تعريف الشكلانيّة الروسيّة:

     غالبا، ما تُطلق الشكلانيّة في الأدب والفن، على المدرسة الشكلانيّة الروسيّة، لكن يمكن أن نضيف إليها مدرسة “تارتو السيميائيّة” بموسكو،(*). و”حلقة براغ اللغوية”،(*) إضافة إلى المنظرين الذي يحملون تصورات شكلانيّة في النقد الأدبي، وإن لم يكونوا منتمين مباشرة إلى جماعة المدرسة الشكلانيّة الروسيّة.(1). وعليه، فقد ظهرت الشكلانيّة الروسيّة ما بين ١٩١٥ و ١٩٣٠ م، ومع بدايات ظهورها, نبذت الرأسماليّة، ولم تعترف إلا بالاشتراكيّة العلميّة التي تعود، في جذورها إلى كتابات “كارل ماركس، وبيليخانوف، وهيجل، وأنجلز، وجورج لوكاش”، وغيرهم من المنظرين الجدليين الذين سعوا بجديّة نحو ربط المضمون الأدبي – أي الفكر – بالواقع أو ما يسمى ” الوجود الاجتماعي”، ومحاربة جميع التيارات الشكلانيّة والنزعات البنيويّة التي تعنى بالشكل على حساب المضمون.(2). غير أنها راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن المضمون فيما بعد لحساب الشكل كما سيمر معنا لا حقاً.  

     ومن باب العلم، يمكن الحديث عن مدارس أساسيّة ضمن التيار الشكلاني الروسي نفسه مثل: (“جماعة موسكو” التي يمثلها “رومان جاكبسون”  و”جماعة بيترسبورغ” أو جماعة “دراسة اللغة الشعريّة” التي يقودها “فيكتور شلوفسكي”.) (3).

     والمدرسة الشكليّة الروسيّة في سياقها العام, هي أحد المذاهب النقديّة المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا, بيد أنها في ثلاثينيّات القرن العشرين, راحت تعيش حالة ضعف وانعزال، كونها لم تلتزم بالمنهج المادي التاريخي الجدلي الذي كانت تتبناه الدولة في تحليلها للظواهر, لتعود وتزدهر من جديد في السنوات اللاحقة. والشكلانيّة الروسيّة في أحد تجلياتها الأساسيّة اعتبرت ردّة فعل على النظريّات الرومانسيّة/الانطباعيّة في الأدب، التي سلطت الضوء على الكاتب وقدراته الإبداعيّة المستقلة، لتقوم بتسليط الضوء والاهتمام على (النص), مؤكدة أهميّة الشكل بالنسبة لهذا النص، وما له من أثر في التطورات التي تطرأ عليه. بيد أن الشكليين الروس وبسببِ رفضهم لواقعهم وللحرب العالميّة الثانيّة, لم يعودوا يهتمون بالنظريات الأدبيّة، ولا بالمعلومات المتعلّقة بالنص، ولا يكترثون بأهميّة الكاتب على أنه مبدع لهذا النص، فقد أهملوا الكاتب ودوره مثل إهمالَهم للواقع وسماته. هذا وقد تطورت مدرستان نقديتان شكليتان:

      (الأولى: في موسكو، وهي التي نشأت منها الشكلانيّة الروسيّة. والثانية: التي تبعتها الشكلانيّة الأنغلوأمريكيّة النقديّة الجديدة. وكانت هذه الشكلانيّة في صيغتها الأمريكيّة, هي النمط المهيمن على الدراسات الأدبية النقديّة في أمريكا حتّى السبعينيات متجسدة في النظريّة الأدبيّة لدى الناقد الأدبي التشيكي/ الأمريكي “رينيه ويليك” والناقد الأدبي والصحفي الأمريكي “أوستين وارين”). (4).

