أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للتيارات اليسارية والإشتراكية) إلى واجهة النقاش العمومي أهمية ما تفرضه العولمة ومنطق نظام السوق الحديث من إعادة قراءة متجددة لدور الإشتراكية واليسار في العالم اليوم. بما يفيد أن الحاجة إلى هذا التوجه السياسي (في معناه الفلسفي وفي معناه الإقتصادي وفي معناه المجتمعي) هي حاجة ملحة لإعادة ترتيب أولويات بناء مستقبل البشرية.

لكن قبل طرح السؤال: ما معنى أن تكون اشتراكيا اليوم؟ أو أن نطرح ذلك السؤال الإستنكاري: هل لا تزال تمة حاجة إلى الإشتراكية اليوم؟. لا بد من طرح سؤال أشمل وأعمق، هو: ما معنى الدولة اليوم وما هي أدوراها في تنظيم وحماية مصالح الأفراد والجماعات في المستقبل، أمام تغول منطق نظام السوق في معناه الليبرالي المتوحش؟. أليس معنى “الحداثة” هنا كامنا في مدى الإنتصار فعليا لقيم حماية حقوق الإنسان في أبعادها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والمجالية. وأن ذلك هو دور التوجه الإشتراكي مستقبلا.

إنه أمام اتساع جغرافيات التطرف السياسي عالميا، بسبب الأزمة في فلسفة التدبير الذي أصبح يؤطر معنى الدولة اليوم، المسرع لبروز “أزمة الهويات”، يعود واضحا وجليا سؤال “أزمة المشاريع المجتمعية” في العالم. مما يجعل البشرية تجد نفسها أمام عطب في الفكر وفي إنضاج الأجوبة المجددة، الموجهة للمشاريع التاريخية الكبرى، الذي لا يفضي في نهاية المطاف سوى صوب التغول في الفكر وفي الممارسة. أكثر من ذلك فإنه لا يفضي سوى إلى اتساع نسيج الإنغلاقية والتطرف المستند على منطق “الخوف على الهويات” الذي هو مجرد هروب من واقع غير باعث للأمل في تحقيق حلم التعايش والتكامل.

ها هنا يكمن في ما أتصور عمق الأزمة التي تواجهها البشرية اليوم، الذي يطرح في العمق معنى السياسة ومعنى الدولة، وأدوارهما في جعل الفرد منخرطا ضمن أفق لمشروع مجتمعي موسع لأسباب التكامل بين الجهات، منظم للسوق، بالشكل الذي يجعل الكرة الأرضية، فضاء للتعاضد والتكامل والمشاركة في صناعة مستقبل هذه القرية الصغيرة، التي نجحت ثقافة الصورة في أن تجعلها بيتا مشتركا لكل بني البشر، على مستوى إنتاج القيم (المعنى الإيجابي للعولمة).

إن الرؤية إلى الإشتراكية اليوم لا يمكن أن تكون معزولة عن هذا المعنى العام لواقع العلاقات الدولية. مما يجعلها عمليا اشتراكيات متعددة بتعدد شكل أدوار كل مجتمع (بخصوصياته الثقافية والتنموية وبناه الإجتماعية ومدى تملكه لأسباب العلم والتكنولوجيا)، ضمن منظومة السوق العالمية. وأن الأزمة المركبة الآخدة بخناق العالم اليوم، التي نجد ترجماتها في اتساع أشكال التطرف السياسي والثقافي والديني، هي التي تجعل إلحاحية الرهان على أمل الجواب الإشتراكي كبيرة وواضحة.

