الرواية هامة ورائعة. خصائصها الفنية جذابة للغاية بفعل إتقان اختيار القوى الفاعلية والشخصيات والبنية العاملة في سرد الأحداث من بدايتها إلى آخرها. دلالاتها تلامس الجوانب النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية (الفردية والجماعية) في المجتمع السعودي بشكل خاص والمجتمعات العربية والمغاربية بشكل عام. السارد، الشخصية الرئيسة في الرواية، نموذج خاص لمواطن سعودي عاش، في مرحلة الكسب المعرفي والتربوي المبكر، أنوار حضارة عظمى في التاريخ المعاصر (أمريكا). لقد ترأست هذه الأخيرة القطب الغربي المتصارع مع القطب الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي زمن الحرب العالمية الباردة في العشرية الأخيرة من القرن العشرين. إنه الزمن السياسي العالمي الصعب، الذي توج في مرحلته الأولى بالإعلان عن النظام العالمي الجديد في بداية التسعينات (مباشرة بعد هدم جدار برلين)، وفي مرحلته الثانية باستراتيجية إعادة بناء المشرق العربي الإسلامي بمنطق الفوضى الهدامة اقتباسا من شعار المرحلة: “توحيد مقومات الإنسان الليبرالي العالمي”.
لقد توج الاستثمار في تقنيات السرد وخصائصه الفنية (انتقاء وحركية القوى الفاعلة في الرواية وشخصياتها وتفاصيل تحولات حالاتهم النفسية والاجتماعية، واختيار أمكنة وأزمنة وقوع الأحداث) بإتمام رسم مقومات لوحة تشكيلية معبرة عن الفئوية والخنق المبكر لنبوغ العقل العربي بسبب التخلف الثقافي الذي ابعد الوجود البشري في المنطقة عن الطبيعة وما تتطلبه من بحوث علمية يومية لاستغلال خيراتها في إطار التنمية المستدامة. لقد استحقت الرواية بمقاصدها وتقنيات سردها أن تصنف ضمن روائع الإبداعات الأدبية والفنون التعبيرية السردية لأدباء الجيل الثالث العربي في القرن العشرين (1960-1990 ميلادية). لقد جسدت بنجاح تفاعلات الحياة اليومية ومشكلاتها المنهكة لوجود شعوب المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. لقد التقطت فصول الرواية باحترافية عالية تفاصيل تردي الحياة الثقافية الواقعية وتأثيراتها على مصير الأمة العربية. توالي المشاهد وجاذبيتها تستحق أن تتحول إلى فيلم مطول بأحداث مترابطة ذات دلالات تجسد واقع شعوب المنطقة. لقد عبرت كذلك فصولها عن قدرة هائلة على التقاط تفاصيل الحياة بلقطات لحظية تعكس تدجين العقول واعتقالها الثقافي وهي خارجة عن أسوار السجون الرسمية. لقد طرحت الإشكالية المحورية في المقدمة بمنهجية تجعل القارئ يفكر في الفرضيات منذ البداية. كما أبدع الكاتب في وصف وسرد الوقائع التي ميزت الشخصية الرئيسة في الرواية مبرزا سماتها الفيزيائية والنفسية والاجتماعية المتطورة في الزمن بارتباط وثيق مع المكان، مقدما للقارئ شخصية معقدة الأبعاد، عاكسة الأزمات الاجتماعية والنفسية التي يعيشها أبناء الوطن العربي الإسلامي في ساعات حياتهم اليومية.
منذ البداية توالت الفرضيات على عقل القارئ محفزة إياه لاستحضار الإشكالات المطروحة في حياة المجتمعات العربية، والتي نذكر من أبرزها:
- معاناة النبوغ المبكر للعقل الفردي عربيا واصطداماته بواقع مجتمعه.
- الفئوية والمنطق السياسي لقيادة القطيع وسؤال تنويره في الفترات التاريخية الانتقالية.
- منطق تكيف “المتنورين” مع متاهات الظلام والعتمات المقاومة للتغيير.
- ماضي وحاضر ومستقبل العيش المشترك عربيا.
- ….. إلخ.