      على العموم: إن الشكلانيّة الروسيّة بعد تخليها عن مضمونها الاشتراكي, والمنهج المادي التاريخي في التحليل, شكلت نزعةٌ نقديّة تهدف إلى تغليبِ قيمة الشكل والقيم الجماليّة والذوقيّة ، وما فيها من فكر أو خيال أو شعور على مضمون العمل الأدبيّ.  لكنّها تطورت لاحقًاً واتجهت أيضاً إلى دراسة بنية هذا الشكل. ومن أبرز ما ميّز الشكلانيّة الروسيّة في مرحلة تركيزها على الشكل, هو رفضها لكلّ ما هو مُغرق في الغموض, إضافة لاعتمادها منهجيّة تجريبيّة تركز على دراسة الظواهر والملاحظات التجريبيّة بعيدًا عن الانطباعيّة / الرومانسيّة. أي تركيزها على الشكل ونسيج النص اللفظي، وهذا دفعها إلى دراسة الأصوات وتكرارها وتناسقها وإيقاعها. وممّا هو جدير بالذِكر أن المدرسة الشكلانيّة الروسيّة وضّحت الفرق في استخدام الكلمات / الأصوات بين اللغة الشعريّة أو الأدبيّة, واللغة العمليّة التداوليّة في حياتنا اليوميّة المباشرة, كما عملت على تحديد المستويات المختلفة للنص وأساليبه.(5).

أهم رواد المدرسة الشكلانية الروسيّة:

      تجسّدت المرحلة الأولى للمدرسة الشكلانيّة الروسيّة على آراء “كارل ماركس” وتنظيراته, أي على الفكر اليساري ومنها نظريّة الإنعكاس لـ “جورج لوكاش”, إلا أنهم راحوا يتخلون عن موقفهم اليساري هذا وبخاصة (نظرية الانعكاس) التي قدَّمها “جورج لوكاتش”، وأعلَنوا أنّ النقد وفق نظرية الانعكاس لا بد وأن ينتقل إلى داخل أو مضمون العمل، وهذا لا يتفق والموقف عند الشكل فقط. أمّا المرحلة الثانية وهي المرحلة التي راحت تنكر فيها بشكل واضح ودون مواربة ربط السياسيّة بالإبداع، ورفَضَ الواقع أو الوجود الاجتماعي كمحدد أو منتج للأفكار.

وعلى هذا الأساس ظهرت الشكلانيّة هنا في ثوب جديد على يد “جاكوبسون وباختين” وبخاصة بعد أنْ شعَرَ “جاكوبسون” أنّ الموت أوشك أن يلحق بالشكلانيّة, وذلك بسبب حصار السياسيين الروس لها عام (1930).

      أما أبرز أعلام الشكلانيّة الروسية فهو: “ميخائيل باختين” الذي دعا إلى ضرورة عَقْد المصالحة بين المدرسة الشكليّة والمدرسة الماركسيّة القائمة على التحليل المادي التاريخي، وذلك عندما أبرزَ رأيَه باجتماعيّة اللغة, لأنها تعدّ في الأساس ظاهرة اجتماعيّة، وبذلك ابتعد “باختين” قليلاً عن القطعية التي أعلنها الشكليون في تحولاتهم اللاحقة نحو ما هو خارج النص. غير أن “باختين” ظل محتفظاً بمسافة بينه وبين الشكليين، تلك المسافة التي جعلته يوافقهم بعدم الاقرار بنظريّة الانعكاس، وظلت رؤيته تركز على (ديناميكيّة) اللغة بسبب قناعته بظاهريتها الاجتماعيّة.(6). وهناك أيضاً من الرواد “جاكوبسون” الذي يعتبر صلة الوصل بين الشكلانيّة والبنيويّة، إذ حاول من خلال قراءاته النقديّة للشعر أو الأدب, أن يصل إلى التناسق والتوافق بين الشكل والمحتوى، كما ركز على العلاقات القائمة بين اللغة اليوميّة واللغة الشعريّة أو الأدبيّة، وأشار فى مقالته “اللسانيات والشعريّة” إلى الشعريّة، ووصل من خلال حديثه عن الشعريّة إلى تحديد نظريّة للاتصال حدّد عناصرها الرئيسة في: (المرسل) الذى يقوم ببث (رسالة ما) عبر قناة داخل السياق النصي، حيث تحمل هذه الرسالة شفرة أو عددًا من الشفرات، ثم (المتلقي) الذي يقوم بحل شفراتها. وكلّ عامل من هذه العوامل له وظيفة لسانيّة مغايرة للأخرى.(7). هذا ويمكننا القول: إن الشكلانيّة الروسيّة تشتمل على أعمال العديد من المفكرين الروس ذوي التأثير الكبير على الساحة الأدبية مثل (فيكتور شيكلوفسكي, ويوري تينيانوف, وبوريس أيشينباوم, وجريكوري فينكور، وهي أسماء أحدثت ثورة في ميدان النقد الأدبي بين العام 1914 حتى الثلاثينيات وذلك يرجع إلى جهودهم التي بذلوها للتأكيد على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها).(8).

