجية والمسالك الإجرائية التي تسمح له باستثمار الأدلة سواء في الحفظ أو الإبطال.فهي الكفيلة بتمكينه من اكتساب القدرة على تمييز الاستدلالات الصحيحة عن الفاسدة .فمتى لم يتمكن من ذلك فوت عليه المغالط فرصته.
بالإضافة إلى المغالطات التي قد تقع من جهة اللفظ أومن جهة المعنى أوهما معا،هناك تمويهات وتضليلات تخص طرق البناء و التدليل.وفيها يستند المغالط إلى أساليب عدة يوهم خصمه من خلالها بأنه رتب أدلته وفق طرق منطقية دقيقة ومضبوطة دون أن يكون الأمر كذلك حقيقة.فقد يعمد إلى طي محل الكذب عن السامع،أو يجعل المقدم تاليا أو التالي مقدما،أو بإيهامه بأنه بنى القياس على مقدمات صادقة أو مشهورة دون أن يكون الأمر كذلك حقيقة،أو بأن يعمد إلى خرق شروط القياس كأن لا يكون الحد الأوسط واحدا في المقدمتين،أو أن معناه يختلف من مقدمة لأخرى،أو يجعل أحد الطرفين في مقدمة ما غيره في مقدمة أخرى أو في النتيجة،أو أن يقوم بترتيب المقدمات بشكل لا يراعي شروط اللازم والملزوم، أو أن ينقل ما هو صحيح بطريقة القياس فيقدمه وكأنه كذلك استقرائيا،أو العكس،أو أن يعمد إلى استحضار التقابل بين القضايا فيقدمه بشكل مغلوط،إلخ.الغاية من كل ذلك هو بناء صور فاسدة بهدف تضليل المخاطب ومن ثم سوقه إلى الغلط.ونشير هنا إلى أن هذه التحويلات و التبديلات للآليات المنطقية كثيرا ما يستند إلى حيل تضليلية،أي إلى مسالك مغلطة تيسر له عملية تحصيل أهدافه.فهو يسعى إلى إيهام خصمه بأنه احترم مجمل الضوابط المنطقية الخاصة بطريقة التدليل التي اعتمدها.
مستفاد ما قلناه أن المغالط قد يستخدم مختلف الطرق التدليلية بشكل مغالط.بحيث يلجأ إلى استحضار مجموعة من الطرق التدليلية غير المغلطة ليعدلها بكيفيات تمكنه من أن ينقض على المحاور قوله.ومن ثم فهو يسعى إلى الحقيقة من جهة الرياء.وقد يستغل الخلل من جهة اللفظ والمعنى ليدلل على مغالطته.فمتى كان عارضا لجأ إلى استخدام أساليب قد تساعده على تمرير مواقفه.كأن يعمد مثلا إلى طي المقدمة التي يظهر فيها الكذب،أو إلهاء المخاطب حتى لا ينتبه إلى كيفية تدليله على دعواه،وبالتالي يفوت عليه عملية تفقد موضع الكذب أوالفساد.وقد يلجأ إلى استخدام أساليب مماثلة متى كان معترضا،كأن يشكك في الدليل أو يوهم خصمه بأن التدليل على المدلول غير موفق،أو بأنه غير كاف لإثبات المدلول،أو أن الأدلة التي قدمها تستلزم مدلولا آخر. وقد يذهب إلى حد منع شيء دون تقديم أي دليل يثبت ما منعه،أي ادعاء بطلان دليل المعلل دون دليل حقيقي ومعقول،وغير ذلك من المواقف.
على ضوء هذا نقول بأن المباكتة السوفسطائية إما قياس يظن بأنه قياس،غير أنه ليس كذلك في الحقيقة،أو نقيض يعتقد أنه نقيض دون أن يكون كذلك حقيقة.فهي مباكتة يظن بأنها صادقة في حين أنها كاذبة.فالمغالط قد يظهر بأن مقدماته صادقة ومناسبة للصناعة التي فيها المطلوب دون أن تكون كذلك حقيقة.وبالتالي نفضي إلى القول بأن من شأن هذه الطرق التي ينتهجها المغالط تعطيل المخاطبة الحقيقية في الوقت الذي يعمد فيه إلى التمويه والتغليط باستخدام صور فاسدة.
مادام المغالط يعول على التضليل والتدليس باعتماد عوامل لغوية وخارج ـ لغوية فيمكن رد عدم فهم معاني الخطاب إلى أحد الأسباب التالية:
أـ اختلاف المقاصد: قد يعود عدم الفهم إلى تباين المقاصد أو عدم تحديدها بشكل واضح ومحدد. وقد يتم استظهار هذا الاختلاف أو استبطانه.