يطرح ذلك تحديا معرفيا ورؤيويا على الفكر الإشتراكي نفسه، كي يبدع من داخله جوابا سياسيا ومعرفيا جديدا، يقدم الحلول للأزمة السياسية القيمية الآخدة بخناق البشرية هنا والآن. ذلك بعض مما تحاول منظمة دولية مثل “الأممية الإشتراكية” أن تطرحه من خلال نوعية برامجها ونقاشاتها خلال العشرين سنة الأخيرة، سواء في شقها الإقتصادي المحض أو في شقها التدبيري لتحقيق “الحكامة”. لقد فرض التراكم التكنولوجي في العالم واقعا جديدا لنظام السوق، تهاوت فيه نهائيا معادلات التدافع الكلاسيكية التي أفرزها النظام العالمي لما بعد 1492، الذي نقل أمر التحكم في التجارة العالمية حينها من البر إلى البحر. ونقل بالإستتباع ثقل القرار السياسي والقيمي والحضاري عالميا من “جغرافيات العرب والمسلمين” (الجنوب القديم) إلى جغرافيات “الغرب المسيحيين” (الشمال الجديد). بكل ما أفضى إليه ذلك، في ما بعد، من معنى جديد للدولة المركزية المسنودة ب “نظام للمدينة” جديد، منظم للخدمات العمومية منذ القرن 16، فارض لدورة إنتاج جديدة ولسوق استهلاك جديدة ولإنتاج للثروة والتحكم في توزيعها جديد، انتهى إلى غلبة ذلك الشمال على الجنوب، من خلال موجات متعددة الأشكال لفرض منطق للنظام العالمي على امتداد 3 قرون من القرن 18 حتى القرن 20 (كانت قمته هي تجربة الإستعمار كمنهج تحكمي مباشر طيلة القرن 19 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وميلاد هيئة الأمم المتحدة سنة 1948، استنادا على مبادئ ويلسون الأمريكية 14 لحق الشعوب في تقرير المصير وحماية السلم العالمي، التي صدرت قبل مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918).

لقد فرض التراكم التكنولوجي هذا (في كافة أبعاده التواصلية وعلى مستوى البنى التحتية وعلى مستوى تملك الفرد للمعارف) تبلور خريطة جديدة خلال الربع الأخير من القرن الماضي لإنتاج الثروة عبر العالم، من خلال بروز لمجموعات بشرية من الجنوب، أنضجها شكل تدبيري حداثي للدولة بها وضع نقطة النهاية للقطبية الكلاسيكية عالميا بين الشمال والجنوب كما تبلورت منذ 1492. حيث أصبح العالم مؤطرا من خلال تعدد لما يمكن تسميته ب “قطبيات جهوية وقارية جديدة”. جعلت لأول مرة منذ 4 قرون دولا كانت ضحية للإستعمار قوى صاعدة خلقت توازنا جديدا للنظام العالمي ولدورة إنتاج الثروة فوق الكرة الأرضية مثل الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا ومجموعة ثنينات الهند الصينية. مما أصبح معه إلزاميا تغيير البنية المعرفية للتحليل السياسي الكلاسيكية التي كان قد أفرزها أساسا منطق غلبة الشمال الغربي على الجنوب المتعدد الهويات. كان من ضمنه الجواب الإشتراكي كما بلوره الصراع الطبقي العمالي/ الرأسمالي بالمجتمعات الصناعية للشمال. الذي تحول ليصبح نموذجا عالميا يبشر لمشاريع مجتمعية حداثية، عادلة، تشاركية ومنصفة.

هذا يعني أن الإشتراكية اليوم أصبح إلزاما عليها أن تعيد موضعة أطروحاتها ومشروعها المجتمعي ضمن أفق عالمي جديد، مختلف تماما عن المنطق الذي أفرز اشتراكية القرن 19 والقرن 20.

أي أن تصبح الإشتراكية في القرن 21 اشتراكية متعددة، بتعدد الأقطاب الجدد للنظام العالمي الجديد، الذي تبلور منذ سقوط جدار برلين سنة 1989.