للإجابة على الأسئلة المطروحة، والتي أتعبت تفكير المثقفين العرب منذ حصول الأقطار العربية عن استقلالها وبداية النقاشات في شأن الخروج من التخلف وقضايا النهضة، تمكن الكاتب من ترصيص أجزاء المتن الحكائي لفصول روايته معتمدا خطاطة سردية تجعل القارئ يرتبط بقوة بمتوالياتها ومقاطعها بدء من وضعية البداية الديناميكية، مرورا بوضعية الوسط وسيرورات التحولات وعناصرها المخلة وتطورها وعوامل انفراجها، ووصولا إلى وضعية النهاية التي تزرع الأمل في تجاوز وضعية البداية (تفاوض السارد مع الرجل الأنيق).
لقد تأطرت أحداث الرواية في فضاء أربع أمكنة. المكان الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية (فضاء التنشئة الطفولية للسارد)، والثاني هو المملكة العربية السعودية (المكان الرئيس)، والثالث هو البلد الخليجي (اليمن) والرابع هو الأطلس.
المكان الرئيس في الرواية، كما جاء في مقدمتها، هو تراب قبائل المملكة العربية السعودية. استمرت وقائع أحداث الرواية متجاذبة زمنيا وجغرافيا لتمتد إلى الخليج (اليمن) والأطلس. اقتباسا عن موقع ويكيبيديا، الْمَمْلَكَة العَرَبيَّة السُّعُودِيَّة تعد من أكبر الدول العربية في الشرق الأوسط الواقعة تحديدا في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وتشكل الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية. حكمتها أسرة آل سعود منذ تأسيس إمارة الدرعية. تصارعت مع الكيانين العثماني والمصري إلى أن سلم عبد الله نفسه سنة 1816 ميلادية حقنا للدماء.
جاهد ملوك السعودية في مجالي توحيد القبائل وتوعيتهم وتحديث ثقافاتهم من جهة، ومواجهة الحملات والأطماع الأجنبية العثمانية والمصرية من جهة أخرى. تاريخ الملوك زاخر بالغارات المتواصلة لإخضاع القبائل. المحاولات العسكرية لضم الرياض كنموذج دام سبعة وعشرين عاما من الاقتتال. شبت معارك ضارية مع شريف مكة. تم اغتيال الملك عبد العزيز سنة 1803 ميلادية. تولى الحكم بعده ابنه سعود الكبير، وأخضع المدينة المنورة بحيث هدم العديد من الأضرحة. عاش الملوك التوتر والصراع في عهود المملكة العربية السعودية الأولى والثانية والثالثة. العهد الأول كان جد صعب ومعقد ثقافيا وسياسيا. قامت الدولة السعودية الأولى في الفترة 1727-1818 بعد أن كانت شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي تعيش حالة من التفكك وانعدام الأمن، مما جعلها تتحول إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، إضافة إلى انتشار البدع والخرافات، فَمَهَّدَ هذا الأمر لعقد تحالف بين أمير الدرعية محمد بن سعود وبين محمد بن عبد الوهاب. عمل هذا الأخير على نشر دعوته بغية توحيد هذه المناطق وإخراجها من حالة التدهور السياسي والاجتماعي.
من الناحية الزمنية، تم تسجيل استمرار الجهد لتوحيد البلاد ومواجهة الأطماع الخارجية وتنمية البلاد وإخراجها من تخلفها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي إلى أن استطاع الملك عبد العزيز آل سعود من توحيد كل المناطق تحت سلطة المملكة بشكلها الحديث (عبد العزيز، فيصل، خالد، فهد، عبد الله، ….). وهنا لا بد من الانتباه أن تاريخ ولادة السارد وإرسال أبيه إلى أمريكا لاستكمال دراسته تم في عهد الملك خالد، والذي تزامن مع انطلاق النهضة التعليمية في البلاد. أما عن توقيت غزارة الإبداع الروائي لأسامة المسلم فقد تزامن مع حكم الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان آل سعود والاستراتيجية التنموية 2030 للمملكة العربية السعودية.
