لنتوقف في البداية عند هذا العنوان كي نتبين الأسباب التي تجعلنا لا نتكلم فيه عن الحداثة بدل التحديث. وتوضيحا لذلك لنميز بين مفهومين عن الحداثة، أو لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي ينظر إلى الحداثة كحقبة تاريخية تبلورت في نقطة بعينها ومكان بنفسه؛ ثم موقف آخر لا أقول بنيويا، وإنما أفضل أن أنعته بالموقف الاستراتيجي.
بينما يتسم الموقف الأول ببرودته الوضعية وسمته الوصفية التي تنظر إلى الحداثة كمجموعة من المميزات التي طبعت حقبة تاريخية معينة، فإن هذا الثاني يعتبر الحداثة عصرا وليس مجرد حقبة، أي أنه ينظر إليها من حيث إنها شكل من أشكال العلاقة المتوترة مع غيرها. وهذا يفترض أن الحداثة ما تنفك تدخل في صراع مع ما ليس إياها، وإنها حركة انفصال دؤوبة هي بالضبط ما نقصده هنا بالتحديث.
فليس اختيارنا إذن لصيغة المصدر إلحاحا فحسب على المظهر الحركي الديناميكي للحداثة، وإنما على الخصوص، إبرازا للطابع الجدلي الانفصالي المتوتر للتحديث، وارتباطه الدائم بما ليس هو، أي بما أصبح يسمى عندنا تأصيلا.
لا بد إذن ونحن نطرق مسألة الفكر المغربي والتحديث من أن نجد أنفسنا نتحدث عن مسألة التأصيل ذاتها.
هذا الربط بين التحديث والتأصيل لا ينبغي أن يفهم هنا على أنه مجرد “توفيق” ذي شكل جديد. ومع ذلك فلو حاولنا أن نحدده بصيغة إيجابية لتعذر الأمر بعض الشيء: ذلك أنه يتخذ صورا متنوعة حسب المفكرين، وهذه الصور تتراوح بين مجرد العودة الباردة إلى التراث إلى محاولة إقامة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل تتخذ هي نفسها صيغا متعددة. صحيح أن تلك الصيغ تكاد لا تتمايز، وقد نلفيها جميعها عند المفكر الواحد حسب الفترات والمناسبات، إلا أن باستطاعتنا مع ذلك أن نميز بين نماذج عدة:
النموذج الأول يعتبر أن كل تحديث للفكر العربي مشروط بالتأصيل كما “يعتبر العكس صحيحا”
[1] والتأصيل في نظره هو “عملية التبيئة الثقافية” و”محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا، للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه، بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا”[2].
ذلك أن ما هو مطلوب منا، إزاء ما ننقله، “سواء أتعلق الأمر بالأفكار والنظريات أم بالنظم والمؤسسات، هو العمل على تبيئتها في وسطنا واستنباتها في تربتنا”[3].
لا يتعلق الأمر بإثبات سبق للفكر العربي في جميع الميادين، ولا بمحاولة إيجاد المفهومات ذاتها هنا وهناك، وإنما بالقيام بمجهود فكري غير يسير متعدد الواجهات يطلق عليه صاحبه “تجديد ثقافتنا من داخلها”. وهذا “التجديد من الداخل” يتبع استراتيجية ذات ثلاثة أبعاد: نقد التراث، ونقد الحداثة نفسها والكشف عن مزالقها ونسبية شعاراتها، ثم التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا[4].
ذلك أن طريق الحداثة عندنا “يجب أن تنطلق حسب هذا الموقف من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل”[5]. فلا يعني التحديث هنا “القطيعة مع الماضي بقدر ما يعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة”[6]. وهذا ما يمكن أن ينقذنا من مخاطر الحداثة الرائجة عندنا، والتي “تستوحي أطروحاتها وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية التي تتخذها “أصولا” لها”.
وإن السؤال الأساس الذي يطرحه محمد عابد الجابري، الذي هو خير من يمثل هذا الموقف، هو “كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه، ويوظفها توظيفا جديدا”؟[7].
