والمقصود بالحجم الطبيعي للجزائر، هنا، هو ما كانت عليه قبل أن تحتلها فرنسا سنة 1830. وقد دام هذا الاحتلال من 1830 إلى 1962؛ أي مائة وإثنين وثلاثين سنة (132 سنة) بالتمام والكمال. وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال الفرنسي أتى بعد الاحتلال العثماني الذي دام أكثر من ثلاثة قرون (من 1516 إلى 1830)؛ أي ما يزيد عن المدة التي قضاها أهل الكهف نياما. وفي هذه المعطيات التاريخية عِبر وفوائد لمن يريد أن يفهم الجزائر بجغرافيتها وساكنتها ودولتها وخصائصها وعقليتها.
والمعطى الجغرافي له، هنا، أهمية كبرى؛ ذلك أن الجزائر التي تعتبر اليوم أكبر دولة مساحة في إفريقيا، لم تكن كذلك لما احتلتها فرنسا. فكيف صارت بالحجم الذي هي عليه اليوم؟ الجواب يوجد، من جهة عند الدولة المستعمِرة؛ ومن جهة أخرى، عند المؤرخين والباحثين في تاريخ شمال إفريقيا. فكتب التاريخ والوثائق التاريخية والخرائط تؤكد أن الاستعمار الفرنسي، هو من صنع الجزائر الحالية بجغرافيتها وحدودها؛ وذلك باقتطاع أراض شاسعة من الدول التي لها حدود برية مع إقليمها الشمال إفريقي، ظنا منها أن الجزائر ستظل من بين أقاليمها ما وراء البحار. وقد قامت فرنسا بهذا العمل العدواني التوسعي ما بين أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهكذا، مدد المستعمر مساحة وحدود مقاطعته الأفريقية على حساب جيرانها: المغرب، تونس، ليبيا، مالي والنيجر. وهذا ما يفسر، ببساطة، شساعة مساحة الجزائر الحالية.
لكن اليوم، هناك مؤشرات تدل على تحول نوعي، ظهرت معالمه في العوامل الجيوسياسية والإثنية والاجتماعية والديموغرافية وغيرها. فما لم يتم التعامل مع هذا الوضع بحكمة وتبصر، فإن الأوضاع قد تنفجر في أية لحظة، سواء على المستوى الداخلي (مشكل القبائل ومشكل الطوارق والأزواد…) أو على الحدود التي في مجملها ملتهبة (العلاقة مع ليبيا ومع دول الساحل…). وكل هذا يدل على أن الجزائر، إن عاجلا أو آجلا، ستعود إلى حجمها الطبيعي الذي كانت عليه قبل أن تحتلها فرنسا. وهذه الأخيرة تتوفر على الأرشيف الكافي لتصحيح خطئها التاريخي وإنصاف البلدان المتضررة؛ وذلك بإعادة الأرض المسلوبة إلى أهلها. وقد بدأت الأصوات تتعالى، هنا وهناك (وهذا الأمر ليس جديدا)، للمطالبة بهذا الحق التاريخي الذي لا يمكن إلغائه لا بحجة التقادم ولا بذريعة الأمر الواقع ولا بالتمسك بـ”مبدأ” الحدود الموروثة عن الاستعمار (انظر مقالا لنا بعنوان “المطالبة بالإبقاء على الحدود الموروثة عن الاستعمار دعوة لطمس الحقيقة التاريخية”، نشر في جريدة “الاتحاد الاشتراكي” بتاريخ 10 مارس 2023).
إن هذا المبدأ الذي تتمسك به الجزائر، يؤكد بالملموس أن النظام الجزائري مجرد وريث للاستعمار الفرنسي ويقوم مقامه في حراسة وحماية الخرائط التي وضعها المستعمر لشمال إفريقيا وفرضها كأمر واقع. ولا غرابة في ذلك؛ فالجزائر لا تزال، بشكل من الأشكال، خاضعة لفرنسا، حتى لا نقول مُستعْمَرَة فرنسية؛ إذ لا تتوفر على وثيقة تثبت استقلالها؛ فهي حصلت بالكاد على حكم ذاتي مشروط؛ وبالتالي، فالنظام الجزائري تنحصر مهمته في حراسة الأرض التي استولت عليها فرنسا وضمتها إلى الإيالة الجزائرية السابقة. أما قولهم بأن هذه الأرض مسقية بدماء الشهداء، فلا يعدو أن يكون هذا القول مجرد تبرير لعمل المحتل وذريعة للمتاجرة بدماء الشهداء. فالجزائر هي البلاد الوحيدة في العالم التي تتاجر بشهدائها وتفتخر بأعدادهم المليونية (عبد المجيد تبون يتحدث عن خمسة ملايين وست مائة وثلاثين ألف شهيد)؛ بينما العارفون بالحقيقة يتحدثون عن بضع عشرات الآلاف.