ها هنا تبرز مغربيا أهمية قراءة تجربة الإشتراكيين المغاربة (الأصلاء)، ليس فقط ضمن عمقهم المغاربي والعربي والإسلامي والإفريقي بل ضمن عمقهم العالم ثالثي. كونهم انتبهوا باكرا إلى أهمية الإستقلال برؤية سياسية لثقافة اشتراكية نابعة من عمقهم المغربي، متصالحة مع ممكنات ما تهبه تربة الثقافة السياسية للمغاربة، في بعديها الدولتي والمجتمعي. الأمر الذي تحقق من خلال الأرضية السياسية التي بلورتها الحركة الإتحادية البوعبيدية (نسبة إلى الزعيم الكاريزمي عبد الرحيم بوعبيد) في مؤتمرها الإستثنائي ليوم 11 يناير 1975، وللتاريخ هنا مغزاه المغربي الخاص المحيل على نوع من تجديد وثيقة “11 يناير 1944” التي لم تؤطر حينها فقط المطلب الشعبي المغربي للإستقلال، بالتنسيق بين الحركة الوطنية والقصر، بل وضعت الخطاطة البكر لطموح المغرب الجديد كملكية دستورية ديمقراطية.

إن أرضية 1975 تلك هي التي ستعرف في التاريخ السياسي الحزبي المغربي الحديث ب “استراتيجية النضال الديمقراطي”، التي بلورت الشعار السياسي للإشتراكية المغربية المحدد في ثالوث “اشتراكية/ ديمقراطية/ تحرير”. مثلما بلورتها أيضا وثائق تحليلية أخرى لا تقل أهمية، لعل أشهرها وثيقة “أزمة المشروع المجتمعي” خلال المؤتمر الثالث لحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية سنة 1978، ثم وثيقة “28 نونبر 2008” التحليلية النقدية لقراءة حصيلة 10 سنوات من المشاركة في الحكومة (الوثيقتان الأخيرتان غير موجودة ضمن أرشيف الحركة الإتحادية للأسف، كما لو أنها لم توجد قط).

إن معنى الإشتراكية اليوم كامن في الإجتهاد لبلورة رؤية سياسية جديدة، منصفة مجاليا عبر قارات الكرة الأرضية (هنا التجربة الإفريقية حاسمة وهامة، كونها قارة ناهضة مستقطبة لطموحات العالم الإقتصادية خلال القرن 21 كله). منصفة مجاليا أيضا، جهويا وإقليميا (حلم مشروع المغرب العربي وبلورة الفضاء الآفرو متوسطي من طنجة حتى قناة السويس، كمثال في ما يخصنا مغربيا). ثم أخيرا منصفة مجاليا ضمن جغرافيتنا المغربية دولة ومجتمع.

هذا يسميه البعض “مواجهة العولمة” بينما الحقيقة أن الأمر أعمق من ذلك، لأن الوجود البشري كله أصبح مهددا فوق الكرة الأرضية بسبب أزمة المناخ كنتيجة لشكل من التدبير التنموي لنظام السوق. وأن التحدي اليوم هو بلورة رؤية جديدة لمشاريع مجتمعية عبر العالم، تعيد موضعة دور الدولة تبعا لخصوصية كل مجموعة بشرية عبر العالم، تؤطرها منظومة تدبيرية وتراكم في التجربة التنظيمية لمعنى الدولة وقيمة وحجم مساهمتها ضمن منظومة الإنتاج العالمي.

إننا في حالتنا المغربية ملزمون بإعادة بلورة مشروع جديد للفكرة الإشتراكية، تجدد العلاقة مع السؤال الديني كقيم حضارية وكونية، بذات الأفق الذي بلورته السلفية العقلانية والوطنية المغربية في ثلاثينات القرن 20، من خلال سيرة أقطابها الكبار أبى شعيب الدكالي وشيخ الإسلام بلعربي العلوي والمختار السوسي وعبد الله كنون. مثلما عليها تجديد العلاقة مع سؤال المشروع المجتمعي المغربي عبر سؤال الحداثة في معناها التنموي المنصف، المحقق للتوزيع العادل للثروات بين الأفراد والجهات. على أن يكون ذلك كله من خلال الدفع نحو إعادة بلورة ترسيم خريطة جديدة لدفتر تحملات الدولة المغربية، يجعلها أداة ناظمة لسلاسة تحقق ذلك الإنصاف المجالي التنموي والحقوقي والثقافي.