فهو يصرح أن اهتمامه بالتراث يستجيب لحاجة عملية يفرضها وضعنا الحالي. كما يعلن أن استراتيجيته لا تبغي الهدم وإنما تبحث “عما يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية، وهي المهمة المطروحة في الظرف الراهن”[8]. إنه، كما يقول، يروم تدشين عصر تدوين جديد “تعاد فيه كتابة التاريخ الثقافي العربي بتوجيه من طموحاتنا، نحن العرب، في التقدم والوحدة”، لذا فهو لا يجد مفرا من العودة إلى التراث، ومن الوقوف عند عصر التدوين، لا كلحظة ممتازة من لحظات التاريخ الكرونولوجي، ولا كعصر مضى، وإنما من حيث هو عصر “حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له، وفي كل ماض آخر منظور إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية، كما هو حاضر في مختلف أنواع الغد التي أعقبته”[9]. العودة إلى الأصول إذن تعني متابعة الكيفية التي ترسخت بها “طرق في العمل والإنتاج، وأساليب في الإقناع ومقاييس للقبول والرفض”[10].
لكي تغدو هاته العودة إلى الأصول تأصيلا ينبغي “جعل التراث معاصرا لنا” كما يقول صاحب هذا الموقف، ومحاولة إرساء المرجعية داخله للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة.
يقوم تأصيل المفهوم إذن على نقله إلى ثقافتنا و”إعطائه مضامين داخلها تتناسب مع المضامين التي يتحدد بها أصلا في الثقافة الأوروبية التي منها نقلنا هذا المفهوم”[11].
فإذا كانت الحداثة على سبيل المثال تستعمل مفهوم حقوق الإنسان “فإن ما نعنيه بالتأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر هو إيقاظ الوعي بعالمية حقوق الإنسان، وذلك بإبراز عالمية الأسس النظرية التي تقوم عليها والتي لا تختلف جوهريا عن الأسس التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربية. ومن هنا يبرز الطابع العالمي-الشمولي، الكلي، المطلق لحقوق الإنسان داخل الخصوصية الثقافية نفسها”[12]. “ذلك أن الأبعاد الثقافية الحضارية لحقوق الإنسان هي أبعاد إنسانية، تشترك في التعالي بها، فوق الواقع الثقافي الحضاري القائم، جميع الثقافات”[13]. ومعنى العالمية هنا أن تلك الحقوق “تقوم على أسس فلسفية واحدة. أما الاختلافات فهي لا تعبر عن “ثوابت ثقافية”، وإنما ترجع إلى اختلاف “أسباب النزول”[14] أي اختلاف الظرف التاريخي.
المسلمة الأساسية هنا هو أن لكل من التراث والمعاصرة طابعا عالميا و”الطابع العالمي لتراثنا العربي الإسلامي والطابع العالمي للفكر المعاصر يجعلان طرح الأصالة في مقابل المعاصرة بمثابة وضع الفكر الإنساني في مقابل نفسه”[15].
هذه المسلمة هي ما يرفضه النموذج الثاني. وحينما يتساءل هو كذلك عن وضعية مفهوم حقوق الإنسان عند الأسلاف يجيب “فتفكير فقهائنا اتجه أولا إلى حقوق الله. فكون هذه الحقوق هي حقوقا للإنسان بما هو إنسان، وكونها عالمية، إنما هو تصور جديد، وهو وليد القرن الثامن عشر”[16]. وعلى رغم ذلك فهذا النموذج يتحدث هو كذلك عن التأصيل: نقرأ عند علي أومليل الذي يجسد في نظرنا هذا النموذج: “تبقى مسألة التأصيل الثقافي لفلسفة هذه الحقوق مسألة رهينة بالاجتهاد الفكري، وهي مهمة ملقاة على عاتق مثقفينا”[17]. لذا فهو لا يبتعد كثيرا، على الأقل في منطلقاته، عن الموقف الذي تحدثنا عنه. وحينما يجيء إلى التراث فليتساءل هو كذلك: “هل تحصل فيه رصيد يمكن أن يؤسس حديثنا اليوم بلغة الحداثة واستعمالنا لمفاهيمها؟” فالحداثة تتكلم عن العقل والديمقراطية والعلم والفعالية والنسبية والاختلاف والحق والتعدد والتسامح والكونية والمثقف والجماهير والجدل والرأي العام واللاوعي والالتزام.. فهل في تراثنا ما من شأنه أن يكون أساسا وأصولا لاستعمالنا نحن الآن لهذه المفهومات؟
الرجوع إلى التراث هنا محاولة تأصيل تفحص ما إذا كان التراث مساعدا على تكوين عقلية حديثة أو عائقا ضدها. في هذا الإطار يتساءل المفكر نفسه في كتابه في شرعية الاختلاف: “هل تحصل من هذا كله رصيد يمكن أن يسند دعوانا الآن إلى مشروعية الاختلاف في الرأي وإلى ترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟”[18] فيجيب: “هناك مواقف في تراثنا حصل فيها القبول بالرأي المختلف والمخالف وأنتج مناظرات أغنت الفكر العربي، إلا أنها حالات قليلة طابعها الانقطاع”[19]. “فالاختلاف رفض دائما على مستوى الإيديولوجيا ولو أنه واقع مستمر”[20].
