للتعصب مداخل عدة، لذلك لا يمكن تحديد أشكال تحققاته إلا من باب التقدير. فقد يكون فرديا وقد يكون جماعيا بل يمكن أن يتسرب إلى ما يشكل العناصر الثقافية الأصلية في تراث أمة من قبيل اللغة، وهي الأداة التي يتم من خلالها التقطيع المفهومي ومن خلالها تصاغ الرؤى المختلفة للذات والآخر والعالم أجمع : سياقات الخير والشر والصدق والكذب والحب والكراهية ليست هي بالضرورة نفسها عند غيرنا، وكذلك الأمر مع أسماء الأشياء والكائنات وصفاتها ( نهد المرأة ليس هو ثديها، والضرغام ليس هو الأسد).
ألم يتحدث رينان عن عبقرية اللغة الفرنسية وتفوقها على كل اللغات، وتحدث الإغريق عن لغتهم باعتبارها الوعاء المخصوص للتفكير العقلاني. كما تغنى جوهان غوتفريد هيردر باللغة الألمانية باعتبارها روح الأمة الألمانية والتعبير الأسمى عن عبقريتها، وقبلهم تحدثنا نحن طويلا عن اللغة العربية وقدرتها وحدها على التعبير عن كل المعاني، وقدرتها على الكشف عن السر الإلهي كما تخبؤه النصوص الدينية ومحيطاتها المباشرة وغير المباشرة ( آراء الشافعي والشاطبي معروفة حول ضرورة التفقه في اللغة العربية كشرط لفهم النص واستنباط الأحكام).
إن التعصب لا يوجد في السياسة والإيديولوجيا والانتماءات العقدية المتنوعة فحسب، إنه يستوطن كل المناطق المحددة للوجود الإنساني. إنه يتخلل الأحكام والتقويم والرؤية، وهو أساس تصورنا للزمنية الإنسانية ذاتها. إنه في الحكايات، فنحن نضمن قصص الكبار والصغار ما يؤكد تفوقنا: جحا العربي أذكى دائما من جحا العجم، والقذارة من نصيب اليهود، والرائحة عيب من عيوب الزنوج. إننا بذلك نرسم خطا فاصلا بين تاريخ نحن بنيناه، وبين تواريخ ليست سوى هوامش على زمنية أصلية ستستعيدها الذاكرة الكبرى التي هي ذاكرتنا نحن ولا شيء سواها. ما يبدو لنا مألوفا قد يكون غريبا عند الآخرين: الأسماء ذاتها تفقد وحشتها عندما تتسلل إلى اللغة من خلال اللكنة والتنغيم الصوتي وإكراهات التركيب والدلالة : كم يتعجب الفرنسيون عندما يقال لهم إن أسماء من قبيل موسى وعيسى وإبراهيم هي في النطق والمضمون أسماء عربية.
ومع ذلك للعلم موقف آخر. فلم يرد في تعريف السميائيين وكل اللسانيين المعاصرين ما يفيد تفوق لغة على أخرى، لا في تغطية حاجات اليومي ولا في تدبير الشأن العلمي ولا في التعبير عن أشد الحاجات الإنسانية عمقا. وحده التفاوت في وتيرة تراكم المعارف والإنتاج العلمي يميز بين اللغات في المردودية لا في تحديد التفوق العرقي. لكل لغة طريقتها في الإمساك بالمدرك الخارجي ولها طريقتها في التعبير عن الكونيات الدلالية، ولها صيغها في تقدير العدد واللون والنوع. إنها الثقافة الخاصة بشعب كما تتسرب إلى اللغة وكما يتم نقلها من جيل إلى آخر. وليس في ذلك أي حكم مسبق. إن الأمر يتعلق باختلافات هي من صلب الوجود الإنساني ذاته.
إن التعصب يعمي، فهو يحول التفاوتات الممكنة بين الشعوب، وهي تفاوتات تاريخية وليست أصلية، إلى تفاوتات طبيعية تستند في أغلب الأوقات إلى العرق : ألم يصرح بيرلسكوني بعد أحداث 11 سبتمبر في” لحظة غضب كاشف ” عن تفوق الحضارة الغربية على نظيرتها العربية الإسلامية. وكان أول رد فعل لرئيس أمريكا تصريحه بأن الأمر يتعلق بحرب صليبية جديدة.
