إن مشروع النهضة الذي مرت به أوربا, كان مشروعا بنيويّاً شاملاً متكاملاً إلى حد كبير في بنائه, من الناحية السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وعندما نقول سياسيّاً, فهذا يعني القضاء على السلطات الاستبداديّة الممثلة بسلطة الاقطاع والملك والكنيسة آنذاك, وتثبيت دعائم نظام الليبراليّة بمفهومها التقدمي, كما طُرحت عند فلاسفة عصر التنوير الممثاين فكرياً لطموحات الطبقة الرأسماليّة الوليدة آنذاك. وعندما نقول اقتصاديّاً: يعني تحقيق تجاوز للعلاقات الانتاجيّة الاقطاعيّة وخلق علاقات النظام الرأسمالي واقتصاد سوقه. وعندما نقول الاجتماعيّة: فهو تجاوز للعلاقات الاجتماعيّة التقليديّة وتسسييد علاقات اجتماعيّة تتوافق وطبيعة العلاقات الانتاجيّة الجديدة, وهي العلاقات الرأسماليّة القائمة على اقتصاد السوق, وعلى مفاهيم الحريّة الفرديّة والعدالة والمساوة. واعتبار العقل هو المرجع الأساس في تقويم الواقع بكل مستوياته. أما من الناحية الثقافيّة أو الفكريّة: فهو تجاوز للعديد من مضامين المدارس والنظريات الفلسفيّة والفكريّة السابقة على المستوى الأدبي والفني والفكري عموماً القائمة على الفهم اللاهوتي أو الميتافيزيقي , وخلق مدارس جديدة تتناسب مع روح العصر الجديد, القائمة على التجربة والملاحظة والمحاكمات العقليّة.
أمام هذه التحولات البنيويّة التي حققها عصر النهضة في أوربا ممثلاً بحوامله السياسيّة والفكريّة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة, وحتى الدينيّة ممثلة “بكالفن, ومارتن لوثر” في إصلاحهما الديني, يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا حتى اليوم وهو: أين نحن من مشروعنا النهضوي؟.
لقد عوّلت الشعوب العربيّة بعد التحرر من الاستعمار منذ منتصف القرن العشرين على القوى السياسيّة التي قاد معظمها حركة التحرر العربيّة ممثلة في أحزابها ومشاريعها الوطنيّة والقوميّة, بيد أن هذه القوى ظل معظمها مرتبطاً بهذا الاستعمار بشكل أو بآخر, فإذا كان التحرر السياسي قد تحقق في خروج المستعمر من الباب, فإن الاستعمار الاقتصادي والثقافي ظل قائماً ويمارس نشاطه بحيويّة فاعلة في محيط الدولة والمجتمع, وهذا ما ساهم في فشل هذه القوى التحرريّة في تحقيق مهام النهضة التي عوّل عليهم قيامها. الأمر الذي أدى إلى ظهور قوى اجتماعيّة جديدة من داخل صفوف الشعب نعتت نفسها بالتقدميّة, وطرحت على نفسها وعلى شعوبها ضرورة تصفية بقايا الاستعمار ومن يتعاون معه من القوى السياسيّة التقليديّة, ووضعت في أجنداتها إقامة مشروع الدولة الأمّة, والدولة المدنيّة التي تهدف إلى إقامة المواطنة والتعدديّة السياسيّة ودولة المؤسسات وغير ذلك من مفردات الدولة المدنيّة, أي دولة الحريّة والعدالة والمساوة والتشاركيّة والمواطنة, المتوجة بالديمقراطيّة والعلمانيّة. غير أن شهوة السلطة التي تحكمت بهذه القيادات المبتسرة في ذهنيتها عقديّاً ومبدئيّاً (شبه التقدميّة) وأحزابها (شبه الثوريّة) أيضاً, تحولت إلى قوى معاديّة للأهداف التي طرحتها قبل استلامها السلطة, حيث تحولت إلى قوى برجوازيّة طفيليّة بيروقراطيّة جعلت من مراكز تواجدها في السلطة مصدر ثروة غير مشروعة, كما أخذت تمارس نشاطات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحتى اجتماعيّة بعيدة كل البعد عن المفاهيم النظريّة التقدميّة التي طرحتها في مشاريعها النظريّة والدستوريّة, بل أستطيع القول إنها قضت على البذور الليبراليّة التي راحت تنتشي مع القوى الحاكمة التي تولت السلطة في هذه الدول بعد خلاصها من الاستعمار السياسي, التي نعتتها هذه القوى شبه التقدميّة بالقوى الرجعيّة.
إن من يتابع سياسات هذه القوى في الدول التي حكمتها هذه القوى المتاجرة بالتقدمية وحريّة الإنسان وتقدمه وتنميته, يجدها قد مارست تكريس الجهل السياسي والفكري العقلاني النقدي لدى جماهيرها, وذلك بغية إبعاد هذه الجماهير عن معرفة الأسباب الحقيقيّة التي تمارس ضدها من غبن وقهر باسم شعارات براقة تحت مسميات الوطن والأمّة, ومن ثم إبعادها عن مشاركتها في قيادة الدولة والمجتمع, الأمر الذي أدى بسبب هذه السياسة الاقصائيّة التجهيليّة ,إلى عرقلة تكوين فكر نهضوي وممارسة نهضويّة يساعدان على تجاوز الواقع المتخلف, أو المخلف قسراً من قبل قادة هذه الأنظمة وأحزابها شبه الثوريّة . بل رحنا نلمس الكثير من أبناء هذه الجماهير يندفع إلى الفكر الظلامي والسلفي التكفيري السياسي الجهادي منه, أو الصوفي, الذي اعتقد أنه سيجد فيه خلاصه من الفقر والجوع وتحقيق العدالة والمساواة. وفي مثل هذا التوجه السلطوي الاستبدادي كانت المشكلة الأكثر تعقيداً, وهي إبعاد الجماهير عن ما تمارسه القوى الحاكمة من قهر وظلم لها بالقوة, ثم العمل المبطن من قبل هذا القوى الاجتماعيّة المضطهدة ذاتها في السر والعلن بإعلان الولاء لهذه الحكومات من جهة, ثم العمل في السر ضدّ أنظمتها الحاكمة من جهة ثانيّة, وهذا ما لمسناه في ما سمي بثورات الربيع العربي.
نقول: مع سياسة تغيب الفن والأدب والمسرح والثقافة التنويريّة العقلانيّة, راح يسود الفكر الظلامي المشبع بالجبر وتغيب العقل والتمسك بكل ما يمت بصلة للدين بصيغته المشوهة المشبعة بالجبر والاستسلام والامتثال والتواكل واعتبار الدعاء لله وسيلة لتحقيق الأماني والنجاة من المخاطر. وعلى هذه التوجه الامتثالي الاستسلامي الغيبي, أصبح الدين صلاة وصوماً ورموزاً وكرنفالات وبناء جوامع ومساجد, ودعوات للتمسك بقيم وأخلاق أهلنا من السلف الصالح من جهة, في الوقت الذي تحول من جهة أخرى إلى عقيدة وشريعة تكفيريّة وجهاديّة ضد المختلف. نعم… لقد أصبح الدين (ثقافةً) عملت هذه الأنظمة التي تدعي العلمانيّة والديمقراطيّة على موضعتها وتجذيرها في عقول ونفوس وعواطف ومشاعر وذاكرة ولغة وتطلعات شعوبها. وعلى أساس هذا التوجه كانت داعش والنصرة, وكل القوى السياسيّة الجهاديّة التكفيريّة التي ثارت اليوم ضد هذه الأنظمة تحت ما سمي بالصحوة الإسلاميّة.
كاتب وباحث من سورية.