وعندما يتساءل هذا المفكر المغربي نفسه، في مؤلف آخر، عن الدور الذي يمكن أن يناط بالمثقف العربي حاليا، يقرن سؤاله بسؤال آخر: “ما هو السند الذاتي للمثقف العربي في تراثه الثقافي حين يدعي لنفسه دورا وحين يطمح إليه؟ لمن كانت السلطة العلمية وباسم ماذا؟ وما حدودها؟”. وهو يجيب على ذلك قائلا: “إن الكاتب العربي المعاصر، وهو يدعو إلى “الالتزام” فإنه لا يجد لدعواه أي سند في تاريخ مجتمعه، بل هي دعوى حديثة، عليه أن يناضل أولا من أجل توفير شروطها، أي شروط المجتمع الديمقراطي”[21].
الجواب السلبي عينه نصل إليه إن نحن تساءلنا عن إمكانية العثور على أصول لمفهوم التعددية في ثقافتنا: “الحقيقة واحدة تقوم عليها سلطة واحدة: هذا هو ما آل إلينا من هؤلاء العلماء. فلا يمكن أن نستند إليه ونحن ندعو إلى مشروعية التعدد”[22].
والظاهر أن الاختلاف بيننا وبين ثقافتنا الأصلية هذه يتجذر، في نظر هذا المفكر، حتى يبلغ الأسس المادية التي يقوم عليها كل فكر: “فالعمران كمفهوم إسلامي لا يتناسب مع مفهوم المجتمع كما تم استعماله منذ الثورة البورجوازية في الغرب. ذلك أن البورجوازية من خلال حركتها التاريخية فصلت مجتمعها عمليا عن المجتمع القديم الذي يعتبر الدين عماده الأساسي. وانطلاقا من هذا وحده أصبح الكلام الوضعي حول المجتمع ممكنا”[23]. أما الجدلية كمنطق للتاريخ فما كان لها أن تظهر لوعي مفكرينا، بمن فيهم ابن خلدون نفسه “لأن الوضعية التاريخية لم تكن تتيح ذلك، فلم يكن هناك من قوة اجتماعية قادرة على تحويل المجتمع تحويلا جذريا وفصله فصلا نهائيا عن هياكله القديمة”[24].
ها نحن نرى أن كل محاولة من محاولات تأصيل مفهوم حديث لا تنتهي حسب هذا الموقف إلا نهاية سلبية، وذلك بعد طريق غير قصير. إذ أنه يعلن في النهاية، وكل مرة، أنه لم يجد في التراث ما افترضه فيه، فيشعرك أن عملية التنقيب كانت يائسة منذ انطلاقتها.
وعلى رغم ذلك، فإن لهذا الموقف ما يبرره. خصوصا إن وضعناه ضمن سياق ثقافي تكثر فيه الأطراف التي توظف التراث من أجل دعاوى مختلفة. حينئذ يبدو هذا الموقف تقويما لوضع، ورد فعل ضد أولئك الذين يرون في تراثنا سبقا مطلقا لكل ما جاد به التاريخ وما سيجود به.
سيغدو التأصيل هنا إرجاع الأمور إلى أصولها، ورد فعل ضد كل المواقف التي تقوم على الخلط بين العصور، أي ضد كل القراءات الإيديولوجية للحداثة وللتراث معا.