بهذا وحده مفروض أن يصبح للفكرة الإشتراكية مغربيا مشروعها المستقطب (ضدا على منطق التقاطب). ويصبح لها دورها النوعي ضمن منظومة سؤال الإشتراكية العالمية. بما يساهم في وضع العنوان الجديد على أن مشروع الإشتراكية عالميا وحضاريا خلال القرن 21 كله، كامن ليس فقط في تجاوز وهم التنازع بين “الإشتراكية الديمقراطية” (النموذج السويدي والأسكندنافي عموما) و”الديمقراطية الإشتراكية” (النموذج البريطاني والألماني). على اعتبار أن الأولى منتصرة لنظام اقتصادي يطمح إلى الإنتقال من الإقتصاد الرأسمالي صوب الإقتصاد الإشتراكي، بينما الثانية تؤمن أساسا بأهمية إصلاح النظام الرأسمالي ليكون أكثر إنسانية وإنصافا في مجال توزيع الثروة. ليس ذلك فقط، بل كامن في بلورة معنى جديد لقيمة السياسة في عالم اليوم، يكون للدولة فيه دور حمائي، توازني، كعنوان أسمى لمعنى سيادة القانون، الذي هو العنوان الأسمى لضمان التحضر وقيم حقوق الإنسان في معناها الحضاري. وأيضا أن تكون الضامن لحماية الحقوق الإجتماعية لكل الشرائح المجتمعية، بما يعزز من روح التضامن، الذي هو الترياق لتجسير الثقة بين قوى الإنتاج في المجتمع. وأن ذلك لا يمكن أن يتحقق بدون حماية لدور الطبقة المتوسطة، بصفتها صمام الأمان لإنتاج القيم التكاملية المفرملة لكل ممكنات التطرف بين الغنى والفقر.

لقد تعزز هذا اليقين عالميا أكثر (حتى في قلب أقوى القلاع الليبرالية الرأسمالية بواشنطن) مع تفجر أزمة 2008 المالية التي أفرزت الوجه المتوحش الخطير لنظام السوق القائم على دعم السوق (Market) على حساب الدولة (State)، حيث سجل تدخل غير مسبوق للرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما لإعادة دور تدخلي للدولة كناظم للتوازنات (بعض الكتابات ذهبت حينها إلى التأكيد على أن الإدارة الديمقراطية الأمريكية عادت لاستلهام دروس كتاب الرأسمال لكارل ماركس). ثم تعزز أكثر مع تفجر وباء جائحة كورونا الذي اتضحت فيه عالية أهمية عودة الدولة كمؤسسة حامية، ضامنة للتضامن، موجهة للسياسات العمومية بما يحقق الأمن في معناه العام (كانت التجربة المغربية فيها غنية بالدروس على مستوى تجسير الثقة بين الدولة والمجتمع).

واهم إذن من يعتقد بنهاية وموت الفكرة الإشتراكية في الجنوب أو عالميا. بل إن ميلادها الجديد (كوعد)، أصبح قائما اليوم بشكل أكثر إلحاحية، أمام تغول التطرفات المتراكبة عالميا هنا وهناك. لأنها باب أخرى لمنح الأمل للإنسان وللبشرية، كونها البنية الفكرية المؤهلة أكثر لبلورة أجوبة تاريخية حول تحديات عالم الغد. وذلك بعض مما تقدمه لنا دروس اللعبة الديمقراطية (الحقيقية مؤسساتيا) خلال سنتي 2023 و2024 في البرازيل، إسبانيا، إنجلترا وفرنسا.

‫شاهد أيضًا‬

التغول السياسي إفساد متعمد للمؤسسات التمثيلية * محمد إنفي

مرت التجربة الديمقراطية المغربية الفتية بأربعة عقود ولاَّدة لأحزاب إدارية؛ وكانت تُصنع الخ…