اعتمد الكاتب أكثر على الزمن الواقعي من خلال حضور مجموعة من المؤشرات الزمنية الواقعية الدالة عليه مثل: مكان الولادة، الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الالتحاق بالبلد الخليجي، شد الرحال إلى الأطلس، …… إضافة إلى توظيفه لزمن الماضي في السرد مستخدما الزمن المضارع لخلق الدينامية في تحولات وتوالي الأحداث. الغرض من الاستثمار في هذا المنطق الزمني هو بلا شك إيهام القارئ بواقعية أحداث الرواية وضمان الطابع المنطقي لتسلسلها. اعتمد الكاتب كذلك في عدة مقاطع الزمن الاسترجاعي لتذكر الأحداث السابقة وتثبيت ارتباطاتها. كما وظف الزمن الاستباقي لتوقع الأحداث المستقبلية والمتعلقة بمصير الأمة العربية زمن التقلبات الكونية السريعة والخطيرة المهددة لسيادات الأقطار العربية.
أما الزمن النفسي في الرواية، فيمكن وصفه بالمتسارع. كلما دخل السارد في محنة، كان يتسارع مع الزمن من أجل الخروج منها. توالت المحن عاكسة الأزمة النفسية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها الشخصية الرئيسة. إنه الزمن الذي جعل الكاتب يلجأ للرؤية من الخلف في السرد. إنه يعرف أحداث القصة وأحاسيس الشخصيات ومشاعرهم الدفينة وهواجسهم وما يفكرون فيه.
المتن السردي متراص في مكوناته من البداية إلى النهاية. لقد أبدع الكاتب في بلورة وتصميم احداث الرواية بشكل منظم ضامنا تناميها وتشويقها. ميله للواقعية واضطراره لخندقة الأحداث في فضاء الفانتازيا أضفى على الرواية جمالية عالية. إنه الاعتبار الذي رفع من وقعها وتأثيرها على نفسية الشباب واليافعين الذين نشأوا في عالم السرعة والتكنولوجيا ومزايا ومخاطر اقتراب إلغاء الحدود ما بين عالم الروبوتات وعالم الإنس وربما مع عوالم أخرى ومخلوقات أخرى نجهلها في الوقت الراهن.
أما بالنسبة للحوار، فقد شكل العمود الفقري للرواية للتعريف بمواقف الشخصيات وأحاسيسهم وعلاقاتهم، ولتكسير رتابة السرد، ودعم إرادة الكاتب في الرفع من مستوى التشويق من مقدمة الجزء الأول إلى خاتمة الجزء الثالث. لقد انتهج تقنيات السرد المطلوبة لتجسيد واقعية الأحداث، والاسهام في تنامي الصراع والرفع من تأثير القارئ بعواقبه ومآلاته. كما استثمر في الوصف وحوله إلى ركيزة مصاحبة لتقوية جاذبية الرواية بتقريب الشخصيات والأماكن والمشاهد من القارئ.
إجمالا، لقد منحت القوى الفاعلة للرواية وهجا عاليا. لقد أدت أدوارا عاملية مختلفة مجسدة علاقات الإرسال والرغبة والصراع. السارد لم يجد لنفسه منفذا زمن طفولته في الواقع المعاش للطفولة السعودية. لم يكن كبقية الأطفال الذين يلعبون الكرة بشغف في الشارع أو يركبون دراجاتهم متنقلين من زقاق لآخر. بتأثير من نمط عيش أسرته، ونتيجة لتراكمات مرحلة تنشئته الطفولية، لم ينتصر لخيار العامة. كان له عالمه الخاص. لم يقتنع بفكرة جمع الخبرات عن طريق الممارسة والاحتكاك المباشر مع أقرانه في الشارع. أحدث وقفه منبهة في الفصول الأولى من الجزء الأول لروايته مانحا التميز للعنوان “اليوم الذي غير حياتي”. لقد أهدى للطفولة والشباب دليلا (أساسه القراءة) لضمان استمرارية وفاعلية النبوغ المبكر للعقل الفردي والرفع من قدرته على التكيف والفعل البناء بهدف التغيير داخل أوطان الانتماء زمن التقلبات الكونية التي لا ترحم.