ثم إن من بين فضائل هذا النموذج كذلك أنه لا يكتفي بالإعلان عن “قطيعة” مبدئية وتلقائية بين التراث والحداثة، وإنما يعمل على إثباتها وتأكيدها بصدد كل مسألة، بل في مستوى كل مفهوم على حدة.
هذا بالضبط ما يميزه عن نموذج آخر من التأصيل يجزم من البداية بأنه لا فائدة من هذا النقد الجزئي. وما يفيد هو “طي الصفحة، أي القطيعة المنهجية”[25].
لعل خير من يمثل هذا النموذج في المغرب هو عبد الله العروي، الذي يرى أننا لو انطلقنا من إنجازاتنا الثقافية لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى المفاهيم التي تقوم عليها الحداثة الفكرية: “يستحيل أن نجد عند الغزالي مفهوم الأدلوجة مكتملا، ولا عند ابن عربي مفهوم الحرية مكتملا.. ولا عند ابن خلدون مفهوم التاريخ مكتملا، ولا عند ابن رشد مفهوم العقل مكتملا”.
منذ البداية يعلن هذا الموقف انفصاله عن التراث ويحكم عليه انطلاقا من مفاهيم غير نابعة من صلبه. وهو يرى أن بين مفاهيمنا ومفاهيمه “يوجد فارق فاصل، وهو بكل بساطة التاريخ”. وحينما يتم فحص الإنجازات الفكرية في التراث داخل هذا الموقف، فليس بهدف التنقيب عما من شأنه أن يغذي تفكيرنا الحالي. إذ أن رباطنا بالتراث “قد انقطع نهائيا، وفي جميع الميادين وإن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لأننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم إنما هو سراب. وسبب التخلف الفكري عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي. فيبقى الذهن العربي حتما مفصولا عن واقعه، متخلفا عنه بسبب اعتبار الوفاء للأصل حقيقة واقعية، مع أنه أصبح حسا رومانسيا منذ أزمان متباعدة”[26]. و”كل من يعيش في زماننا هذا، من يعتبر نفسه ابن هذا الزمان، لا يستطيع أن يقول غير هذا”[27].
لن يتعلق الأمر، لتوضيح هذا الموقف، بأخذ بعض مفهومات الحداثة، والنظر ما إذا كانت لها مقابلات في التراث، كما فعلنا بصدد الموقف السابق. لأن هذا النموذج الثالث، كما قلنا، يريد أن ينفصل توا عن التراث. وهو يحكم عليه في كليته ليثبت أن ذهنية عامة تسوده تخالف كل المخالفة الذهنية الحديثة. وهذه الذهنية التي تسوده “يخضع لها الفيلسوف الباطني والفقيه والمتصوف الخ… ومن أهم مميزاتها أنها لا تكتفي بتحديد العقل بالمعقول، بل تجعل الثاني سابقا على الأول. وهذا المعقول السابق على العقل الذي يحل فيه ولا يتولد عنه، هو “العلم” بالمعنى المطلق”[28]. صحيح أن هذا المعقول يتلون وهو “يعرف باسم خاص في كل مذهب: يسمى الخبر والحكمة أو السنة أو التقليد أو سر الإمام أو الكشف الخ… وهو في كل الأحوال، العلم”[29] إلا أن هناك اتجاها عاما يقضي بأن العلم حاصل وبالتالي مستقل عن طريق تحصيله، وهو كذلك شامل ثابت “لا يتبعض ولا يتفاضل ولا يتغير” وهو “أصل تقرر في علم الكلام ومنه انتقل إلى العلوم الأخرى”[30].
تتميز هذه “الذهنية الكلامية” “بالاستيفاء والحصر، وبالتالي برد الأصول المتعددة إلى أصل واحد يتجلى في مسائل متساوية القيمة محدودة العدد”[31] وإن نظرية العلم الناتجة عن هذه “الذهنية الكلامية” والتي تجعل من العقل الفردي مجرد وعاء “تؤدي بالضرورة إلى حد العقل الفردي ليكون موافقا لمعقوله، ولا تجعل منه أبدا منبع أو منشأ المعقولات. طلب العلم هو إذن غير البحث عن المعلومات، متى تهيأ العقل الفردي.. حل العلم بصورة تامة مفاجئة ونهائية”[32].
إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا العودة إلى الأصول؟ وما جدوى التأصيل والحالة هاته؟ ذلك أن هاته الذهنية الكلامية ما زالت معاصرة لنا، وهي بالضبط ذهنية “دعاة الإصلاح المعاصرين”[33]. إنها ذهنية ابن رشد، لكنها أيضا ذهنية محمد عبده. إلا أن الفارق بينهما كبير. “فالمادة التي اعتمدها ابن رشد كانت كل ما كان متاحا للبشرية في عهده. هذه قضية موضوعية، غير متعلقة بشخصية ابن رشد. لا مجال فيها للبحث عن استعداداته الذاتية. ابن رشد دعامة من دعائم التاريخ الكوني. هل نستطيع أن نقول هذا في حق محمد عبده؟ لا بشهادة عبده نفسه. وبما أن فكر عبده هو فكر ابن رشد مع أن السؤال هو غير السؤال، انقلب ما كان أفقا عند الأول إلى سد عند الثاني”[34].
“ما كان أفقا بالنسبة لابن رشد، غدا حدا بالنسبة لمحمد عبده”[35]. وما علاقة كل هذا بالتحديث؟ ذلك أنه ما كان في استطاعتنا أن نقف “على مفارقة العقل الكلامي لو لم ننظر إلى عبده من منظور مكتسبات الفلسفة الغربية الحديثة”[36]. لا يمكن حل مفارقة عبده “إلا بإذابة الكلاميات في الاجتماعيات”[37]. تجاوز موقف عبده إذن، لا يمكن أن يتم إلا بالانفتاح على الحداثة، والتحصن بالعقلية التاريخية والتسلح بمكتسبات العقل الحديث واجتماعيات الثقافة، أي إلا بالإيمان “بصيرورة الحقيقية وإيجابية الحدث التاريخي وتسلسل الأحداث ثم مسؤولية الأفراد عنها”[38].
التأصيل هنا ليس تبيئة للمفاهيم الحديثة وإنما ردا للأمور إلى أصولها، ولكن، هذه المرة، بشكل مبدئي كلي. إلا أنه ما كان ممكنا من غير تحديث، أي وقوف عند “منطق الفكر الحديث الذي انفصل عن الفكر القديم”[39].
نعلم أن سؤال عبد الله العروي، منذ بدايات تفكيره كان على الدوام: كيف يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث؟ كما نعرف أنه يميز مقومات الفكر الحديث عن إيديولوجية الغرب الإمبريالي الحالي، يميز ما يطلق عليه منهجا عما يسميه إيديولوجية. المنهج نوع من التفكير على أساسه تتكون إيديولوجية، أي مجموعة من القيم. و”الإيديولوجية هي التي تتشبث بها الطبقة، أما المنهج فقد أصبح قاعدة مشتركة لكل التيارات الفكرية العصرية”[40].
لقد حاول العروي في كتابه الإيديولوجية العربية المعاصرة، فضح الغرب الذي أراد أن يبدعه المفكرون العرب، أو كما يقول هو “لقد أوضحت أن كل أدلوجة تستوحي دورا من أدوار التاريخ الغربي الحديث”[41] لتصنع منه غربا مطلقا بل وتاريخا مطلقا. غير أنه، بدل أن يستمر في الاستراتيجية نفسها، ويدعو إلى فضح الغرب الذي ما يفتأ الغرب ينحته ويفرضه، نراه يتحدث عن “منهج أصبح قاعدة مشتركة لكل التيارات العصرية”. إن العروي بحث دورا من أدوار التاريخ الأوروبي ليجعل منه عصارة تاريخ الإنسانية. فلا عجب إذن أن يتحدث عن الحداثة كمكتسبات.
إلا أن الحداثة، كما سبق أن قلنا، ليست لحظة في زمان، ولا نقطة في مكان. إنها بالأولى وعي بالحركة المتقطعة للزمن. وهي اللحظة التي يغدو فيها الانفصال من صميم الوجود، ويصبح نسيج الكائن ولحمته بحيث يقوم الفصل مكان الوصل سواء على مستوى المعرفة أو التاريخ أو المجتمع.