إن الشعوب لا تتميز عن بعضها البعض بانفرادها بمضامين لا نظير لها. إن الأمر لا يتجاوز ما يمكن أن يحيل على الطريقة التي يتم من خلالها توزيع المضامين الكونية وتنظيمها واستهلاكها. إن المضامين خارج أشكال تحققها عماء لا يمكن أن يقول أي شيء، إنها ليست شيئا آخر خارج ما رُسم على شكل كونيات بلورتها الإنسانية مجتمعة على مر السنين، ووُزعت بالتساوي على الثقافات المختلفة لتصوغها وفق خصوصياتها.
وهذا أمر بالغ الأهمية، فالعنصرية والشوفينية والكراهية وكل الأمراض الحضارية المعاصرة هي وليدة الاعتقاد بوجود ” حقيقة مثلى” يمتلكها هذا الطرف أو ذاك، وعلى أساسها ينظم علاقاته بالآخرين ووفقها يحكم عليهم. إن أخطر ما يمكن أن يصيب أمة ما هو شعورها بالوحدة” على حد تعبير شتراوس. فالاعتقاد في التميز المطلق هو انفصال عن زمنية تنوع وتغني، والارتماء في أحضان زمنية لاتاريخية وبلا أفق.
إنه الوجه الآخر لتقدير المعاني في التحقق والاحتمال على حد سواء، إنه تقدير لحجمها وللسيرورة التي تقود إليها : لا يرى الجالس ما يراه الواقف، ومن يرى من ثقب الباب لا يرى ما يمْثُل أمام ناظري من يطل من شرفة، ومن تكبله الأحكام المسبقة لا يرى في الوقائع إلا ما تبيحه هذه الأحكام : إنها مصافي مضافة عبرها تأتي ” الحقيقة ” إلى العين، فالحقيقة هي ما تبيحه النماذج، وخارجها ليست سوى كم عرضي بلا قيمة أو مردودية.
إن المعنى كالحقيقة، لا يوجد في نفس المؤلف وليس سرا تخبؤه الوقائع في ثناياها. إنه معطى مع سيرورات التمثيل، ومتعدد تعدد المناطق الإنسانية التي يغطيها. فبما أن كل سيرورة تخلق سياقها الخاص، فإننا لا نستطيع تصور إحالة تكون قادرة على التعبير عن الحقيقة من خلال تمثيل واحد : ما يبيحه هذا السياق قد يرفضه سياق آخر، وما يشكل حدثا في هذه الثقافة قد لا يكون سوى فعل عرضي بلا قيمة في ثقافة أخرى. إن الكلمات ليست حضنا للدلالات القبلية بل موقعا يتجدد بتجدد السياقات.
وهذا نقيض ما تعبر عنه الرؤى التقليدية وتدافع عنه في السر وفي العلن. فالمعرفة عندها ليست سيرورة تتم في الزمان ووفق إكراهاته، بل هي معطى كلي أدرك سره سلف أوتي حكمة أهلته ليكتشف الحقيقة ذات زمان وأودعها في متون لا يأتيها الباطل من كل الجهات. وليس لنا نحن الخلف سوى شرف التأويل لما جاءنا عبر التواتر والأسناد الثابتة والمتغيرة، وما احتوته كتب الأولين. وهكذا، فكل معرفة حقيقية هي بالضرورة معرفة قديمة وغامضة غموض الوجود ذاته. دعوة أخرى للكسل الذهني، وسبيل متجدد نحو العنف والرفض الأعمى للآخر والانكفاء على الذات خوفا من ذوبان وهمي في شيء آخر غير الذات.
إن تعدد زوايا النظر مدخل لنبذ العنف والحقد والكراهية والتعصب. إن التسامح لا يباع في المتاجر وليس سرا مخبأً في تراث الأمة. إنه منطق في التعاطي مع الحقيقة: حقيقة التاريخ وحقيقة السلوك اليومي وحقيقة الوقائع وحقيقة النصوص أيضا. إن المعنى في تصور العين المتعددة ليس سوى اقتراب من حقيقة قد لا نصل إليها أبدا ، أو قد نمني النفس بالوصول إليها، أو قد نستمتع فقط برؤيتها تلوح في أفق بعيد يغري بالتقدم دوما إلى الأمام.
لذلك فالتعدد لا يبيحه التسامح بل يحميه الاختلاف: التسامح شفقة وتنازل، أما الاختلاف فحق إنساني. إن الوحدة والتوحد والانعزال وحشة ورتابة لا تطاق، أما التعدد فحياة في الآخر وفي النفس وفيما يأتي به المستقبل كتراكم منتج لا يلغي الماضي ولكن يضيف إليه الخبرات الجديدة.