ب ـ علة في الكلام: قد يعود عدم الفهم إلى التباس تركيبي أو غموض دلالي أو شبهة تداولية.فقد يكون أحد هذه المستويات مانعا للفهم،كأن تكون العبارة غير سليمة التركيب،أو أن يكون هناك تقصير في الفهم يعود إلى طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول،أو إلى غياب أحد المقتضيات الخاصة بالأحوال،كأن يستدعي مقام الكلام اعتبارات خاصة لايشترك فيها مع غيره.إذ الكلام ثلاثة أقسام:ما هو مستقل بنفسه،وما هو مقدمة لغيره،ونوع ثالث يكون نتيجة لغيره.ويتفرع المستقل إلى جلي وخفي،أما ما هو مقدمة لغيره فإما أن تكون المقدمة مستقلة بنفسها وإما أن فهمها يتوقف على ما تستتبعه من نتيجة.وأما ما كان نتيجة لغيره فهو لا يعلم إلا بمقدمه.لهذا يُطلب من المتكلم أن يجتهد في تهذيب اللفظ وترتيبه وصيانته من كل شبهة وكل ما يمكن أن يخل بالتركيب والدلالة ويعيق الإبانة والإفهام.وعليه بطلب الألفاظ الجلية الصريحة مع التماس تبيان معانيها مناسبة ومطابقة،وصرف الألفاظ الملتبسة والمشتركة والمشتبهة.وبهذا وجب أن يكون الكلام بمقدار الحاجة.
ج ـ علة في المتكلم أو السامع أوهما معا: متى خرج أحدهما على الأقل عن أحد ضوابط الحوار المشروع تعطل المراد الحقيقي.وقد يستغل موقعه إن كان سائلا لكي لايجعل سؤاله إلى المخاطب على وضع محدد.أما إن كان مجيبا فقد يرتب حججه بطريقة تخل بالمقصود ويخلط الكلام بما لا ينفع ليضيع على المخاطب عملية الفهم.
ويتخذ هذا الأمر الذي قد يصدر من السائل أو المجيب أحد الوجهين التاليين:
1 – أن يجعل محاوره في ريبة وحيرة ليفوت عليه وجه القصد.
2 – أن يستخدم التبكيت والهذر والتمويه والتدليس وغيرها من الطرق الشنيعة.
د ـ استغلال ظرف خارجي معين للتحايل وتحويل مجرى الحوار:فقد يعود فشل الحوار أحيانا إلى عامل خارجي معين.
5- وجوه رد حيل المغالط :
للكلام شروط لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يحصل المقصود إلا بعد أن يستوفيها،وهي أربعة:
أ ـ أن يكون الكلام لداع .
ب ـ أن يأتي به في موضعه ويتوخى به تحقيق هدفه.
ج ـأن يقتصر منه على قدر حاجته.
د ـ أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به.
أما الشرط الأول وهو الداعي إلى الكلام،فإن ما لا داعي له هذيان،وما لاسبب له هُجْر.أما الشرط الثاني فيُعبرعنه بالقول بأن لكل مقام مقال،وهو أن يأتي بالكلام في موضعه،لأن الكلام في غير حينه لايقع موقع الانتفاع به.فإن قدم ما يقتضي التأخير كان عَجَلة وإن أخر ما يقتضي التقديم كان توانيا.الشرط الثالث يعني أن على المتكلم أن يقتصر من الكلام على قدر الحاجة؛فإن الكلام إن لم ينحصر بالحاجة ولم يقدر بالكفاية لم يكن لحده غاية ولا لقدره نهاية.فاقتصر من الكلام على ما يقيم حجتك ويبلغ حاجتك.أما الشرط الرابع فهو أن عليه أن يختار اللفظ الذي يتكلم به،فلأن اللسان عنوان الإنسان، يلزم أن يقوم بتهذيب ألفاظه وبتقويم لسانه.فلا يجب أن تأتي بكلام مستكره اللفظ أو مختل المعنى.
ما يقوم به المغالط هو خرق مقتضى أحد هذه الضوابط ـ على الأقل ـ مع إيهام المخاطب بأنه يحترمها.فهو قد يتجاوز آداب البحث والنظر ويعمد إلى طمس بيان كلامه.وقد يلجأ إلى أساليب أخرى مثل التعسف والإكراه والاستمالة والاستدراج،وغيرها من السبل الكفيلة بجعله يحصل هدفه.هذا في الوقت الذي لا يحترم واجباته ويلزم غيره بما لا يلتزم به.فهو ينكث وعده.فإن قال قولا لم يحققه بفعله.ومن ثم نحدد خاصيته الأساسية في كونه يخفي مقاصده،بل ما يستبطنه يخالف ما يظهره ويدعيه.وبالتالي فهو قد يسلم بأمورلا يسلم بها حقيقة،بل ظاهريا فقط.وقد يدلل على أمور لا يعتقد فيها.كل هذا يجعله يعطل المقصود من الحوار.