دواعي (النقد الأدبي) لنشأة الشكلانيّة الروسيّة:

قلنا في موقع سابق إن الشكلانيّة الروسيّة ظهرت ردًا على سيطرة المذهب أو المنهج الرومانسي تحت مظلة النظام الرأسمالي, أي رداً على التوجهات النفسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والفكريّة التي سيطرة على الأدب الغربي لوقتٍ طويل، حتى صار هذا دافعاً لدى الشكلانيين الروس ليقوموا بدراسة الأدب بوصفه بنيةً جماليّة مستقلة، تتضمن مجموعة من العناصر التي تتفاعل فيما بينها تفاعلاً إيجابياً أو سلبياً.(9). (وقد خدمت الشكلانيّة الأدب والفن والنقد، فقامت بإثرائهم بنيويّاً وسيميائيّاً عن طريق المقاربات بين النصوص الصوتيّة والإيقاعيّة والصرفيّة والدلاليّة والبلاغيّة والتركيبيّة, وتحليلها ضمن استعمالاتها الوظيفيّة أو السياقيّة.).(10).  لقد عمل الشكلانيون الروس حقيقة على إرساء مبادئ نظريّة جماليّة، وتطلّعوا إلى خلق علم أدبي مستقلّ, ينطلق من المميزات الجوهريّة للأدب والسمات الفنيّة له، إذْ كان هدف الشكلانيّة الروسيّة هو الوعي النظريّ بالأدب, وتأسيس نظريّة أدبيّة يكون العمل الأدبي موضع اهتمامها الأساس.(11). حيث طالبت الشكلانيّة الروسيّة في أهم تجلياتها بعد تخليها عن المضمون كما بينا في موقع سابق, بمقاربة النص الأدبي, على أنه بنية فنيّة مغلقة ومكتفية بذاتها، لا يرتبط بوقائع خارجيّة، ولذلك كان تركيزُها في تحليلها للنص الأدبي مُنصبًا على النص بوصفه نقطة البدء والمعاد، والنأي بالنقد عن العلوم الإنسانيّة التي سيطرت على الخطاب الأدبي فترةً من الزمن، لمركزته على ما هو خارج النص من تاريخ وعلم نفس وعلم اجتماع وسيرة وغير ذلك. ومع أنّ الشكلانيّة تجاهلت العوامل الخارجيّة في دراسة الأدب، ولكنْ هذا لا يعني عدم اعترافها بقيمتها، إنّما يعني تحديدها لمجال اتجاهها النقدي في قراءاتها للنصوص الأدبية.(12).

      بتعبير آخر: لقد دافعت الشكلانيّة الروسيّة عن رأيها الذي يقولُ إنّ جوهر الظاهرة الأدبيّة لا يكون في علاقتِها بمنشأها أو بيئتها, إنما في كينونتها الموضوعيّة، بوصفها بنية مستقلة. ولعل أهمّ مبادئها: هو تقويم النص بوصفه نصًا لغويًا فقط، إذ إن بناء النص الأدبي وجوهره الأساس إنما يكون في الكلمات وليس في الأفكار، فليس معنى النص أو مضمونه ولا العوامل الخارجيّة المحيطة به هما ما يمنح الأدب هويته، إنما صياغته وطريقة تركيبه ودور اللغة فيه هو ما يجعل من الأدب أدبًا، ومن هنا ظهر مع هذه المدرسة النقدية ما يسمّى “أدبية الأدب ” التي تسلّط الضوء على مجموع المواصفات التي تتحقّق في النص, لتجعل منه أدبًا، لذلك يقول جاكبسون: إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب إنمـا (الأدبيّة) أي ما يجعل من عملٍ ما عملًا أدبيًّا.(13).