وإذا استحضرنا القاعدة المنطقية التي تقول: “ما بني على باطل فهو باطل”، وعززناها بالمثل الشعبي المغربي الذي يؤكد بأن “المكسي بديال الناس عريان”، فجوابنا على كل جزائري يتمسك بمبدأ الإبقاء على الحدود الموروثة عن الاستعمار، بأن هذا المبدأ مرفوض منطقيا وعقليا وأخلاقيا؛ ذلك أن هذه الحدود بُنيت على أسس غير صحيحة؛ وبالتالي فهي باطلة. لقد أقامها الاستعمار الفرنسي على أرض الغير، بعد أن استولى عليها بالقوة بغرض توسيع مستعمرته وتقوية نفوذها من خلال استغلال خيرات الأرض وإحكام السيطرة على أهلها. لكن، وبحسب القاعدة القانونية والتاريخية والأخلاقية، فإن ما قام به المستعمر الفرنسي هو في حكم السرقة الموصوفة. وبما أن المسروق قد ظهر وظهر صاحبه الشرعي، فعلى السارق أن يعيد المسروق إلى صاحب الحق؛ وبمعنى آخر، فعليه أن يعيد الأرض إلى أهلها. ومبدأ الحدود الموروثة عن الاستعمار، ما هو إلا حق يراد به باطل؛ والمتمسك به، هو في حكم “المكسي بديال الناس” الذي هو في حكم العريان، أو في حكم المتستر على المسروق أو المشارك في السرقة.
ونحن، عندما نرافع عن الأراضي التي سلبتها فرنسا من جيران مقاطعتها الإفريقية، وندعو إلى عودة الجزائر إلى حجمها الطبيعي، فلا ينبغي أن يُفهم بأننا نتبنى سيناريوهات التفكك أو ندافع عنها، وإنما نريد فقط أن نبرز حق البلدان المجاورة للجزائر في استرداد أراضيها التي اغتصبتها فرنسا وضمتها إلى إقليمها الشمال إفريقي. والمغرب يدرك بأن من بين أهداف الجزائر من وراء افتعال مشكل الصحراء الغربية المغربية، هو من أجل إلهائه أو ثنيه عن المطالبة بصحرائه الشرقية.
لكن تطورات الملف، إن على المستوى الدولي أو على أرض الواقع، أثبتت قصر نظر النظام الجزائري وغبائه. فالحجرة التي أرادها الهواري بومدين في حذاء المغرب، قد تحولت إلى صخرة صماء على صدر الجزائر وكابوسا لا يعرف النظام كيف سيتخلص منه؛ وخير دليل على ما نقول، ما صرح به، في المدة الأخيرة، الرئيس عبد المجيد تبون حول غياب الأفق أمام الشباب المولودين في مخيمات تندوف؛ والمقصود، هنا، الجزائر الجنوبية. فتندوف قد أصبحت دولة داخل دولة. وكيف ستتخلص الجزائر من هذه الورطة؛ خصوصا وأن الموجودين بمخيمات تندوف، أغلبهم ليسوا من الصحراء المغربية؟ فكْها يامن وحَّلتها!!!
لقد فكرت في ختم هذا المقال بالإحالة على حوار للكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الأستاذ إدريس لشكر، نشر في منبر إعلامي عربي محترم اسمه “العربي الجديد”. وقد فكرت في هذه الإحالة لما في جزء من الحوار المذكور من مقترحات وأفكار عقلانية وعملية موجهة للجزائريين، تهم مشاكلهم الداخلية سواء على مستوى منطقة القبائل أو منطقة الأزواد. لكن، لما استحضرت الكم الهائل من التصريحات الرسمية المعادية لبلادنا، بدءا من خطب رئيس الجمهورية مرورا بالوزراء ورؤساء الأحزاب وصولا إلى الإعلام الرسمي وغير الرسمي، تأكد لي بالملموس بأن “الجزائر الجديدة” لم يعد فيها لا عقلاء ولا رُشداء بإمكانهم أن يستوعبوا كلام الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، فعدلت عن الفكرة.
وأود، بالمناسبة، أن أرفع القبعة، من جهة، لأساتذة القانون الدولي والعلاقات الدولية الذين يشاركون في حوارات تليفزيونية مع نظرائهم الجزائريين (فرنسا 24 على سبيل المثال)؛ ومن جهة أخرى، أرفعها لنشطاء التواصل الاجتماعي الذين ينظمون حوارات مباشرة (ليفات) ويُشرِكون فيها متصلين من الجزائر. وإني لأرفع القبعة لهؤلاء المغاربة على طول صبرهم وتحملهم لجهل وغباء وحماقات محاوريهم من الجزائريين، حتى وإن كان من بين هؤلاء دكاترة وباحثين ومتخصصين وخبراء..؛ مما يؤكد أن النظام العسكري قد نجح في تدجين وبردعة شعب بكامله، إلا من أخذ الله بيده.
مكناس في 29 مايو 2024