و نحن نكتب ذواتنا لا نفعل سوى أننا نكتب المحو، مصداقا لما قالوه بأنّ الكتابة الجيدة لم تُكتب بعد . و الذات في هذا المقام شقّان : شقٌّ مندمجٌ في فعل الكتابة محكومٌ بشرط الانبهار الذاتي ، و شقّ مراقب يمثل الأنا الأعلى الماضي في قرار المحو ، لكل ما هو جدير بالمحو ، و قد يكون هذا الجدير كتابة متسرّعة ، أو كتابة خضعت لضغط الطلب ، أو كتابة مشروطة برد الفعل ، أو كتابة مستجيبة لسواد عيون الذات نفسها ، أو لغيرها ، أو كتابة تروم ظهورا ، أو تبغي مكسبا … أو أي كتابة لم تستجب لشرط الانبثاق المُنثال صدقاً و حقّاً و خلْقاً و خرْقا… و الخارج خروجاً تلقائياً استجابةً انسيابيةً لمخاض حقيقي يؤذن حقّاً بالخروج .

إن أصدق دليل على كتابة المحو هو دليلٌ قديم ، نمثل له بحوليات الشاعر القديم زهير بن أبي سُلمى ، و هو شاعر لا يمثل ذاته فحسب و إنما يمثل حساسية فنيّة واسعة على مدار الزمن الإبداعي ، تتبنى فعل المحو من أجل الوجود . و ما تنقيحاته لقصائده ، سوى قرار شخصي يحكم بلا جدوى ما يكتب ، و بعبثية ما يكتب ، إلا إذا خضع هذا المكتوب لعمليات المحو . من ثمّة ، تكون الإضافات و المراجعات و التعديلاتُ هي صميم الكتابة لا الكتابة في أصلها ، لأن المحو كتابة ذكية تستحضر العقل في تجلياته المتفاوتة بين حضور قوي و حضور ضعيف ، و في كلا الحضورين ، هناك دائما ممارسة ذكية تعلو و تنخفض في عمليات شذبها لليابس من أفنان الكتابة .

الكتابة في أصلها الخام هي مغامرة غير محسوبة الخلاصات و النتائج كأنها الطريق المؤديّة إلى المجهول بلا تشويرات و لا علامات ، و يكون فعل المحو هو الكتابة الفعلية ذاتها التي تلتزم بالحدّ الأدنى من هذه التشويرات و تلك العلامات . و هذا لا يعني البتّة خضوع الكتابة لنموذج جاهز و مسبق يملي عليها قراراتها الخاصة ، و إنما قصدنا أن هذه العلامات هي الأقل الضروري من حضور الوعي بالكتابة حتى لا يتحول هذا الفعل إلى هذيان غير قابل للقياس في عالم التقييم و النقد و الاستحسان .

يذكّرني هذا السياقُ الماحي بتجربة المسيد في ثقافتنا الشعبية المغربية ، عندما كان طالب القرآن يحفظ بعض القرآن . كان يمحو من اللوح ما تمّ حفظه في الذاكرة عن ظهر قلب ، و لم يكن هذا المحو بتاتاً يعني في منظور الطالب و لا في منظور الشيخ ( لَفْقِيهْ ) إلغاءً أو مسحاً أو نفياً لما كان مكتوباً بقدر ما كان إثباتاً له و ترسيخاً و تزكيةَ أيضا … للانتقال إلى كتابةٍ أخرى لا يتمّ تصديقُها إلا عن طريق فعل المحوِ . و من غريبِ الصدف السيميائية أنّ هذه العملية كانت تتمّ بواسطة الماء ، المرتبط في ثقافتنا الدينية بالحياة و استمرار الحياة ( و جعلنا من الماء كلّ شيء حيّ – الأنبياء ، 30 ) .

هكذا ، فالمحو معادل موضوعي للحياة في الكتابة ، في حين أن التسويد يعادل الموت ، لأن رسم الحرف على صفيح القرطاس يعلن عن نهاية مشروع المؤلف ليبدأ مشروع القارئ ، و ما النهاية إلا شكل من أشكال الموت الرمزي لسلطة الكاتب المبدع .

نون حاء

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…