     لقد كان الأدب قبل الشكلانيّة الروسيّة يعامل على أنه صورة مرآتيّة عن سيرة المؤلف وخلفيته, أو توثيقاً تاريخيّاً أو اجتماعيّاً. أما الشكليون فيعلنون أن الأدب منتج له استقلاليته وخصوصيته. فكان هنالك مبدآن إثنان في دراسة الأدب في المدرسة الشكليّة الروسيّة قد المحنا إليهما في عرضنا السابق بشكل غير مباشر هما:

   الأول: الأدب نفسه، أو السمات الأدبيّة التي تميز الأدب عما سواه من الأنشطة البشريّة، والتي يجب أن تشكل الأساس الذي تتوجه لدارسته النظريّة الأدبيّة. كما بينا أعلاه عند “جاكبسون”

     أما المبدأ الثاني: فهو «الحقائق الأدبيّة» والتي يجب أن تعطى الأولويّة في النقد الأدبي على أي حقائق أخرى, سواء كانت فلسفيّة أو جماليّة أو نفسيّة. بيد أنه كان هنالك توافق بين المبدأين على الطبيعة المستقلة للغة الشعر, وخصوصيتها كموضوع يخضع للدارسة في النقد الأدبي. وقد سعى الشكليون بشكل خاص إلى تحديد السمات الخاصة باللغة الشعريّة، سواء كان ذلك في الشعر أو في النثر، والتي يمكن معرفتها من خلال تحديد البعد الفني فيها والعمل على تحليلها. (14).

 اضمحلال دور الشكلانيّة الروسيّة:

      عموماً لقد هوجمت الشكلانيّة الروسيّة لنقاط عدّة من أبرزها,: تركيزها على إعطاء دلالات جديدة للمفردات نفسها, وهذا ما سيجعلها في النهاية تبتعد عن المعنى كلياً والتركيز على الشكل فقط. رغم أن الشكلانيين لن يستطيعوا تحقيق هذا الانعزال عن الواقع كلياً مهما حاولوا, لأن المحتوى الأدبي الذي يشتغلون عليه مرتبط بالواقع بالضرورة.(15).. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين اضمحلّ دور الشكلانيّة الروسيّة بشكل أكثر  بسبب رفضها ربط الأدب بالسياسة كما أشرنا في موقع سابق. وبالرغم من تعرّض الشكلانيّة إلى رفض كبير عبر تاريخ وجودها، وكان هذا الرفض هو الورقة الرابحة في يد منافسيها ليؤكّدوا سوءَ نظريتها، وانحرافها الأيديولوجي عن باقي المذاهب والمفاهيم النقديّة السائدة، لكنْ ممّا هو جدير بالذكر أن بعض النقاد الأدبيين الأكاديميين يميلون لظهور الشكليّة من جديد.(16). وهذا ما وجدناه في الشكليّة الميكانيكيّة, والشكليّة العضويّة والشكليّة النظاميّة, والشكليّة اللغويّة. فلنتعرف بشكل أوليّ على هذه المدارس الشكليّة:

أولاً – الشكليّة الميكانيكيّة:

     ورائد هذه المدرسة الأديب والناقد الروسيشيكلوفسكي” الذي راح يفند ما كان شائعاً في الأوساط الأدبيّة في روسيا آنذاك, بأن الأدب منتجاً اجتماعيّاً أو سياسيّاً, وأنه يخضع في تفسيره وفهمه للخلفيّة التاريخيّة والاجتماعيّة، وكذلك اعتبار الأدب تعبيراً شخصيّاً عن نظرة المؤلف للعالم يوضحها من خلال توظيف الصور والرموز. ولذلك انصب اهتمام “شيكلوفسكي” و”جمعية دراسة اللغة الشعريّة” التي يتزعمها على الطرق الشكليّة, والتركيز على التقنيات والأدوات، وقد ألف كتاباً أسماه (الفن كصنعة) «تمثل الأعمال الأدبيّة وفقاً لهذا الأنموذج (آلات ميكانيكيّة), فهي نتيجة جهد بشري مقصود يتم فيه استخدام المهارات الخاصة لتحويل المواد الخام إلى آلة معقدة مناسبة لغرض ما»(17). وعلى هذا الأساس فإن هذا المنهج يجرد المنتج الأدبي من ارتباطه المشترك بالمؤلف والقارئ والخلفيّة التاريخيّة والوجود الاجتماعي. وقد وضح “شيكلوفسكي” هذه المنهجية حيث أشار إلى أن الفن هو تفاعل الأدوات الأدبيّة والفنيّة التي يستخدمها الفنان لإنتاج أعماله. (18).