بناء على ذلك فلا يمكن لتملكها، لا يمكن للتحديث أن يكون اكتسابا، وإنما هو انفصال دؤوب وقطيعة لا تنفك. إلا أن هذه القطيعة لا ينبغي أن تنصب على تراث دون آخر. وإنما يلزم أن تكون قطيعة مزدوجة، أن تكون ابتعادا عن الذات وابتعادا عن الآخر. وهذا لا يعني أن علينا أن نقوم بنقد الحداثة ثم بنقد التراث. إن الأمر لا يتعلق بحركة ثنائية، وإنما بانفصال مزدوج يكون مجابهة بين تراثين. إن المعرفة العربية لا يمكنها أن تتنصل من “ذهنيتها” إلا بفضل قطيعة لن تكون كذلك ما لم تعمل فكرها أيضا في “الخارج” الذي يؤسسها “لتقابل المنظومة المعرفية الغربية بخارجها اللامفكر فيه”. ولكن أين يكمن التأصيل والحالة هاته؟
ألا ينبغي الاكتفاء بالحديث عن انفصال مزدوج، ربما كان هو السبيل الوحيد لبناء فكر مغاير؟
[1] – محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991، ص159.
[2] – محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995، ص16.
[3] – محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص48. في نفس الإطار يتحدث علي أومليل عن “القيم الجديدة التي علينا أن نزرعها زرعا في بيئتنا” في شرعية الاختلاف، منشورات المجلس القومي للثقافة، الرباط، 1991، ص 95.
[4] – انظر المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[5] – التراث والحداثة، سبق ذكره، ص16.
[6] – نفسه.
[7] – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، المركز الثقافي، بيروت، 1980، ص66.
[8] – نفسه، ص6.
[9] – محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1983، ص71.
[10] – نفسه، ص61.
[11] – المثقفون في الحضارة…، سبق ذكره، ص15.
[12] – محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، سبق ذكره، ص144.
[13] – نفسه، ص165.
[14] – ص143.
[15] – التراث والحداثة، سبق ذكره، ص40. نقرأ كذلك في كتاب المثقفون في الحضارة الإسلامية فيما يتعلق بتأصيل مفهوم المثقف في تلك الثقافة: “وهكذا نجد أنفسنا أمام النتيجة التالية التي يفرضها علينا التاريخ الأوروبي نفسه، وهي أن ظاهرة “المثقفين” في العالم العربي المعاصر، إذا كانت ترجع إلى الاحتكاك بالثقافة الأوروبية الحديثة، فإن الظاهرة نفسها نشأت في أوروبا الوسيطة نتيجة احتكاكها بالثقافة العربية الإسلامية”.. “إن المثقفين في العصور الوسطى الأوروبية هم من نتاج المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية”. المثقفون، مرجع سابق، ص32-33.
[16] – علي أومليل، في شرعية الاختلاف، سبق ذكره، ص95.
[17] – نفسه.
[18] – نفسه.
[19] – نفسه.
[20] – ص96.
[21] – أومليل (علي)، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص246.
[22] – في شرعية الاختلاف، سبق ذكره، ص67.
[23] – علي أومليل، الخطاب التاريخي، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1981، ص197.
[24] – نفس المرجع، ص220.
[25] – العروي (عبد الله)، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996، ص10.
[26] – عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، 1973، ص23.
[27] – مفهوم العقل، نفس المرجع، ص17.
[28] – نفسه، ص96.
[29] – نفسه، ص97.
[30] – نفسه، ص98.
[31] – نفس المرجع، ص99.
[32] – نفس المرجع والصفحة.
[33] – ص99.
[34] – نفس المرجع، ص33.
[35] – ص35.
[36] – ص70.
[37] – ص72.
[38] – العرب والفكر التاريخي، المرجع المذكور، ص186.
[39] – مفهوم العقل، ص12.
[40] – العرب والفكر التاريخي، ص8.
[41] – العروي (عبد الله)، الأدلوجة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، ص15.
*منقول عن موقع فكر ونقد