مادام القصد من الحجاج المغالط هو تضليل الخصم باستخدام مختلف الدسائس التي تمكنه من صرفه عن الهدف الحقيقي،فهذا يجعل من المغالط سائلا كان أم مجيبا شخصا يقوم بتلبيس الكذب صفة الصدق والباطل صفة الحق.فإن كان المغالط مطالبا أوهم خصمه بأنه تسلم من غير أن يكون قد تسلم في الحقيقة، أو يوهمه بأنه عاند دون أن يكون قد عاند حقيقة.وإن كان مجيبا أوهم خصمه بأنه قد سلم أو دافع دون أن يكون قد قام حقيقة بذلك.وعلى العموم فقوام حجاجه سبل تمويهية وتغليطية الهدف منها إبطال كل ما يبتغي المجيب حفظه أو حفظ كل ما يستهدف السائل إبطاله عبر سوق الخصم إلى الكذب والباطل.وغالبا ما يستند في ذلك إلى مسالك تقوم على التحريف والتلبيس والتعتيم والكتمان والكذب والمكر،وغيرها من المسالك التي تيسر له تحصيل ما يروم إليه.
وعلى هذا نفضي إلى القول بأن التصدي لمختلف الحيل والدسائس والمغالطات التي يلجأ إليها يتطلب منا:
أـ وجوب رد القول الكاذب و الاستدلال الفاسد:حيث نقوم أولا بتحديد محل الكذب أو الفساد.حيث الكذب يهم القضايا ليرد إلى اللفظ المستخدم أو المعنى المستودع فيه،وإما أن يكون من جهة طريقة التدليل على المطلوب.فنتكلم في الحالة الأولى عن كذب إحدى القضايا(مقدمة أو نتيجة)،بينما نتكلم في الحالة الثانية عن فساد الاستدلال؛وقد يطالهما الأمر معا.
ب- النقض الناتج عن المعاني المغلطة:يتم بتعقب القول المبكت الناتج عن إغفال أحد شروط النقض، وبالتالي وجوب التأكد مما إذا كان القول ينتج نقيض الوضع أم لا.فإن كان منتجا نظرنا في الحد الأوسط هل هو عينه في المقدمتين،وهل الحد الأكبر والأصغر يردان في النتيجة بحال واحدة.فالنقض المستقيم يكون بأن يحدد المجيب موقع عدم اللزوم في القياس بين المقدمات والنتيجة.أما إن كان من جهة الصورة فذلك دليل على أن القياس فاسد.لذا على المجيب التأكد أولا من أن القياس صحيح ومنتج بأن ينظر في صورته،فإن تبين له ذلك نظر في المضمون من جهة المقدمات والنتيجة ليقف على محل الكذب.
وعليه،وجب على ناقض الأوضاع المغلطة والمبطلات السوفسطائية أن يكون على دراية كافية بمختلف أساليب المغالط.وهو ما يتطلب منه إدراك مختلف أنواع التغليط حتى يتمكن من سد كل المنافذ أمام المغالط.فلوعدنا مثلا إلى مختلف مواضع التغليط التي ذكرناها فيمكن أن نبين أن نقضها يتطلب معرفة أسباب ومقتضيات كل منها.وهكذا فلو تعلق الأمر مثلا بنقض المغالطة التي سببها الاشتراك فيتم ذلك بأن يقسم المجيب اللفظ المشترك إلى المعاني التي يقال عنها ليميز الصادق منها عن الكاذب.ولو تعلق الأمر بالمغالطة الناتجة عن أخذ ما هو عرضي على أنه ذاتي لنقضناه بالقول بأن هذا أمر عارض وليس باضطرار.أما المغالطة الناجمة عن القسمة والتركيب فتنقض ببيان كيف يدل الشيء بالتقسيم وكيف يدل بالتركيب،وبالتالي بيان اختلاف الدلالتين فيهما؛لأن ما صدق مفردا قد لا يصدق بالضرورة مركبا،والعكس بالعكس.ومن ثم متى كان التغليط بتقسيم المركب ناقضناه بالتركيب،وإن كان من قبل تركيب المفرد ناقضناه بالمفرد.وما قلناه يسري على المغالطة التي تكون من قبل المطلق والمقيد، وكذلك من جهة تغير المعنى بتغير الزمان أو المكان أو ظرف خارجي ما،إلخ.أما المغالطة التي مردها إلى النبرة والتنغيم والإيقاع فينقض التغليط العائد إلى تفخيم الصوت أو ترقيقه ببيان أن دلالته إذا فخم غير دلالته إذا رقق.وبالجملة فإن على ناقض المغالطات أن يكون نقضه مقابلا للوضع الذي ألزم منه الخصم التبكيت.وهو ما يقتضي منا التمكن من اللسان الذي نتكلم به حتى يكون بمقدورنا التصدي لمن لا ينطق الكلام على الوجه المفيد تركيبا ويدرك المعاني الملائمة للألفاظ ويميز الكلام البليغ عن غيره.علينا بالتمرس على مختلف الطرق التي يمكن أن ينتهجها المغالط حتى نتمكن من تمييز التراكيب السليمة عن التراكيب السقيمة،والعبارات المتواطئة عن المشتركة،وتلك التي يتغير معناها بتبديل الظروف السياقية والمقامية التي تم التلفظ بها.