ثانياً – الشكليّة العضويّة:

     رداً على القيود التي فرضتها الشكليّة الميكانيكيّة, قام بعض الشكليين الروس باعتماد الأنموذج العضوي. حيث استغلوا أوجه الشبه بين الأجسام العضويّة والمظاهر الأدبيّة من ناحية انطباقها على الأعمال الفرديّة والأنواع الأدبيّة. فمقاربة الظواهر البيولوجيّة مع النظريّة الأدبيّة وفر إطاراً مرجعياً آخر لدراسات الأنواع الأدبيّة ونقدها. ولكن هذه المدرسة قد فشلت كالشكليّة الميكانيكيّة في تفسير التغيرات الأدبيّة, والتي تؤثر على الأدوات ووظائفها والأنواع الأدبيّة. (19).

ثالثاً- الشكليّة النظاميّة:

اشتملت المدرسة الشكليّة النظاميّة على الجانب الزمني في النقد الأدبي. ومن أهم الشخصيات في هذا النموذج هو “يوري تينيانوف”. (20).

رابعا – الشكلية اللغويّة:

تعد اللغة الشعرية، المادة الأولية في عمليات الإبداع الفني هنا، فاللغة موجودة في مخزون كل إنسان، والسبب في ذلك هو الأحداث التي يعيشها، ولغة الشعر تختلف عن لغة الكلام المنثور، لذلك فرق أصحاب النظرية اللغويّة في هذه المنهجية بين اللغة الشعريّة واللغة العمليّة. فالأخيرة – اللغة العمليّة – تستعمل في التواصل اليومي بين الناس لإيصال المعلومات, أي هي لغة تقريريّة. بينما. تجسد اللغة الشعرية كيان الشاعر وتعبر عن حالاته النفسية التي عاشها، وما زال يعيشها، تجاه قضية معينة، أثارت في نفسه مشاعر معينة، وتعرف اللغة الشعرية بأنها لغة جديدة، ومتجددة، بمعنى أنها قادرة على التعايش مع القضايا المختلفة، ومواكبتها، كما أنها تعبر عن رغبات الإنسان وميوله، وتسمى باللغة الباطنية، لأنها ليست لغة تقف على ظواهر الأحداث، والقضايا

وعند الشكلانيين الروس كما هو الحال عند “جاكوبسون وليف جاكوبينسكي”. والكثير من الناشطين أو المهتمين في هذا الاتجاه, فقد اهتموا باللغة الشعريّة كأساس لدراستهم وبحثهم. والأدب عموماً يعتمد بشكل أساس على الحقائق اللغويّة الصرفة كما بينا في موقع سابق. أما اللغة الشعريّة فتجعل للارتباطات اللغوية في الخطاب قيمة ذاتيّة. فالعمل الأدبي يتجاوز نفسيّة الكاتب والقارئ ويصبح له وجوداً مستقلاً بمجرد وضعه وإنشاءه.(21).

أثر المدرسة الشكلية الروسية على الصعيد الأدبي:

     كان للشكليّة الروسيّة بشكل عام أثر كبير في لفت الأنظار إلى الإشكالات الأساسيّة في النقد الأدبي والدراسة الأدبيّة، من ناحية الموضوع بالدرجة الأولى، حيث غيرت الشكلية كثيراً من المفاهيم التي تدور حول العمل الأدبي وطبيعته، وأرجعت القضيّة إلى أجزائها الأساسيّة التي يمكن الانطلاق منها. كما ساعدت الاتجاهات المتعددة في الشكليّة الروسيّة ما تقارب منها من بعضه وما تباعد, على ظهور مدرسة (براغ البنيويّة) في منتصف العشرينيات، وكانت أنموذجاً للجناح الأدبي في المدرسة البنيويّة الفرنسيّة في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين.(22).

