(*) منقول عن جريدة الاتحاد الاشتراكي : الاربعاء 1 ماي 2024.
لا يمكن للتوقيع بين الحكومة والنقابات الثلاث، الذي تم في الدقائق الأخيرة قبل فاتح ماي – ومهما بلغت إيجابياته وحجم واتساع هاته الإيجابية – أن يخفي حقائق عديدة ميزت الساحة الاجتماعية، طوال المدة التي قضتها الحكومة في تدبير الشأن العام والسياسات العمومية.
(1) : أن الحقل الاجتماعي ظل وما زال في وضعية قلق مستمرة ودائمة، وأن الحلول القطاعية بقدر ما كشفت عن قوة التحرك ضد القرارات الحكومية، بقدر ما بينت بأنها هشة وضعت الجهاز التنفيذي موضع احتجاز ، وهو ما يهدد مستقبلا الحوار المركزي الذي تعطلت الحكومة في تدشينه..
وبهذا الخصوص، بينت التوترات التي اخترقت القطاعات ( التعليم والصحة والعدل والجماعات الترابية والتعليم العالي) نوعا من الافْتِئات والتجزيئية في تفكير الحكومة، لا يساير في الواقع ما هو مطلوب من حكومة جاءت على أساس خطاطة شاملة، وعنواناها البارزان: الدولة الاجتماعية وتيسير تطبيق النموذج التنموي الجديد.
ففي هذه الحالة، أمام عرضين للدولة بأفق شامل أجابت الحكومة بأجوبة قطاعية.. وتحمل في طياتها بذورا لعودة التوتر، لا سيما وأن القطاعات التي لن تحصل على ما حصلت عليه القطاعات الأساسية مثل التعليم ستطالب بالمزيد : ومن قوانين السوسيولوجيا أن تلبية المطالب تخلق مطالب أخرى..
(2) لم نعد نطرح الأسئلة عن ” حصة الباطرونا في التشكيلة الحكومية ” ، بعد أن أصبحت الحكومة هي نفسها باطرونا وتتصرف بمنطقها، كما في حالة مقايضة الزيادات بالتقاعد وقانون الإضراب، وهو منطق يخرج بها من السلوك المؤسساتي باعتبارها تعبيرا دستوريا عن سيادة الأمة والوديع المعنوي لهذه السيادة في الدفاع عن مصداقية التدبير العام للمجتمع إلى منطق السلوك الفئوي. بل إن الباطرونا وجدت دفاعا كبيرا من داخل الحكومة في ما يتعلق بالضريبة على الثروة.. والتي تعد في كل دول العالم مصدرا من مصادر الدولة ( وبعضها غني جدا كما في أمريكا وألمانيا) وشاهدنا التساهل الكبير للحكومة بخصوص كل الثروات التي راكمتها بفعل الأزمة في المحروقات وفي الفلاحة وفي غيرها من المواد…
أكثر من هذا ، لا يمكن إلا أن ننتبه إلى محاولة البحث عن استبدال “صراع الطبقات ” بين الذين يملكون والذين لا يملكون سوى عملهم، إلى ” صراع الأجيال ” بين الذين يدفعون تقاعدهم وبين من لا يدفعون! بمعنى آخر تأمين دورة الحياة عبر قوة العمل وتوفير ما ينفع الشيخوخة..
(3) : الورش الوطني الضخم للحماية الاجتماعية بما هو جواب لتأهيل المجتمع حتى يساير التطورات المادية الكبرى في البلاد، وأيضا لمسايرة التأهيل الاقتصادي والبنيات التحتية وغيرها من القوانين، لم يجد للأسف حكومة تعتنق فكرته من بدايتها، وأقصى ما تسعى إليه هو تجويد المناولة والتدبير المفوض الذي تكلفت به.
وفي هذا هناك تأخير واضح بحيث أن رئيس الحكومة في خرجاته لم يصل السقف الذي وضعه الملك في الأجندة، من حيث الزمن والتوقيت والمراحل : سنة سنتان سنتان ونصف وهكذا .( ويكفي الرجوع إلى الأنشطة الملكية ذات الصلة بتنزيل التغطية الاجتماعية ).
(4) : أكبر تهديد للدولة الاجتماعية هو سوق الشغل وفيه سوق بمعدلات البطالة تكشف وضعه المأزوم (دون الحديث عن شيوع العمل غير اللائق) ومما يدل على فقر الحكومة هو لجوؤها إلى مكاتب «ماكنزي»، في وقت تقول بأنها تملك ورشا كبيرا للدولة الاجتماعية.. وما يكشف في الوقت ذاته هشاشتها الفكرية والسياسية في إيجاد الحلول من داخل قناعاتها وخلفيتها النظرية .. ونحن هنا نسائل الحكومة في شخص رئيسها عن تصريحه السابق: الدولة الاجتماعية ليست إيديولوجية، هل «ماكنزي» يبيع لنا الخضراوات أم إيديولوجيات ؟
(5) : ظهرت في المجال الاجتماعي أشكال تعبير غير مؤسساتية تسائل أصحاب القرار وأصحاب النضال المؤسساتي، واتضح أن المجهود في إضعاف الوسائط الاجتماعية المؤسساتية قد تكون كلفته السياسية والاجتماعية من حيث الاستقرار وضمان الاستثمار الأجنبي وغير ذلك، في حالة حرجة. بل إن الاستقرار الداخلي يمكن أن يدخل في حلقات ودورات اضطراب غير محدودة ( أصبحنا نعيش التوتر بالشهور عوض الساعات )، وما يطرح قوة التعبير النقابية، بدون إصلاح ومتابعة مؤسساتية : وهنا قانون النقابات والقوانين المؤطرة للانتخابات المهنية، حتى إذا صدقنا ما تقوله الأوساط القريبة من الحكومة بأن الشروط الذاتية للنقابات هي السبب الوحيد لما يجري .. فلا يعقل أن تراقب الحكومة هذا الوضع بدون أن تطرح على نفسها قضية الاستقرار. وتعفي نفسها من سؤال تآكل الوسائط الاجتماعية.. ولا يمكن أن تعفي نفسها من أسئلة النقابيين الحقيقيين ، من قبيل. تنظيم الفوضى الحالية عبر إقرار قانون للنقابات ومراجعة القوانين المنظمة للانتخابات المهنية وفتح آفاقها الديمقراطية وإنصاف شبيبة النقابات ونسائها وما إلى ذلك من مقدمات إجبارية لتجاوز الوضع الحالي..
وهنا لا يمكن أن نتجاوز ما أشار إليه الكاتب العام للفدرالية الديمقراطية للشغل يوسف إيذي من مفارقة حول اجتهاد ملكي عطلت الحكومة العمل به، وهي سابقة خطيرة للغاية. ويتمثل ذلك في ” سابقة مؤسساتية صادرة عن جلالة الملك ميز خلالها بين التمثيلية في القطاع العام والتمثيلية في القطاع الخاص بمناسبة تعيينه للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، والحكومة حادت عن الاجتهاد الملكي..” ..!
ومن دلائل عمل الحكومة كباطرونا : العمل بمنطق المقايضة. هو التخلي عن مجهودها من أجل أن تتجاوز النقابات وضعها ما قبل قانون الإضراب كوضعية سوسيو نظامية وسوسيو نقابية غير مقبولة ..
للحكومة وازعها الباطورونالي، والحل للمعضلة حل باطرونالي يتجلى في السعي نحو تخفيض كلفة العمل!
(6) : شعور بمحدودية التدبير الزمني للحكومة لملفات مستعصية، وما بعدها من كلفة مالية، وقد تعجل باحتمالات. ومن ذلك الأسئلة التي يطرحها المسؤولون عن ” كيفية تعبئة الموارد المالية من ميزانية الدولة لتوجيهها لفائدة الطبقات الاجتماعية المتضررة ، ” حسب تصريح الوزير السكوري، ولا يمكن أن تعفي الحكومة نفسها من سؤال ما سيحدث غدا إذا ما تراكمت النفقات بدون وارد.
ونحن الذين صفقنا لتصريح رئيسة البنك الدولي من كون المغرب ضاعف من ناتجه الخام، لا يمكن أن نغفل ما يلي، وهو أن نسبة النمو كمعطى إجباري لضمان التموين، لم تتحسن بل تراجعت عن ما دخلت عليه الحكومة ( 5 %) مع تراجع الموارد والاستثمار الخارجية، سعي الحكومة إلى فرض حقيقة الأسعار وتترجم عبر التضخم، وهو نفسه ارتفع ما بين دخولها للتنفيذ من 1% حسب الخطاب الملكي في أكتوبر2021 ، ويتجاوز حاليا بأربعة أضعاف كما أن الديون ترتفع كل شهر قبل كل سنة..
والمنفذ الضريبي كما يتضح هو اختيار واع ، حيث ارتفاع الضريبة إلى 280 مليار ضريبية من أصل 319 مليار درهم كما أن الاستثمارات الأجنبية في تراجع 17 % ( من 39 مليار درهم….إلى 32 مليار درهم )
(7) : هناك تحديات مركزية أمام النقابة : وهو إعادة ابتكار السياسة، عبر التنقيب، الذي بدت صعوبته واضحة مع الأجيال الحالية، التي لم تتابع ولم تشهد كيف كان العمل النقابي طريقا نحو التقدم الاجتماعي..
وهو كيف ستسهم في تقويم اعوجاج السياسات بل يمكنها إنقاذ السياسة، وهذه قناعة أعرب عنها كلما ضعفت السياسة كثيرا.
ولعل الوحدة أمر ضروري في العمل النقابي وتطوير الجبهة الاجتماعية ورهان الديموقراطية والاستقلالية في التعبير عن القرارات بعيدا عن الرهانات القوية للنقابات. ثم تحقيق قدر كبير من المصداقية!.
ولربما سيكون على النقابات أن تعود إلى طرح السؤال النقابي الأولي بعد ما يقرب من مائة عام عاشها مغاربة القرن العشرين في خضم تحولاته..
الرابط :