صفوة القول إن المغالط يتوفر على خطط متعددة ومختلفة المعالم يعتمدها في التلبيس والخدعة.وبالتالي فإن تلافي آفات السقوط في المغالطة يقتضي الاستجابة لمجموعة من المقتضيات الخاصة بالتفاعل الحواري العقلاني الذي من شأنه رد كل أساليب التضليل ومنع مختلف أوجه التحايل.بمعنى أن رد المغالطات يتطلب خبرة ومهارة بشكل يجعلنا قادرين على الكشف عن مكامن التغليط ومن ثم إلزام الخصم إما بالانقطاع أو الانضباط لشروط الحوار النقدي.فمادامت طرق التغليط متعددة،فإن المطلوب هو التمرس على مختلف الأساليب الإجرائية والوظيفية التي تمكننا من كشف مختلف دسائس المغالط في مسعاه إلى التغليط إن بالأقوال أو بالأحوال.فالواجب الاحتراز من هؤلاء وكل ما يمكن أن يستغلوه لتمرير مواقفهم بطرق غير مشروعة.
.بمعنى أن الأمر يتطلب منا:
أ-الاحتراز،مع السعي إلى تقصي جميع الأمور التي يدعيها المغالط،وتفحصها صورة ومضمونا. فمتى تلفظ بلفظ طلبناه بتحديد المعنى الذي قصد إليه.
ب – بيان فساد التدليل ببيان أنه غير منتج صوريا،وأن المغالط يستغل آليات منطقية بشكل غير سليم ويخرجها عن ضوابط اللزوم.
ج- تدبر الأمر قبل الإجابة،وأن نتمحص كلامه من مختلف أوجهه،فلا نغفل عن أي تناقض قد يقع فيه.
وبصفة عامة على من وجد نفسه أمام المغالط أن يجتهد في ضبط اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما يمكن أن يخل به ويعيق عمليتي الإبانة والفهم. ومتى عزمت على محاججة المغالط فلابد لك من تحصين نفسك بالوقوف على حيله والإلمام الكافي بطرق ردها وتقويضها.فإن لم تنتبه لذلك حصل الكلام بلا فائدة وبالتالي أفحمك وألزمك أمورا شنيعة.
المراجع:
– الباهي حسان: اللغة والمنطق ـ بحث في المفارقات-،المركز الثقافي العربي /دار الأمان، الدارالبيضاء /الرباط،2000.
– الباهي حسان :الحوار ومنهجية التفكير النقدي ،إفريقيا الشرق.(قيد الطبع).
طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام،المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع. 1987
طه عبد الرحمن:اللسان والميزان أو التكوثر العقلي،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،1998
*منطق أرسطو،تحقيق عبد الرحمن ،بدوي،وكالة المطبوعات،الكويت،داراالقلم، بيروت،1980.
– Douglas N.Walton:Informal Logic-A handbook for critical argumentation-, Cambridge University Press,cambridge,1989,p.10.
– Moeschler,Jacques : Modélisation du dialogue-representaion de l’inférence argumentative-,Hermes,Paris,1989.
– Van Eemeren, Frans, H, Grootendorst ,Rob,Blair,J,A.AndWillard:Argumentation:Across the lines of discipline,Dordrecht:Foris, 1986.
VanEmeren ,Rob,Grootendorst: « RulesfoargmentationinDialogues ».InDouglas,Walton(ed) :Argumentation,vol.2.N.4.November, 1988
woods,J &Walton,D : Critique de l’argumentation-logiques des sophismes ordinaires,édtions Kimé,Paris,1992.