المدرسة الشكلانية عند النقاد العرب:

     (رغم أنَّ الشكلانيّة الروسيّة تكوَّنت في بدايات القرن العشرين، وشكّلت إرثاً ضخماً امتدَّ إلى الثقافات الأخرى من الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة والألمانيّة, وأحدث هذا الإرث صدىً واسعاً في هذه الأوساط الثقافيّة، إلا أن قبولها من النقاد العرب جاء متأخراً, فلم تتم الترجمة لها أو الاهتمام بها قبل السبعينيات من القرن المنصرم، ولم يكن هناك عند الكتاب والأدباء العرب شيء ذو أهميّة فائقة أو كبيرة عن الشكلانيين ونظرياتهم والمناهج النقدية الخاصة بهم.). (23).. أو بتعبير آخر, (لم يستقبل النقاد العرب الشكلانيّة الروسيّة بالحفاوة ذاتها التي استقبلت فيها في بلدان أوربا الغربيّة، بل لم يكترث النقاد لأمرها إلا بعد مرور سنوات كثيرة، ففي السبعينيات من القرن الفائت بدأت حركة اهتمام متواضعة وخجولة بترجمات لا تكاد تذكر في الشكلانيّة الروسيّة، ولم يكتب للشكلانيّة التداول في الأوساط العلميّة والجامعيّة والأكاديميّة, ولا في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة قبل هذا الوقت.). (24). (ربما يعد كتاب “رينيه ويليك وأوستين وارين” المعنون بـ (نظرية الأدب)، أول كتاب نقدي يتطرق إلى الشكلانيّة ويترجم إلى اللغة العربيّة وذلك عام 1972، ورغم ذلك فلم يحظَ هذا الكتاب بالاهتمام ولم يلفت اهتمام القارئ العربي في المشرق أو المغرب إلى الشكلانيّة، رغم أهميته المدرسيّة والعلميّة وما في ثناياه من إشارة إلى أعمال الشكلانيين.). (25).

ملاك القول:

     على العموم, إذا انتقلنا إلى مرتكزات الشكلانيّة الروسيّة لفحص دعائمها النظريّة والتطبيقيّة، فيمكننا حصرها في النقط التالية:

     ١- (عدم الاكتفاء بالأعمال القيمة والمشهورة في مجال الأدب أثناء التطبيق النصي، بل توجهت الشكلانيّة الروسيّة إلى جميع الأجناس الأدبيّة، مهما كانت قيمتها الدنيا؛ مثل: أدب المذكرات، وأدب المراسلات، والحكايات العجيبة.. الخ, قصد معرفة مدى مساهمتها في إثراء الأعمال العظيمة, كما فعل “ميخائيل باختين” مع الأجناس الشعبيّة الدنيا في كتابه (شعريّة دوستويفسكي).) .(26).

     2- استعمال مصطلح السيميوطيقا، أو ما يسمى بالسيميائية  والسيميولوجيا: وقد (عرف مصطلح السيميولوجيا أوالسيميوطيقا على أنه علم حديث ظهر بفضل النتائج التي توصل إليها “دوسوسير” في مجال البحث اللساني, حيث اعتبرت اللغة في هذا المصطلح نظاماً من العلامات والرموز يهدف إلى تحقيق التواصل والتبليغ في مجتمع ما, وهو بهذا الشكل يقر بالطابع الاجتماعي للغة.).  (27).

     3- الاهتمام بخصوصيات الأدب والأنواع الأدبية. أي: البحث عن ما سمي بالأدبيّة، وما يجعل الأدب أدباً. (ويُذكَر أن “الشكليّة” كان لها دور كبير في تطوير النقد الروائي، نظرا لما جاءت به من مفاهيم خاصة حول: “الوظيفة”، و”الحبكة”، و”الحكاية”، و”التحفيز”، وغيرها.). (28).

     4- التركيز على شكل المضامين الأدبيّة والفنيّة، ودراستها في ضوء مقاربة شكلانيّة. وليست القضية من منظورهم قضية إنكار لهذا المضمون، فهم يعترفون بعلاقة “الفن” بالواقع الاجتماعي، ولا ينفون هذه العلاقة، وإنما القضية عندهم قضية تحديد تخصصات. إذ إن هذه العلاقة – من منظورهم – ليست من شأن الناقد، كما أن ليس عمله تحديدها أو تحديد “المضمون” الموجود في “الأدب”(29). وعلى هذا الأساس جاء انتقاد الشكلانيّة أيضا لإهمالها مشاكل علم الجمال، وإغفالها لمبادئ علم النفس وعلم الاجتماع، وتحويل الدراسة الأدبيّة إلى تطبيقات شكليّة وتقنيّة لا فائدة منها، كونها تَهْمِلْ الإنسان والتاريخ والمجتمع والنفس الإنسانيّة. أي: تهمل الذات المنتجة والذات المتلقيّة، وتقصي الواقع الذي يجمعهما على مستوى الإرسال والمرجع الاجتماعي بكل مستوياته. لقد كان هم الشكلانيين الأساس هو دراسة النواحي الشكليّة في (مظاهرها اللغويّة)، التي يتَّبعها العمل الأدبي, لكي يجعل من نفسه مغايراً للغة الخطاب العاديّة المستخدمة في الحديث اليومي، وذاك لكي يتمكن – العمل الأدبي – من تقديم تلك المعاني والحقائق التي اعتدنا عليها، في شكل نستطيع معه الإدراك على نحو أعمق وأكثر نضجا عما قبل. أي استقلاليّة الأدب عن الإفرازات والحيثيات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتاريخيّة والنفسية والأخلاقية, ودراسته باعتباره بنية مستقلة عن ما يحيط به).

    6- التشديد على خاصيّة الاختلاف والانزياح بين الشعر والنثر.  (30).

ختاماً: نقد وتقويم:

     بعد أن كانت الشكلانيّة الروسيّة موقفاً نقدياً ادبياً له حضوره الكبير لربطه بين الواقع والفكر, أو بين الشكل والمضمون في الأدب فمع مطلع القرن العشرين، أصبحت  جريمةً غير مقبولة في روسيا الاتحاديّة عندما تخلت عن هذا الربط الجدلي, والدليل على ذلك الحملات التي قام بها الإيديولوجيون الاشتراكيون ضد هذه النظريّة النقديّة؛ مثل “تروتسكي” الذي اعتبر النظريّة الشكلانيّة بمثابة اعتراض على الماركسيّة في روسيا السوفيتيّة، و”لوناتشارسكي” الذي وصف الشكلانية، في سنة ١٩٣٠م، “بأنها تخريب إجرامي ذو طبيعة إيديولوجيّة.”. إلا أن هذه الشكلانّية طُعمت بآراء التحليل الاجتماعي الماركسي مع أحد السوسيولوجيين الروس، وهو “أرفاتوف”، وأيضا مع “جان موكاروفسكي”، وكذلك مع البلغاريّة “جوليا كريستيفا” التي زاوجت، في تحاليلها النصيّة، بين الشكلانيّة والمقاربة السوسيولوجيّة الماركسيّة. وبهذا، كانت سباقة إلى تأسيس ما يسمى بالسيميوطيقا/ السيميائيّة الماديّة. (31).

      إن هذه الشكلانيّة الروسيّة – التي أفلت في سنوات الثلاثين من القرن الماضي – أصبحت مدرسةً مُرَحَّباً بها في أوروبا الغربيّة منذ سنوات الستين من القرن الماضي، ونالت ثناءً كبيراً من قبل الباحثين والدارسين. وفي هذا يقول “رومان جاكسون”: (وعلى الرغم من المخلفات المحزنة لهذه المواقف الكريهة – للشكلانيّة – فإننا نلاحظ اليومَ ميلا للتذكير بالاكتشافات الحقيقية للسانيات وعلم الجمال السوفياتيين، في العشرينيات، لإعادة تأويلها وتنميتها – أي الشكلانيّة الروسيّة – في هيئة جديدة خالقة؛ وذلك عن طريق مقابلتها بالتيارات الراهنة للفكر اللساني والسيميائي، وإدماجها في النظام المفهومي المستعمل اليوم. إن هذا الميل النافع ليتجلى بحيويّة في المناقشات، وفي الأعمال الجذابة لباحثين شباب، في كل من موسكو، ولينِنْغراد، وتارتو.” (32).

د.عدنان عويد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

*- (تم تشكيل مدرسة موسكو تارتو للسيميائية ونظرية العلامات بين عامي 1958 و1962. عندما انضمت مجموعة متنوعة من العلماء بشكل غير رسمي من الخمسينيات إلى الثمانينيات لتقديم بدائل للنهج السوفيتي الحاكم للغة والأدب والثقافة، وعملهم على تطوير لغويات دو سوسير بمفاهيمها المركزية عن الإشارة كوحدة للدال والمدلول.). يراجع موقع – e3 arabi – إي عربي.

*- (حلقة پراغ اللغوية : تكونها  عدد من علماء اللغويات والنقاد. وطور اعضاء الحلقة طرق التحليل اللغوي التركيبيّة بين عامي 1928 الي 1939 ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ورغم تشتت المجموعة ظل تأثير مدرسه براجغ واضحاً علي علم اللغويات. تزعم العالم التشيكي البارز “ڤيلم ماتسيوس” الحلقة حتي وفاته في 1945. ضمت الحلقة علماء روس مثل رومان ياكوبسون ونيقولاى تروبتسكوى وسرگي كراكڤييسكى وأيضا عالمي اللغة التشيكيين البارزين رينيه ولك ويان موكاروڤسكي.). يراجع مقع المعرفة – حلقة براغ.

1- (موقع: جامع الكتب الإسلامية – النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن ). بتصرف

2المرجع نفسه. بتصرف

3- المرجع نفسه.

4- (موقع سطور).

5- (الشكلية في الأدب”، www.marefa.org،). بتصرّف.

6- “المدرسة الشكليّة الروسيّة .. قراءة في النقد المعاصر”، www.ahewar.org، بتصرّف.

7- موقع سطور بتصرف.

8- (بيتر شناير، المدرسة الشكلانية الروسية، صفحة 33.).

9- (اوراد التويجري – “المنهج الشكلاني”، جامعة بابل). بتصرف

10- المرجع نفسه

11- (موقع سطور.). بتصرف.

12-  المرجع نفسه – بتصرف.

13- ( الشكلانيّة الروسيّة )”. www.uobabylon.edu.iq. بتصرّف.

14- ويكيبيديا . بتصرف .

15- (موقع سطور- بتصرف.

16- (“شكليّة”، www.wikiwand.com. بتصرّف.

17- ( مجلة دروب الأدب – المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث – د. لامية مراكشي. بتصرف).

18 – الوكيبيديا. بتصرف.

19- الموقع نفسه – بتصرف.

 20- (الموقع نفسه – بتصرف).

21- (الموقع نفسه – بتصرف. وحول أمفهوم اللغة الشعريّة – يراجع موقع موضوع – مفهوم اللغة الشعريةفرح عبد الغني.

22- (المرجع نفسه – بتصرف. وللاستزادة في معرفة “مدرسة براغ” يراجع موقع – هنداوي – المصطلحات الأدبيّة الحديثة – الفصل الخامس – مدرسة براغ.

23- (  لامية مراكشي، “المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث”، مجلة دروب أدبية.).

24- المرجع نفسه.

25- المرجع نفسه.

26- ).(ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٦ م.

27- (مصطلح السيميولوجيا وإشكالية الترجمة – لكاتب : حمادي فاطمة الزهراء .  https://www.asjp.cerist.dz/en/article/ ) .

28- (أهم أفكار الشكلية الروسية Russian Formalism – مدونة الناقد : وائل النجمي.).

29- ). (أنظر: تيري إيجلتون – مقدمة في نظرية الأدب – ص14.).

30- ( للاستزادة في معرفة الدعائم النظريّة والتطبيقية لنظرية أو منهج الشكلانيّة الروسيّة  نظر: الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٣ م، ص:٩. عن موقع (موقع: جامع الكتب الإسلامية – النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن).

31- (موقع: جامع الكتب لإسلامية النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن). بتصرف.

32- المرجع نفسه – بتصرف.).

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …