(1) – أسئلة … ومقارنات :
أعتقد أن هذا هو المسار الذي يتحرك فيه العالم اليوم. إن الديموقراطية هي اليوم الإطار العام الذي يجري فيه الصراع التاريخي، فكل الطبقات وجميع الفئات المتصارعة تعمل اليوم على خوض الصراع من أجل فرض مصالحها بالوسائل التي تدخل في إطار الديموقراطية. وكثير منها وسائل ذات حدين: كالعولمة والمعلوميات والاتصالات الخ.
(1) – من “الانتقال إلى الاشتراكية” … إلى التحول إلى الديموقراطية!
يسود الساحة السياسية والفكرية اليوم، في معظم الأقطار التي كانت تصنف من قبل كـ “عالم ثالث”، شعار يكاد يكون الشعار السياسي الوحيد الذي لا اعتراض عليه، شعار “التحول إلى الديموقراطية“. وبما أنه كما وصفنا فهو يضمر شعارا آخر هو: “الديموقراطية هي الحل”!
ومع أن هذا الشعار ليس جديدا فإن ما يلفت النظر أن استعادته اليوم تتم بنوع من “التعلق” شبيه بذلك الذي يحظى به عادة “الخاتم السحري” الذي يحل جميع المشاكل، وفي مقدمتها مشكلة هذا “الخاتم السحري” ذاته. ذلك لأنه لا أحد يطرح المشاكل الخاصة بهذا “الخاتم”، بل هي تلغى إلغاء وتسقط من الحساب تماما، بمجرد ما يبدأ التعلق به.
“الديموقراطية هي الحل”! هي الحل لمشكل حقوق الإنسان ولمشكل الحريات العامة، ولمشكل التعسف في السلطة، ولمشكل استغلال النفوذ، ولمشكل البطالة، ولمشكل الفقر الخ. ولكن هل الديموقراطية هي الحل لمشكل “الديموقراطية” نفسها، حضورها أو غيابها؟ وهل إذا تحقق قسط منها خفت الحاجة إليها كلها؟ وأين تبتدئ وأين تنتهي الديموقراطية؟ وإذا ما تحققت فهل تغني عن غيرها من الشعارات والمطالب؟ ثم من أين يجب أن تبدأ عملية التحول إلى الديموقراطية؟
أسئلة متناسلة لا حصر لها !
ومهما يكن الجواب فإن الشيء الوحيد الذي يستطيع كاتب هذه السطور تقريره وتأكيده هو الدرس الذي استخلصه من التجارب التي جرت أمام ناظريه في العالم العربي بما فيه المغرب، وهي صنفان: صنف رفع شعار “الثورة ضد فساد” ما كان موجودا من “الديموقراطية”، فأراد أن يحقق مضمون الديموقراطية بوسائل تقع خارج الديموقراطية. لقد انتهت هذه التجارب إلى تكريس غياب الديموقراطية وأنتجت، من بين ما أنتجته، فسادا خاصا بها. والفساد في جميع الأحوال فساد. لم يكن من الممكن إذن الانتقال إلى الديموقراطية بوسائل غير ديموقراطية، وهل يؤدي الجوع إلى الشبع! إن فكرة “وداويني بالتي كانت هي الداء” فكرة انتحارية، ولا يمكن أن تكون شيئا آخر. ليست هناك مفاضلة في الاستبداد، والاستبداد لا يثمر نقيضه، هو يعيد إنتاج نفسه، إما في صورة استبداد أعتى، أو في صورة فوضى عارمة!
أما التجربة المغربية التي لم ترفع شعار “الثورة ضد الفساد” وفضلت الاحتفاظ به وسارت في اتجاه تنميته إلى أن حصل الاقتناع مؤخرا -تحت ضغط هذا العامل أو ذاك- بالدخول في مرحلة ما نسميه الآن بـ “التحول نحو الديموقراطية”، فقد أثبتت، إلى حد الآن على الأقل، أنه يمكن أن يكون هناك قدر كبير من الحريات العامة، حرية التعبير وحرية التجمع وحرية تكوين الأحزاب وحرية الاحتجاج، وقدر أكبر من الكلام عن الديموقراطية والتنويه بها من القمة إلى القاعدة الخ، ومع ذلك تبقى الديموقراطية مطلوبة، وأكثر من ذلك تبقى أسئلة “الانتقال إلى الديموقراطية” مطروحة ربما بحدة أكبر!
وما نهدف إليه في هذا المقال هو القيام بنوع من المناقشة لهذه الأسئلة -أسئلة الانتقال إلى الديموقراطية- التي نحصرها في ثلاثة رئيسية تتفرع عنها أخرى ليس من الممكن ولا من المفيد إحصاؤها، فهي تتوالد وتتناسل كجميع الأسـئلة التي تخص شأنا من شؤون الحياة. ولذلك فسنقتصر منها على ما يطرح نفسه علينا ونحن نخوض في الأسئلة الرئيسية التي سنمحورها حول مفهوم “الانتقال”، أو “التحول”، فنقول:
من البين بنفسه أن “الانتقال”، أيا كان، يطرح ثلاثة أسئلة جوهرية، هي: من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟
أما سؤال “إلى أين؟”، بخصوص موضوعنا، فالعنوان يجيب عنه. ولكن يبقى أن نحدد مضمون هذه “الديموقراطية” التي نريد الانتقال إليها.
وأما “من أين؟” فهذا هو المسكوت عنه غالبا، باعتبار أن الانتقال يكون من الوضعية التي “نحن فيها”، والتي يفترض أنها معروفة.
غير أن هذا السكوت يصبح غير محتمل، بل غير ممكن، عندما يطرح السؤال الثالث نفسه: “كيف ؟”، إذ كيف يمكن تحديد كيفية الانتقال بدون معرفة دقيقة وصحيحة للوضع الذي يكون منه هذا الانتقال؟ وتزداد المسألة تعقيدا عندما تكون المسافة بين الوضع الذي يراد الانتقال إليه والوضع الذي يراد الانتقال منه تفتقد إلى عناصر الاتصال التي تقيم جسورا بين الوضعين، مما يجعل من مطلب “الانتقال” إشكالية نظرية وعملية، وليس مجرد مشكل.
ويبدو أن نوعا من التدرج يفرض نفسه عند طرح أي مطلب. ففي المرحلة الأولى، عندما تكون “القضية” هي المطالبة نفسها -أعني طرح الطلب- فقد يكفي تعيين المطلَب. والشعارات السياسية هي في الغالب مطالب من هذا النوع، على الأقل في بدايات طرحها؛ فهي تركز على “المطلب” الذي يقع في جواب “إلى أين؟” وتغيِّب، لسبب أو آخر، السؤالين الآخرين: سؤال “من أين” وسؤال “كيف”! أما عندما يكون الـمَطْـلَب بصدد تجاوز مرحلة المطالبة إلى مرحلة الإنجاز فإن سؤال “كيف؟” يفرض نفسه. وواضح أن تحديد الكيفية التي يتم بها الانتقال يتطلب المعرفة بالمعطيات التي يكون عنها. إن طرح سؤال “من أين؟” يغدو حينئذ ضروريا.
والوضع الذي يقع في جواب “من أين؟” صنفان : صنف قائم أصلا وهو الذي يراد تغييره، وهو في حال مطلب الديموقراطية “الوضع اللاديمقراطي”. وصنف لم يتحقق لكونه بقي سؤالا أو مطلبا صرف النظر عنه في وقت من الأوقات بصورة أو أخرى، ولسبب أو آخر. ذلك أن أي سؤال جديد إنما يقوم في أعقاب سؤال قديم، كما أن أي اختيار جديد هو في الغالب بديل لاختيار سبقه لم يتحقق، أو لم يعد يفي بالمطلوب. والحق أن المطلب الوحيد الذي يبقى صالحا في كل وقت لا وجود له في الواقع، فما يوجد فعلا هو جملة مطالب تتوالى، يحل بعضها محل بعض ويقوم بعضها بديلا لبعض، سواء تحقق من السابق شيء أو لم يتحقق. قد يكون الانتقال من مطلب إلى مطلب راجعا إلى ظهور صعوبات تجعل تحقيق المطلب السابق أمر صعبا، وقد يكون بسبب أن الوسائل غير كافية، أو أن الظروف قد تغيرت بصورة تستوجب تغيير المطلب أو الوسيلة، أو كليهما الخ.
نقول هذا ونحن نفكر بصورة خاصة في المطلب الذي كان سائدا قبل مطلب الديموقراطية السائد اليوم. ولكي يأخذ شبابنا، من الجيل الذي لم يعانق مطالب الأمس، صورة واضحة عن المسألة التي نحن بصدد طرحها، نرى من المفيد سرد المعطيات التالية التي أصبحت جزءا من التاريخ.
***
لنرجع قليلا إلى الوراء، إلى الوقت الذي كان فيه شباب اليوم في عالم الغيب، أو مجرد صبيان لا مطالب لهم غير المطالب الجسمية المباشرة… لنرجع إلى الوراء ثلاثين أو أربعين سنة لنقارن بين “الانتقال” الذي كان مطلوبا آنذاك و”الانتقال” المطروح اليوم. إن عبارة “الانتقال إلى الديموقراطية” تستدعي اليوم –في أذهان الذين عانقوا قبل ثلاثين أو أربعين سنة ما كان سائدا من قضايا إيديولوجية- عبارة مماثلة كانت تلخص الإشكالية المطروحة آنذاك، أقصد عبارة : “الانتقال إلى الاشتراكية“. وما يهمنا هنا ليس التأريخ لهذه الإشكالية بل تبيان نوع العلاقة التي يمكن إقامتها بينها وبين إشكاليتنا اليوم. إن ذلك سيعيننا على تحديد مضمون الأسئلة الثلاثة الرئيسة التي يدور حولها موضوعنا.
كان “الانتقال إلى الاشتراكية”، يلخص “قضية” العالم الثالث في الستينات والسبعينات، وقد صيغت آنذاك صياغة إشكالية كما يلي: “كيف يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد متخلف”؟ كان الجواب السائد يتلخص في كلمة واحدة :”الثورة”. وبما أن الأمر يتعلق بـ “بلد متخلف” فلم يكن واردا أن تقوم بالثورة طبقة عاملة صناعية مهيمنة (البروليتاريا)، كما كان يُنتَظَر أن يحدث ذلك في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك هو جوهر الماركسية، ماركسية ماركس وإنجلز. ولم يكن واردا أيضا أن يقوم بالثورة في البلدان المتخلفة “تحالف العمال والفلاحين” كما حدث في روسيا التي قاد لينين ثورتها فأصبح ذلك التحالف جوهر اللينينية، أو كما حدث في الصين التي قاد ماوتسي تونغ مسيرتها الثورية الطويلة. ذلك لأن الهيمنة على المجتمع في “البلدان المتخلفة” –أو التي هي في “طريق النمو”- لم تكن لا للعمال ولا للفلاحين، ولا لهم مجتمعين، ولم يكونوا مجتمعين ولا منظمين.
في “البلدان المتخلفة” التي سميت بعد بـ”العالم الثالث”، كما وصفت “تأدبا” بـ “البلدان التي هي في طريق النمو”، ومعظمها خرج من الاستعمار في الخمسينات والستينات لتشكل دولا “حديثة”، في هذه البلدان، إذن، كانت القوة المنظمة الوحيدة هي الجيش الذي بادر فعلا في كثير من البلدان إلى تغيير الوضع “مع الفجر” ليواصل الحكم في الغالب من خلال حزب وحيد ينشئه إنشاء. وقد رافق ذلك بطبيعة الحال تغييب الديموقراطية السياسية، ليس فقط بالإعراض عنها بل أيضا بالقدح فيها وفي جدواها، خصوصا بعد التجارب التي عرفتها بعض هذه البلدان والتي نخرها الفساد نخرا، كما حدث في مصر وسورية وغيرهما من البلدان بعد الاستقلال وقبل “ثورة” العسكر.
(2) – هل يلغي شعار “الديموقراطية” بديله السابق: “الاشتراكية”؟
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي وفشل التجارب الاشتراكية في العالم الثالث عموما، حل شعار “التحول إلى الديموقراطية” محل شعار “الانتقال إلى الاشتراكية”. وهذا بعد أن كان شعار الديموقراطية، وإلى عهد قريب، من الشعارات التي كانت تعتبر متجاوزة وبالتالي تصنف ضمن أشياء الماضي. ذلك أن شعار الديموقراطية قد ارتبط في التاريخ الحديث بما كان يعرف، في الخطاب الماركسي خاصة، بـ “الثورة البورجوازية” بوصفها “ثورة على الإقطاع” وجسرا إلى الثورة الاشتراكية.
ومن منظور الخطاب اليساري أو التقدمي عموما كان ينظر إلى القرن العشرين –في أوربا خاصة- على أنه قرن “الانتقال إلى الاشتراكية”، الشيء الذي يعني الانتقال من الديموقراطية السياسية البورجوازية إلى الديموقراطية الاجتماعية العمالية. وعندما قامت الثورة الروسية إثر الحرب العالمية الأولى، ونجحت إثر الحرب العالمية الثانية في تشكيل معسكر دولي حولها واستقطاب معظم الحركات الاشتراكية في العالم، صار الحديث عن “الديموقراطية” يعتبر عند هذا المعسكر انحرافا يمثل ردة إيديولوجية وموقفا سياسيا معاديا.
أما اليوم، ومنذ سقوط المعسكر الشيوعي، قبل عقد ونصف من الزمن، وانفراد خصمه المعسكر الرأسمالي بالعالم، فقد انقلب الوضع رأسا على عقب: فبدلا من شعار “الانتقال إلى الاشتراكية” صار المطروح هو “الانتقال إلى الديموقراطية”، وبدلا من اعتبار الحديث عن الديموقراطية ردة أيديولوجية وموقفا معاديا صار الحديث اليوم عن “الشيوعية” شبه مستحيل. أما شعار “الاشتراكية” فلم يعد يقبل إلا إذا خصص بالديموقراطية ليصبح “الاشتراكية الديموقراطية”، وهو نفسه الشعار الذي كانت “الشيوعية” تعتبره انحرافا يستوجب الطرد والعقاب. وأكثر من هذا صار اليوم عدم تبني حكومة ما لـ “خيار الديموقراطية”، أو تلكؤها في تبنيه، يعرضها لعزلة أو عقوبات اقتصادية وغيرها، يفرضها عليها ما يطلق عليه اليوم اسم “المجتمع الدولي”: “المجتمع” الذي يتكون أساسا من مجموعة الدول التي كانت تعرف في النصف الأول من هذا القرن بـ “الدول العظمى”، والتي أطلقت على نفسها بعد الحرب العالمية الثانية اسم “العالم الحر” بينما أطلق عليها خصومها اسم “الإمبريالية العالمية”.
أسماء وشعارات كانت بالأمس القريب تملأ الساحة في كل مكان، أما اليوم فقد صارت مجرد ذكريات!
وليست الشعارات والأسماء هي وحدها التي حل بعضها محل بعض، بل لقد حدث ذلك على مستوى الأسئلة والإشكاليات أيضا. ومن الأسئلة الجديدة التي لابد من طرحها أمام هذه التحولات السؤال التالي:
هل يلغي شعار “الانتقال إلى الديموقراطية” بديله السابق: “الانتقال إلى الاشتراكية”؟. وبعبارة أخرى : إذا كانت الشعارات السياسية والإيديولوجية التي تسود في مرحلة تاريخية معينة تعكس ولا بد، بصورة من الصور، شيئا ما في الواقع الموضوعي، قد نسميه صراعا سياسيا أو علاقات اجتماعية أو حاجات وتطلعات الخ ، فهل يعني شعار الساعة “الانتقال إلى الديموقراطية” أن الظروف والمعطيات الواقعية التي كان يعكسها أو يعبر عنها بصورة ما، بديله السابق له (شعار “الانتقال إلى الاشتراكية”)، هي ظروف ومعطيات تم تجاوزها ولم تعد قائمة؟
سؤال يتفرع إلى أسئلة إذا ربطناه بنوع البلد الذي يطرح فيه. وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاث حالات على الأقل:
الحالة الأولى حالة الأقطار الغربية الرأسمالية: والسؤال الذي يخصها هو : هل تمكنت الديموقراطية التي استقرت فيها منذ قرنين من الزمن من تجاوز الحاجة إلى “الانتقال إلى الاشتراكية” وكيف؟ علما بأن شعار “الانتقال إلى الاشتراكية” إنما طرح فيها هي بالذات، أول ما طرح، وأنه كان ينظر إليه بوصفه يعبر فيها، أكثر من غيرها، عن حاجة تاريخية!
الحالة الثانية هي حالة البلدان التي كانت تشكل المعسكر الشيوعي والتي تعيش اليوم، بصورة أو بأخرى، وضعية “الانتقال إلى الديموقراطية”! والسؤال الذي يخص هذه الحالة هو التالي: هل تمكنت “الاشتراكية” التي استقرت في هذه البلدان لمدى عقود، تتراوح بين نصف قرن وثلاثة أرباع القرن، من تجاوز الظروف التي كانت تقف فيها وراء الحاجة إلى الاشتراكية؟
أما الحالة الثالثة والأخيرة فهي حالة البلدان التي كان يطلق عليها اسم “العالم الثالث” وهي التي “خرجت” من الاستعمار، لا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية، وإنما توصف بكونها “بلدانا متخلفة” أو “في طريق النمو” –(تأدبا فقط إذ يجب معرفة ماذا ينمو فيها هل هو “التخلف” نفسه أم غيره؟!). في العالم الثالث إذن، كان ينظر إلى الاشتراكية على أنها الطريق “الوحيد” للخروج من “التخلف”، فهل نحمِّل الديموقراطية اليوم هذه المهمة؟
الحالتان الأولى والثانية تقعان خارج اهتمامنا هنا، وإن كان من المفيد طرح سؤال “التحول إلى الديموقراطية” بصددهما، خصوصا وفيهما بلدان حدث فيها هذا التحول ولها تجربتها الخاصة. من ذلك مثلا إسبانيا التي تحولت من ديكتاتورية فرانكو إلى الملكية الدستورية على النمط الأوربي المعاصر حيث يملك الملك ولا يحكم. ومن ذلك أيضا البرتغال التي تحولت إلى الديموقراطية من ديكتاتورية سالازار إلى نظام جمهوري ديموقراطي يساري. هاتان التجربتان تنتميان إلى الحالة الأولى لأن التحول فيهما جرى في إطار الرأسمالية. أما الديموقراطيات الناشئة في البلدان التي كانت تنتمي إلى المعسكر الشيوعي، وتقع في أوربا الشرقية، فالتحول إلى الديموقراطية قد جرى ويجري فيها مصحوبا بالتحول من “الشيوعية” إلى الرأسمالية.
هذه التحولات التي عرفها الربع الأخير من القرن العشرين لم تحظ بعد بما تستحقه من دراسة واهتمام. ومن المثير للانتباه حقا أن تنصرف –أو تصرف- الأذهان إلى موضوعات ثانوية وأحيانا مصطنعة، مثل “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات” و”الخطر الإسلامي”، ولا يعار ما ينبغي من الدراسة والبحث لتجارب شعوب ودول شغلت الإنسانية أكثر من ثلاثة أرباع القرن!
لنقتصر على تسجيل هذه المفارقة ولننتقل إلى ما يتصل بموضوعنا مباشرة لنقول: إنه عندما يطرح شعار الديموقراطية في البلدان التي في طريق النمو لا ينبغي أن يطرح كشعار بديل أو مقابل أو مغاير لما تعنيه الاشتراكية كمضمون. ذلك أن الحاجات والمعطيات التي كانت تبرر شعار الاشتراكية قبل بضعة عقود ما زالت قائمة، وهي اليوم ليست أقل حدة وإلحاحا من المعطيات التي تبرر وتؤسس فيها الحاجة إلى الديموقراطية. ومن هنا يجب القول –في نظري- إن العلاقة بين الديموقراطية والاشتراكية في هذه البلدان من نوع علاقة الشكل بالمضمون: الديموقراطية شكل سياسي والاشتراكية مضمون اجتماعي. وبعبارة أخرى إن الديموقراطية التي تطمح شعوب هذه البلدان إلى الانتقال إليها ليست الديموقراطية السياسية فقط بل الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية معا.
أعتقد أن هذا هو المسار الذي يتحرك فيه العالم اليوم. إن الديموقراطية هي اليوم الإطار العام الذي يجري فيه الصراع التاريخي، فكل الطبقات وجميع الفئات المتصارعة تعمل اليوم على خوض الصراع من أجل فرض مصالحها بالوسائل التي تدخل في إطار الديموقراطية. وكثير منها وسائل ذات حدين: كالعولمة والمعلوميات والاتصالات الخ. وعلى العموم يجري الصراع على هذا المسار على مستويين : في البلدان التي استقرت فيها الديموقراطية السياسية يجري الصراع من أجل إعطاء هذه الديموقراطية المضمون الاجتماعي الاشتراكي الذي يخفف من غلواء الليبرالية ويحقق الحد الأدنى من العدالة. أما في البلدان التي ما زالت تعاني من الحكم اللاديموقراطي فالصراع قائم فيها، بصورة أو بأخرى، من أجل مقومات الديموقراطية السياسية بدءا من “حقوق الإنسان” إلى التعبير الديموقراطي الحر واعتبار الشعب مصدر السلطات، إلى المضمون الاجتماعي للديموقراطية.
والذي يحدد طبيعة المسار ونوع الصراع السائد فيه والآفاق التي ينشد إليها هو خصوصية كل بلد. فلننظر في خصوصية المغرب بلدنا.
هذا ينقلنا إلى السؤال “من أين؟”.
(3) – من أين ؟ … مقارنات !
كان الكلام يدور في الفقرات الماضية حول سؤال “إلى أين؟”، وكان الهدف من الأسئلة التي طرحناها والقضايا الاستطرادية التي أثرناها هو التدقيق، بقدر ما يسمح به المقام، في معنى “الديموقراطية” عندما نضعها كمطلب يلخص حاجاتنا في الظرف الراهن. وقد انتهينا إلى أن هذا المطلب لا يلغي المطلب السابق الذي كان يعبر عنه شعار “الاشتراكية”، بل يحتويه احتواء الشكل للمضمون. وقلنا إن هذا الترابط بين الديموقراطية كأسلوب للحكم والتغيير والتجديد وبين الاشتراكية كنظام للعدالة الاجتماعية هو ما يشكل مسار العصر للبشرية جمعاء في المرحلة الراهنة من تطورها. إنه المسار الذي بدأ يتبلور بوصفه الوجه الإيجابي لما يسمى بـ” العولمة”.
مسار واحد وهدف واحد، ولكن الطرق والمراحل تختلف، لأن شعوب الأرض ليست على درجة واحدة من التطور. هناك شعوب حققت الديموقراطية السياسية وقطعت أشواطا في تحقيق العدالة الاجتماعية، وهناك بالمقابل بلدان لم تحقق الديموقراطية بعد وهي أبعد ما تكون عن العدالة الاجتماعية، وهذه هي التي تعيش اليوم، بصورة أو بأخرى، الحاجة إلى “الانتقال إلى الديموقراطية” كشكل للنظام السياسي وصولا إلى”الاشتراكية” كمضمون للنظام الاجتماعي.
وإنما قلنا “بصورة أو بأخرى” لأن هذه البلدان ليست على درجة سواء في هذا الأمر. قد يجمعها اسم واحد كـ “البلدان المتخلفة”، أو “البلدان التي في طريق النمو”، أو “العالم الثالث”، ولكن لا يجمعها إلا كونها تعاني، بهذه الدرجة أو تلك، من غياب الديموقراطية، أي من الحاجة إلى “الانتقال إلى الديموقراطية”. وهي “حاجة” إشكالية، أعني أنها تطرح سؤالا إشكاليا.
وكما سبقت الإشارة إلى ذلك في فقرة سابقة، كانت الإشكالية النظرية والعملية التي استبدت بأنظار المفكرين والمنظرين في الستينات والسبعينات في الدول المتخلفة خاصة تصاغ كما يلي : “كيف يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد متخلف؟”. وقد رأينا كيف أن استعصاء الجواب النظري قد فسح المجال لجواب عملي حل محله وهو “الثورة” التي تقوم بها القوة المنظمة الوحيدة في هذه البلدان ، أعني الجيش الذي يبدأ بالإجهاز على ما كان قائما من مظاهر “الديموقراطية” ليختبئ، بصورة أو أخرى، وراء حزبه الوحيد.
واليوم وقد حل مطلب الديموقراطية محل شعار الاشتراكية يبدو وكأن نفس السؤال الإشكالي يفرض نفسه مرة أخرى: “كيف يمكن الانتقال إلى الديموقراطية في بلد متخلف؟”. وإنما يكتسي هذا السؤال طابعا إشكاليا بالنظر إلى أن الديموقراطية الحديثة إنما قامت في أوربا كنتيجة لثورة الطبقة الوسطى، تماما كما كان ينتظر أن تقوم فيها الاشتراكية نتيجة ثورة الطبقة العاملة! فهل هذه الطبقة الوسطى مهيأة في العالم الثالث اليوم للقيام بهذه المهمة: مهمة الانتقال إلى الديموقراطية؟ هل تستطيع تنحية دولة العسكر وحزبها في البلدان التي تحرك فيها العسكر باسم “الثورة”؟ وهل تستطيع تغيير “إصلاح” الدولة القائمة على أسس غير ديموقراطية، في البلدان التي لم تعرف مثل هذا التحرك؟
تنقلنا هذه الأسئلة مباشرة إلى سؤالنا الرئيسي الأول: “من أين؟”، من أي وضع غير ديموقراطي يكون الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب؟
لو كان الأمر يتعلق ببلد عاش في الستينات إشكالية “الانتقال إلى الاشتراكية”، كالجزائر ومصر مثلا، لكان الجواب عن سؤال “من أين؟” واضحا وسهلا. فالمرحلة التاريخية التي ميزت الوضع، حين طرح هذا الشعار في هذين البلدين، هي مرحلة “الثورة” التي دشنت قطيعة مع الماضي (الماضي الملكي في مصر والماضي الاستعماري في الجزائر) لتقيم حكم العسكر الوطني وحزبه الوحيد. وبما أن الاشتراكية لم تتحقق في هذين البلدين، فإن الانتقال إلى الديموقراطية فيهما يعني إذن، كخطوة أولى على الأقل، الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني ومن الحزب الوحيد إلى التعددية الحزبية، الشيء الذي يعني عودة الجيش إلى ثكناته كجيش محترف من جهة، وترك الأحزاب تشكل الحكومة بدل تشكيل الحكومة لحزبها الوحيد. تلك هي الخطوة الأولى.
واضح أن وضع المغرب يختلف: فهو لم يعرف قط حكم العسكر بهذا المعنى، كما أن التعددية الحزبية متحققة فيه منذ الاستقلال. ومع أنها تعددية مقلوبة، إذ كانت تصنع من أعلى وليس من أسفل، فإن هناك مؤشرات تدفع إلى الأمل في تصحيح الوضع والدخول في مرحلة تشكيل الحكومة بواسطة أحزاب مستقلة عن الإدارة، صانعة التعددية من قبل.
هل تتطابق الوضعية في المغرب مع وضعية بلد كإيران؟ هناك فعلا أوجه شبه كثيرة: فالعسكر هنا وهناك داخل ثكناته خارج المسرح السياسي، تقريبا. والتعددية الحزبية متوفرة في البلدين إما على صورة أحزاب وإما على شكل تيارات. والشبه قوي بين بنية الدولة هنا وبنيتها هناك، ويتمثل خاصة في وجود رئيس حكومة إصلاحي هنا وهناك يحظى كل منهما بتأييد شعبي ودولي واسع، ولكن مشكلتهما أنهما لا يمارسان السلطة لأن مراكز القرار ليست في أيديهما، بل هي في أيدي القوى المحافظة التي تعترض سبيل التغيير والإصلاح بشكل أو بآخر، على الرغم من أنهما يجنحان إلى الإصلاح بهدوء، ويتحركان بتبصر، ويتحملان انتقادات أنصارهما وخصومهما بصبر. ويمكن أن نضيف شيئا ما من التشابه بين موقف قمة الدولة هنا وقمة الدولة هناك. فالملك محمد السادس ومن قبله والده المرحوم الحسن الثاني لم يبخلا على اليوسفي وحكومته بضروب من التنويه، والمرشد العام في إيران لا يعارض خاتمي صراحة بل يظهر تأييده له.
ومع ذلك فوراء هذا التشابه المثير للانتباه يقوم اختلاف كبير على مستوى “من أين؟” لا يجوز إغفاله. ذلك أن الانتقال إلى الديموقراطية يتم في إيران من “الثورة” التي قادها رجال الدين الشيعة. وللشيعة مفهوم خاص للحكم يختلف عن المفهوم الذي نجده في المغرب قديما وحديثا. أضف إلى ذلك أن القوى المحافظة المقاومة للتغيير معروفة في إيران بأشخاصها ومراكز نفوذها وهي تقوم في وجه الإصلاح بصورة علنية، وفي إطار من الصراع مكشوف.
أما في المغرب فالقوى المقاومة للإصلاح صنفان:
صنف مكشوف يقاوم الإصلاح باتهام الحكومة بالعجز عن القيام بالإصلاح، أو على الأقل بكونها تمارسه ببط ء! وهذا الاتهام ينتمي إلى ذلك الصنف الذي يقال فيه : “كلمة حق أريد بها باطل”: هناك بط ء فعلا وهذا حق. ولكن التنديد به من طرف القوى التي صنعت الإرث الذي يجعل الإصلاح اليوم ضرورة ملحة تنديد لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق. بل هو “حق” مزيف يراد به أو يمكن أن يراد به باطل. ذلك أن اتهام قوى الإصلاح بالعجز عن الإصلاح معناه التشكيك في صلاح الإصلاح الذي تدعيه، وبالتالي يكون إبقاء ما كان على ما كان هو عين “الإصلاح”.
أما الصنف الثاني من القوى المناهضة للإصلاح فهو “خفي” لا يتكلم لا في البرلمان ولا على صفحات الجرائد، وبعض العارفين يطلقون عليه “جماعة الضغط”، وبعضهم يسميه بـ “الحزب السري”. ونحن لا ندري هل ستتطور الأمور إلى وضع شبيه تماما بالوضع الذي في إيران حيث يتم الصراع بالمكشوف أم أن حكمة “التراضي” المغربية ستتغلب في نهاية المطاف على ما يحتمل من ردات إلى الوراء!!
كل ما يمكن الجزم به اليوم هو أن الوضع في المغرب غيره في إيران على الأقل من حيث إن الصراع هناك بالمكشوف أما هنا فهو يتم في إطار “التراضي”. أضف إلى ذلك فرقا آخر على جانب كبير من الأهمية وهو أن الانتخابات هناك تمر نزيهة، والأصوات التي تتحدث عن التزوير قليلة أو غير موجودة بالمرة. أما في المغرب فالإجماع الوحيد، الذي وراءه مضمون صادق مائة بالمائة، هو الإجماع القائم على أن جميع التجارب الانتخابية الماضية كان التزوير عنصرا هيكليا فيها!
نخلص من هذه المقارنات إلى أن الجواب عن سؤال “من أين يكون الانتقال إلى الديموقراطية”، عندما يتعلق الأمر بالمغرب، لن تفيد فيه المقارنة لا مع الجزائر ولا مع مصر ولا مع إيران، بل ولا مع أية دولة أخرى في العالم إلا الفائدة السلبية التي تبرز الاختلاف وتؤكد الخصوصية. وإذن فلا يبقى أمامنا إلا مقارنة المغرب مع المغرب نفسه.
وأنا أستعمل هنا كلمة “مقارنة” قصدا، لأنه عندما يتعلق الأمر بموضوع يمت إلى عالم الاجتماع والسياسية فإن المقارنة تفرض نفسها صراحة أو ضمنا. ذلك أننا في العلوم الاجتماعية والسياسية لا نقوم بالتجارب في المخبر كما يفعل الفيزيائي مثلا، بل نقوم بتجارب ذهنية تعتمد أصلا على المقارنة، بنيوية كانت أو إحصائية.
ومع ذلك فلن أسلك هنا طريق الباحث الاجتماعي ولا سبيل المحلل السياسي للجواب عن السؤال المطروح بخصوص المغرب، سؤال: “من أين؟”. لن أجابه الوضع الراهن، لن أتخذه خصما سياسيا ولا موضوعا للتشريح السوسيولوجي أو الإيديولوجي، بل سأحاول التعرف عليه بتوظيف جانب هام من تراثنا الفلسفي. وهذا الاختيار على صعيد المنهج يفي بالغرض. وسيلمس القارئ أنه يمكن أحيانا الكلام في السياسة بواسطة التراث كلاما لا يقل قوة ولا مصداقية عن الكلام فيها بواسطة معطيات الخطاب السياسي المعاصر.
سألجأ إذن إلى ماضي المغرب، وبالضبط إلى شهادة المفكرين الذي وصفوا هذا “الماضي” يوم كان حاضرا يجري مجرى الراهن أمامهم، وبالتالي فلن تكون مرجعيتي هنا هي نفس مرجعية الكلام عن الديموقراطية في أوربا. وبعبارة أخرى لن أستند لا إلى هيجل ولا إلى ماركس ولا إلى مانهايم والقائمة طويلة. ستكون مرجعيتي مغربية مائة في المائة، وإذا كان فيها شيء ما من “خارج المغرب” فمستندي سيكون رأي الفلاسفة والمفكرين المغاربة في ذلك الشيء، وليس ذلك الشيء نفسه.
(4) – بين “المدينة الفاضلة” … و”اجتماع البيوتات”
من أين يكون الانتقال إلى الديموقراطية؟ سؤال سيصبح أوضح إذا نقلناه إلى المشخص. والمعنى المشخص للديموقراطية هو أنها طريقة معينة في الحكم. فكيف يكون الانتقال من طريقة في الحكم إلى أخرى، وبعبارة موجزة : كيف تتعاقب نظم الحكم؟
إذا طرحنا هذا السؤال على الفلسفة فإنها ستحيلنا بكل تأكيد على أفلاطون. أما إذا طرحناه على الفكر الفلسفي العربي في المغرب وخارج المغرب فإنه سيشير علينا بابن رشد أولا، ثم بابن خلدون ثانيا، وليس هناك ثالثا!
ولسائل أن يسأل : ولماذا لا تطرح هذا السؤال على غيرهما من مفكري الإسلام من متكلمين وأصوليين ومؤرخين ومؤلفين في “نصائح الملوك” و”الآداب السلطانية” الخ؟
نقول جوابا على هذا السؤال الاعتراضي: إن هؤلاء جميعا دأبوا على اختزال مسألة الحكم في التاريخ الإسلامي كله في القول: “بدأ الحكم في الإسلام خلافة (مع الخلفاء الراشدين) ثم انقلب إلى ملك عضوض” (مع معاوية). وإذا كانوا قد تكلموا في “الخلافة” كثيرا، بكلام مكرور في الغالب، فقد سكتوا عن بيان طبيعة هذا “الملك العضوض” الذي يغطي تاريخ الإسلام كله، باستثناء ثلاثين سنة من الخلافة الراشدة. سنترك هؤلاء، إذن، لننتقل إلى الفلاسفة الذين عرفوا من خلال أفلاطون تفاصيل كثيرة ودقيقة عن طبيعة “الملك العضوض”، وعن أصنافه، وعن كيفية تعاقب هذه الأصناف وتحول بعضها إلى بعض. وسنضيف إليهم ابن خلدون الذي قام بمحاولة أصيلة لتفسير طبيعة هذا “الملك العضوض” من داخل التجربة الحضارية العربية الإسلامية.
لقد شاع عن أفلاطون أنه صاحب “المدينة الفاضلة” التي اعترف هو نفسه أنها يصعب أن تقوم على الأرض، وإنما مكانها “في السماء”، سماء “المثل” التي تتحقق فيها نماذج الأشياء، ومنها نظم الحكم، على أجمل صورة وأكمل ما يكون الشيء. وهذا صحيح. ولكن صحيح أيضا أن أفلاطون قد حلل وشرَّح النظم الأخرى من الحكم غير الفاضل، نظم المدن المضادة للمدينة الفاضلة. وإذا كان في حديثه عن المدينة الفاضلة يميل إلى الخيال والحلم فهو في تحليله الخالد حقا لمضادات هذه المدينة –أي لأنواع الملك العضوض وأسراره وخفاياه- أكثر واقعية وأكثر موضوعية وتدقيقا من أي محلل يمكن وصفه بهذه الأوصاف، في العالم القديم.
***
معلوم أن “الديموقراطية” كلمة يونانية وهي مؤلفة من ديموس بمعنى الشعب، وكراتوس بمعنى سلطة أو حكم. فالديموقراطية إذن هي “حكم الشعب نفسه بنفسه”. ولم يكن أفلاطون يحبذ هذا النوع من الحكم لأن التجربة قد دلته على أن العيب الأكبر الذي يصيب “المدينة” التي يتولى فيها الحكم أشخاص من “الشعب” (أو الدهماء) هو جهل هؤلاء وعدم كفاءتهم، ولذلك قرر أن المدينة لا تكون فاضلة إلا إذا شيدت لبنة لبنة بإعداد رجال الدولة والساسة خير إعداد، فيكونون عارفين بشؤون المدينة (الدولة) أكفاء قادرين على القيام بمهامهم خير قيام. ومن هنا ارتأى أن المدينة لا تكون فاضلة إلا إذا كان رئيسها فيلسوفا، وهو ذلك الرجل الواسع المعرفة، الحكيم في تفكيره وسلوكه. لقد نظر إلى رئيس المدينة نظرة الناس إلى الطبيب. فإذا كان من شرط مزاولة مهنة الطب، التي هي حفظ صحة البدن وإزالة المرض عنه، المعرفة الدقيقة بالبدن وبالأمراض وأسبابها وطرق علاجها، فكذلك يجب أن يشترط في رئاسة المدينة الفاضلة أن يكون رئيسها عارفا بشؤون المدينة قادرا على أن يحقق العدالة في تدبيره لها. ولكن أفلاطون انتهى كما قلنا إلى الإقرار بصعوبة قيام مثل هذه المدينة لأن الفلاسفة قليلون ولا يوجدون في كل وقت، وإذا وجدوا فالناس في الغالب لا يسلمون أمرهم إليهم، ثم إن من الفلاسفة أنفسهم من لا يتصفون بما يلزم من الخصال الحميدة التي لا بد منها في رئيس المدينة.
تبقى إذن المدن التي تقوم في الواقع فعلا، وهي أنظمة في الحكم جعلها أفلاطون تتعاقب في كتابه “الجمهورية” كما يلي: حكومة الأرستقراطية Aristocratie التي ترجمت إلى العربية بـ “حكومة الأخيار”، وهي عنده أفضل أنواع الحكم الممكنة واقعيا. وبانحلال هذا النوع تقوم التيموقراطية Timocratie وتعني حرفيا دولة الثروة والقوة العسكرية، وقد ترجمت إلى العربية بـ”رئاسة الكرامة” أو “مدينة الغلبة” لكون أصحابها يسعون إلى “الكرامة”، بمعنى المجد والغنى، عن طريق الفتوحات العسكرية (كما كان الشأن في اسبرطة). وبانحلال التيموقراطية تنشأ الأولغارشية Oligarchie أي حكومة الأقلية من الأغنياء، وقد ترجمت إلى العربية بـ”رئاسة القلة” وبـ”رئاسة الخسة” و”برئاسة خدمة المال” وبـ “رئاسة اليسار”. وبانحلال الأوليغارشية تقوم الديمقراطية Démocratie وهي “حكم الشعب نفسه بنفسه”، وعرف هذا النوع في الترجمات العربية القديمة بـ “الرئاسة الجماعية” وبـ”مدينة الحرية”. فالديموقراطية عند اليونان هي المدينة الجماعية التي يغلب فيها ما هو طبيعي وفطري ولا تتجاوز في الغالب ما هو ضروري، ويكون السؤدد فيها لذوي النسب والحسب. وبانحلال الديموقراطية تعم الفوضى ويكون المآل قيام الحكم الاستبدادي أو الطغيان Tyrannie وقد ترجم هذا المصطلح قديما بـ “مدينة التغلب” أو “رئاسة وحدانية التسلط”.
وهكذا تنحصر نظم الحكم الواقعية بين طرفين، أحدهما حكومة الأخيار (الأرستقراطية ) Aristocratie وهي الأقرب إلى المدينة الفاضلة، والآخر حكومة الطاغية وحداني التسلط Tyrannie وهي في الطرف المقابل الأبعد عن المدينة الفاضلة. وبين هذين الطرفين تتعاقب نظم الحكم عبر التيموقراطية والأولغارشية والديموقراطية.
على أن أفلاطون يعود في مؤلفات أخرى ليصنف الحكومات حسب كونها دستورية تحكم بالقانون أو غير دستورية تحكم بالهوى، وانطلاقا من كون الحكم فيها في يد فرد أو أقلية أو في يد الجميع. وهكذا فالحاكم الفرد قد يكون على رأس حكم ملكي دستوري وقد يكون على رأس حكم استبدادي، والأقلية الحاكمة قد تكون دستورية فتكون حكومتها “حكومة الأخيار” (الأرستقراطية) وقد تكون غير دستورية وحكومتها حكومة الأغنياء (الأوليغارشية)، أما الحكم الجماعي (الديموقراطية) فقد يكون معتدلا وقد يكون متطرفا. وأفضل نظم الحكم حسب هذا المقياس الجديد هي الملكية المقيدة بدستور وبهيئات نيابية تمثل الجميع. إنه نظام في الحكم مركب، يجمع بين الملكية والديموقراطية ويتجنب مساوئهما: يتجنب مساوئ الملكية المطلقة التي تتلخص في حب السلطة والانفراد بها، كما يتجنب مساوئ “الديموقراطية/الجماعية” التي تتمثل في المغالاة في حب “الحرية” (أي عدم الخضوع لأية سلطة). وبالجمع بينهما بالشكل الملائم يحصل التوازن الذي يحكمه مبدأ الحكمة المفترض في النظام الملكي ومبدأ الحرية الذي تقوم عليه الديموقراطية. ذلك هو ما انتهى إليه أفلاطون في آخر كتاب له في الموضوع: كتاب “القوانين” (ترجم إلى العربية باسم “النواميس”).
فكيف قرأ فلاسفة الإسلام هذه النظم؟ أما الفارابي فقد احتفظ بـ”المدينة الفاضلة” التي يرأسها فيلسوف أو نبي واعتبر الباقي مدنا جاهلة: ضالة أو فاسقة أو مبدلة الخ. أما ابن سينا فلم يعر للموضوع كبير اهتمام. ويبقى ابن رشد وحده الذي ناقش المسألة بعمق من خلال شرحه المختصر لجمهورية أفلاطون، وهو شرح فريد حقا. لقد فسر أفلاطون لا بالتفكير في نفس الأمثلة اليونانية التي فكر بها وفيها أفلاطون، بل بالتفكير في أمثلة من الواقع المغربي خصوصا، والتجربة الحضارية العربية الإسلامية عموما.
اختصر فيلسوفنا، إذن، كتاب “السياسة” لأفلاطون، وهو المعروف اليوم بـ”الجمهورية”، وعلق على كثير مما ورد فيه، مطابقا بين ما قرره أفلاطون في هذا الكتاب وبين حقب من التاريخ الإسلامي. وفي يلي أمثلة:
يوافق فيلسوف قرطبة أفلاطون على تحليله لكيفية انتقال الحكم من الرئاسة الفاضلة إلى الرئاسة الكرامية (رئاسة العسكر والفتوحات) ويقرأ ذلك التحليل في مراحل من التاريخ الإسلامي. يقول مخاطبا قارئه: “وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية”، ثم يضيف: “ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزيرة” ، يعني الأندلس.
ومضمون هذه الملاحظة الأخيرة أن الحكم في المغرب والأندلس كان أقرب إلى السياسة الفاضلة على عهد الملك المستنير المتفلسف يوسف بن عبد المؤمن ثم تحول إلى حكم العسكر وطلب المجد من خلال الأعمال العسكرية على عهد ابنه يعقوب المنصور. أما في الأقطار الإسلامية الأخرى فقد تفككت الدولة في كثير منها مما جعلها تعيش وضعية “المدينة الجماعية”، وضعية اللادولة حيث الكلمة للقبائل والعشائر وليس للسلطة المركزية. هذا ما يبرزه فيلسوف قرطبة عندما يقول: “والاجتماعات في كثير من الممالك الإسلامية اليوم إنما هي اجتماعات بيوتات لا غير. وإنما بقي لهم من النواميس الناموس الذي حفظ عليهم حقوقهم الأولى” ، يعني نمط العيش في المجتمع القبلي حيث يكتفي الناس بالضروريات.
(2) – دولة المخزن وإمكانية الإصلاح :
(من وجهة نظر ابن رشد وابن خلدون)
(5) – ابن رشد وابن خلدون : المخزن دولة مركبة
إذا كان ابن رشد لا يترك فرصة خلال عرضه للآراء أفلاطون دون الإشارة إلى ما يؤيدها من تاريخ الأقطار الإسلامية، و إذا كان يسهب، بصفة خاصة، في تشريح نظام الحكم الاستبدادي الذي على رأسه الطاغية “وحداني التسلط”، منبها غير ما مرة إلى أنه هو الحكم السائد زمن تأليفه لكتابه، وكان ذلك في أواخر عمره ، فإنه لم يفته أن ينبه، عندما كان بصدد شرح كتاب “الخطابة” لأرسطو، إلى أن نظم الحكم التي ذكرها هذا الأخير، وهي نفسها التي درسها أفلاطون، لا توجد بسيطة إلا على صعيد التحليل؛ أما على أرض الواقع فهي في الغالب مركبة. يقول: “وينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست تُلْفَى بسيطة وإنما تلفى أكثر ذلك مركبة، كالحال في السياسة الموجودة الآن (زمن الموحدين في المغرب والأندلس)، لأنها إذا تُؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب” .
لنسجل إذن هذه الشهادة التي يقدمها لنا ابن رشد، فهي ما يهمنا من هذا الاستطراد نحو أفلاطون وأرسطو : نظام الحكم في المغرب -على عهد ابن رشد على الأقل- كان مزيجا من الملكية والأرستقراطية والتيموقراطية والديموقراطية والطغيان. ومع أن فكرة “الدولة المركبة” كانت معروفة منذ اليونان، على الأقل عند أفلاطون وأرسطو، وقد قال بها ابن سينا وابن باجة كذلك، فإن ما يميز وجهة نظر ابن رشد هو فهمه لفكرة التركيب والنموذج العلمي الذي يستوحيه، كما سنرى لاحقا.
وإذن فسؤالنا الأول : “من أين نريد الانتقال إلى الديموقراطية؟”، يجد جوابه ماضيا وحاضرا في مفهوم “الدولة المركبة” كما دلنا على ذلك ابن رشد. فلنتعرف عن كثب على طبيعة هذه الدولة ولنطلب شهادة ابن خلدون، الذي عاش بعد ابن رشد بنحو قرنين من الزمان، ومعلوم أنه إذا اتفق المؤرخ والفيلسوف على شيء فذلك دليل على أن ذلك الشيء من الحقائق التي لا غبار عليها.
لقد اهتم ابن خلدون بالفلسفة السياسية ولكنه لم يجد فيها بغيته كمؤرخ يبحث عن “معيار صحيح” ترجع إليه الأخبار عن الواقعات للتمييز فيها بين الصادق والكاذب، بين ما تقبله “طبائع العمران” وما لا تقبله. ولذلك قرر أن ينشئ هذا “المعيار”، فابتكره ابتكارا وسماه “علم العمران”، وموضوعه دراسة “العمران البشري” كما هو في الواقع لا كما ينبغي أن يكون.
لم يكن ابن خلدون من دعاة الإصلاح وإنما كان يرى أن للعمران طبائع في أحواله، بمعنى أن التغيير إذا حدث في المجتمع والسياسة فهو يحدث بفعل “قوانين” ونمط من التطور لا فكاك منه. وهذا يعني أن التاريخ في نظره لا يسير وفق رغبات الناس وإنما يسير وفق مسلسل من الأحداث تتحكم فيها عوامل موضوعية مستقلة عن إرادة البشر. وفي مقدمة هذه العوامل : “العصبية”، أي القوة القبلية، فهي صانعة الأحداث والمحركة للتاريخ. وحركة التاريخ –الذي تحركه العصبية- تتم في نظره على الشكل التالي: العصبية “تجري نحو غاية هي الملك”، والملك ينتهي إلى الترف والانفراد بالمجد، وهذان ينتهيان به إلى الهرم ولا بد، فتسقط الدولة تحت ضربات عصبية جديدة مطالِبة تبدأ دورة جديدة وتلاقي هي الأخرى نفس المصير ، وهكذا…
لقد أعرض ابن خلدون، إذن، عن فكرة “المدينة الفاضلة” التي قال بها الفلاسفة، وأفلاطون بالذات، لكونها كما يقول “نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير”. إن “المدن” أو الدول –والمعنى واحد- إنما تنشأ بالعصبية كما قلنا، أما “السياسات” التي تتبعها الدول فهي عنده أساليب في الحكم والتسيير وليست وسيلة للحصول على الحكم أو لإنشاء ممالك ودول.
والسياسات التي عرفها التاريخ الواقعي، والتي يسوس الحكام الناس بمقتضاها هي، في نظر ابن خلدون، صنفان: صنف يستند “إلى شرع من الله يوجب انقيادَهم إليه إيمانُهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه”، وصنف يستند إلى “سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم”. وهذه، أعني السياسة العقلية، “تكون على وجهين: أحدهما يُراعَى فيها المصالحُ على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص، وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة… الوجه الثاني أن يُراعَى فيها مصلحةُ السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعا”. ويضيف ابن خلدون قائلا: “وهذه السياسة [ العقلية ] التي يحمل عليها أهل الاجتماع هي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر، إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم، فقوانينها إذن مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية” .
هكذا يلتقي ابن خلدون مع ابن رشد في وصف طبيعة نظام الحكم في المغرب، بل في الأقطار الإسلامية كلها بعد الخلافة الراشدة، بكونه نظاما مركبا: ابن رشد يقرر بلغته واصطلاحه كفيلسوف أن السياسة في المغرب –يعني نظام الحكم- “إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب“. أما ابن خلدون فيقول عنها بلغة علم العمران الذي شيده: إن “قوانينها مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية”.
هل من اسم يجمع هذه الأوصاف الرشدية-الخلدونية في كلمة واحدة؟ بعبارة أخرى: كيف نسمي هذا النوع من الحكم المركب المختلط؟
لنسمه بالاسم الذي تسمى به الدولة في المغرب، تاريخيا –على الأقل منذ زمن ابن رشد- أعني :”المخزن“! وإذا كان هذا اللفظ قد استعمل في البداية كاسم مكان للمحل الذي تخزن فيه أمتعة الدولة من مؤن وغيرها فإنه سرعان ما صار منذ زمن عبد المؤمن، مؤسس الدولة الموحدية، علَما على صاحب ذلك المخزن، أعني الدولة نفسها. وقد تكرس هذا الاستعمال زمن ابن خلدون، على عهد المرينيين، إذ صار المخزن يعنى الدولة ليس فقط كجامعة للثروة وجابية للضرائب بل أيضا كصاحبة السلطة القهرية، سلطة “المخازني”، أعني الشرطي الذي يجمع بين الحال المدنية والحال العسكرية، والذي ما زال كثير منا يستحضر صورته ودوره في القرية المغربية خاصة! ومعلوم أن المناطق التي لم تكن تمارس فيها سلطة هذا “المخازني”، وبالتالي لا تجبى منها الضرائب، كانت تسمى –على الأقل في القرن الماضي وإلى أوائل هذا القرن- “بلاد السيبة”، في مقابل بلاد المخزن. “السيبة” هي وضعية اللادولة، حيث السلطة لشيوخ القبائل، وهي أشبه بـ “المدينة الجماعية” أو “مدينة الحرية” التي ترجمت بها “الديموقراطية” بالمفهوم اليوناني في الأدبيات السياسية القديمة.
هل “السيبة” حاضرة في هذه القائمة؟
نعم، هي حاضرة في قائمة ابن رشد من خلال عنصر “الحرية”، إذ المقصود منها “المدينة الجماعية” التي لا تخضع لسلطة المخزن وقوانينه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن نجد للسيبة مكانا في عبارة ابن خلدون “أشياء من مراعاة الشوكة والعصبية”.
ولكن هل ينطبق ذلك على مغرب اليوم؟ أعني هل ما زالت “السيبة” عنصرا من مكوناته؟
قد يتحفظ المرء من إضافة هذا العنصر إلى مغرب اليوم، باعتبار أن جميع مناطق المغرب تقع تحت سلطة الدولة/المخزن. ولكن إذا فهمنا من “السيبة” مضمونها الذي يعني الاستطالة على القانون والتهرب من دفع الضرائب وما أشبه، فإنه يصح القول إن دولة المخزن اليوم تتركب أيضا من شيء من فوضى “السيبة”، على الأقل على صعيد تطبيق القانون وأداء الضرائب واحترام الممتلكات.
دولة المخزن دولة مركبة، كما يقول ابن رشد، من “فضيلة، وكرامة، وحرية، وتغلّب”. أو هي تجمع بين “أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية”، كما يقول ابن خلدون. المضمون واحد رغم اختلاف زاوية النظر، ولا حاجة إلى مزيد تعليق!
لنضف فقط ملاحظتين :
أولاهما أن دولة المخزن إذ تختلف في تركيبها عن الدولة عند اليونان وعن الدولة في أوربا في القرون الوسطى تبقى مع ذلك أحد أنماط دولة القرون الوسطى.
أما الملاحظة الثانية فتخص التركيب الذي يميز هذه الدولة، فكونها مركبة يعني أنها ليست فاضلة بإطلاق ولا استبدادية بإطلاق، كما يعني أيضا أنها يمكن أن تتحول وتنتقل من وضع إلى آخر.
ولكن دولة المخزن، كغيرها من الدول، ليست مجرد عناصر منها تتركب، بل هي أيضا نسيج من العلاقات. والعلاقات هي التي تعطي للعناصر مضمونها، وهي التي تربط أو تفصل بين “من أين؟” وبين “إلى أين؟”. وبعبارة أخرى إن الانتقال من وضع إلى وضع لا يكون على مستوى عمق الفرق الذي بين دولة القرون الوسطى والدولة الحديثة إلا إذا دشن قطيعة على مستوى العلاقات. فما هي طبيعة العلاقات التي تنسج جسم دولة المخزن؟
(6) – المال مال بيوتات … والجاه مصدر للمال، والتملق مصدر للجاه
ليست الدولة ولا السياسة مجرد عناصر منها تتركب بل هي أيضا نمط من العلاقات، وأهمها علاقة السلطة بالمال. لقد استفدنا من شهادة كل من ابن رشد وابن خلدون أن الدولة في المغرب –الدولة التي عاشا في كنفها- دولة مركبة، ليست فاضلة بإطلاق ولا ضالة بإطلاق. وهذا يخص نوع ممارستها للسلطة. يبقى بعد ذلك أن نطلب شهادتهما في مصدر السلطة نفسها ونظام العلاقات فيها.
دولة المخزن، التي تحدث عنها ابن رشد وابن خلدون تنتمي إلى القرون الوسطى، وإذن فالعلاقات فيها ليست من نوع العلاقات التي يتميز بها المجتمع الحديث والتي ينسجها السلوك العقلاني، واحترام حقوق الإنسان والمواطن، والمساواة بين الناس الخ. العلاقات في مجتمع دولة المخزن لم تكن من هذا القبيل، كما أنها لم تكن من النوع الذي عرفته أوروبا والذي يحكمه قانون “المال مفيد للسلطة”، أي يعطيها (علاقات السيد بالعبد، علاقات القن بالإقطاعي، علاقات العامل برب العمل). العلاقة بين السلطة والمال في دولة المخزن علاقة معكوسة. فليس المال فيها هو الطريق إلى السلطة بل السلطة هي الطريق إلى المال. وهذا ما يشهد له كل من ابن رشد وابن خلدون، فلنستمع إلى شهادتها.
يلاحظ ابن رشد أن الناس في كثير من الممالك الإسلامية صنفان: “صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة، كما كان الحال عليه عند أهل فارس وكما عليه الحال في كثير من مدننا”. ويضيف ابن رشد: “وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم، ويمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط، كما يعرض هذا في زماننا هذا وفي مدننا هذه.” ثم يضيف : “وإذا اتفق مع هذا أن كان هؤلاء الرؤساء لا يقسمون فيهم بالعدل هذه الأموال المأخوذة منهم، وكانوا يتسلطون عليهم، كان ذلك أشد الأمور قسوة على العامة(…) والأموال المكتنزة أصلا في هذه المدينة هي اليوم في حقيقة أمرها أموال بيوتات، أعني أنها من أجل بيوتات السادة، ولذلك فالجزء الإمامي منها (رئاسة الدولة =الخليفة) هو اليوم جزء التسلط بإطلاق”.
والجدير بالتنبيه أن لفظ “السادة” في عبارة ابن رشد قد ورد كمقابل لـ “العامة”، وليس كمقابل لـ “العبيد”، وهو يحيل لا إلى “الخاصة” عموما بل إلى فئة منها هي التي كانت تشكل قوام “المخزن” الموحدي. ذلك أن لفظ “السيد” كان يطلق بالتخصيص على رجال الموحدين الذين كانوا العمود الفقري للمخزن. فانقسام المجتمع آنذاك إلى “سادة” “وعامة” يوازيه ذلك التصنيف الذي كان جاريا في مغرب ما قبل الحماية الفرنسية : المخزن والرعية، والذي ما زالت آثاره وبقاياه ماثلة إلى اليوم. والمخزن بهذا المعنى الاجتماعي يشمل جميع أولئك الذين يتمتعون بقسط من “الجاه”، من الوزراء وكبار الموظفين، إلى القضاة والعلماء والأعيان والعدول والقواد والإقطاعيين إلى من دونهم من “المخازنية” ومن في معناهم. جميع هؤلاء كانوا في موقع “السادة” يمعنون “في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحيانا إلى التسلط”، حسب عبارة فيلسوف قرطبة.
على أن الاستيلاء على أموال العامة لا يكون بالتسلط وحده، بل يحصل أيضا بالخدمة : خدمة العامة للسادة. وهذا ما بينه صاحب المقدمة بوضوح في فصل عقده بعنوان: “فصل في أن الجاه مفيد للمال”، أي يعطيه. يشرح ابن خلدون سبب ذلك وما يترتب عنه فيقول: “والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه. فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي، فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه. وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض، فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه. والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد يسارا وثروة”.
والجاه بهذا المعنى يسري في جسم المجتمع من أعلى إلى أسفل ليس على مستوى الأفراد وحسب بل وعلى مستوى الطبقات كذلك. وهذا ما يشرحه ابن خلدون قائلا: “ثم إن كل طبقة من طباق (=طبقات) أهل العمران، من مدينة أو إقليم، لها قدرة على من دونها من الطباق، وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه. والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش؛ ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه: فإن كان متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك، وإن كان ضيقا قليلا فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآيبا في تنميته. فأكثر التجار، وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصنائع كذلك، إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمِّقون العيش ترميقا ويدافعون ضرورة الفقر مدافعة” .
معنى ذلك أن السلطة والمال في المجتمع المخزني يسيران جنبا إلى جنب وبشكل متداخل، من أعلى إلى أسفل، على صورة هرم مقلوب ملابس لهرم السكان: قاعدة هرم الجاه والمال، حيث يوجد أكبر قدر منهما، ملابسة لقمة هرم السكان، ثم تأخذ تلك القاعدة في الضيق نزولا إلى قاعدة هرم السكان، حيث تلتصق الأغلبية الساحقة بالأرض بلا جاه ولا مال.
الجاه هو مصدر الثروة في دولة المخزن، فكيف يتم الحصول عليه؟
يجيب ابن خلدون: بالخضوع والتملق لذوي السلطان. ذلك أن الجاه يبذله من هو فوق لمن هو تحت: “فيكون بذله بيد عالية وعزة، فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق” . ويلاحظ ابن خلدون أن هذا الخلُق، خلق التملق، يحدث في الدول اضطرابا في المراتب: ذلك أن “كثيرا من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بِجِدِّه ونصحه، ويتزلف إليه بوجوه خدمته، ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه، حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته، فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة”. ومن هؤلاء يتكون من يسميهم ابن خلدون بـ”المصطنعين الذين لا يعْتَدُّون بقديم ولا يذهبون إلى دالَّة ولا ترَفُّع، وإنما دَأْبُهم الخضوع له والتملق والاعْتِمال في غرضه متى ذهب إليه، فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان والمكانة عنده” .
(7) – ابن خلدون: الهرم حتمي… وابن رشد : الإصلاح ممكن !
خلاصة ما تقدم أن دولة المخزن دولة مركبة “من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب” بتعبير ابن رشد، أو من تيموقراطية وأوليغارشية وديموقراطية واستبداد حسب المصطلح اليوناني. أما جوهر العلاقات في مجتمعها فيقوم على مبدأين متلازمين: “الجاه مفيد للمال” بالتسلط أو بالخدمة، و”التملق مفيد للجاه” الذي يولد طبقة المصطنعين، حسب تعبير ابن خلدون.
هل يمكن إصلاح هذه الدولة؟ هل يمكن الدفع بالأمور فيها إلى أن تصير “الفضيلة” فيها مهيمنة؟
لنطلب الجواب مرة أخرى من ابن خلدون وابن رشد!
أما ابن خلدون فقد استقى جوابه من استقراء تاريخ الأقطار الإسلامية إلى عهده، وبالخصوص منها أقطار المغرب العربي، مفضلا التقيد بما تعطيه “الأخبار عن الواقعات” المتسقة مع “طبائع العمران”، متجنبا الخوض في ما ينبغي أن يكون، سواء كان ذلك مما يتصوره الفلاسفة “على جهة الفرض والتقدير” أو مما يسعى إليه صاحب الدعوة الدينية. هو يقرر أن القوة المحركة للتاريخ هي العصبية، وأنه على الرغم من “أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق”، فإن “الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”، و”أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد” والجنوح إلى “الترف والدعة والسكون”، وأنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم“، “وأن الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص”()، و”أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع“ .
ومع هذا التسلسل الحتمي الذي ينتهي بالدولة إلى الهرم والسقوط، والذي لا يترك مجالا للتفكير في أي إصلاح، فإن صاحب المقدمة لا يستبعد أن “تستجد الدولة عمرا آخر سالما من الهرم”، وذلك بـ “أن يتخير صاحب الدولة أنصارا أو شيعة” من غير أهله وقبيلته “ممن تعوّد الخشونة”، أي من غير أولئك الذين حصل بهم الانفراد بالمجد والترف والدعة والذي جروا الدولة نحو الهرم. ويستشهد ابن خلدون لإمكانية حصول هذا التجدد في الدولة، رغم بلوغها مرحلة الهرم، بالسياسة التي كانت تسلكها “دولة الموحدين بإفريقية ، فإن صاحبها كثيرا ما يتخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدولة المتعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم” .
هل يتعلق الأمر بـممارسة مبكرة لـ “التناوب“؟
ومع ذلك فإن هذا العمر الذي تضيفه الدولة إلى عمرها الأصلي لا يحول دون وقوع الدولة، في نهاية المطاف، في “المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها منه برء إلى أن تنقرض “ . إن أفق تفكير ابن خلدون تحكمه حتمية الهرم لأن هرم “الدولة” في نظره طبيعة من “طبائع العمران”، وبالتالي فـ “التناوب” الذي ذكره ابن خلدون قد يضيف إلى الدولة عمرا آخر، ولكنه لا يقيها من الهرم المحتوم.
هل يوافق ابن رشد على هذا الرأي؟ هل يقول بحتمية الهرم؟
لا، إن فيلسوف قرطبة يرى أن الإصلاح ممكن والمدينة الفاضلة ممكنة، ولكن بشروط! وفيما يلي موجز لوجهة نظره.
عندما انتهى ابن رشد من عرض آراء أفلاطون في تحول أنظمة الحكم على التعاقب، من الأرستقراطية (حكومة الأخيار) إلى التيموقراطية إلى الأوليغارشية إلى الديموقراطية إلى الطغيان، نبه إلى أن هذا التعاقب ليس ضروريا ولا حتميا، لأن الأمر يتعلق بالشئون الإنسانية وهي كما يقول: “إرادية كليا”، أي أعمال يأتيها البشر بإرادتهم وتتدخل فيها السنن القائمة كالتربية والسياسة والتشريعات. ومن هنا كان “تحول الإنسان من خلق إلى خلق” لا يحصل ضرورة وبالحتم، كما تحدث التحولات في الطبيعة، و “إنما يكون تابعا لتحول السنن ومرتبا على ترتيبها” .
ويرد ابن رشد على الاعتراض القائل إن قيام المدينة الفاضلة كما تصورها أفلاطون يتطلب أن يكون الحكام فلاسفة، وهؤلاء يندر وجودهم، وإذا وجدوا، كما كان الحال زمن أفلاطون نفسه، فالناس في الغالب لا يأتمرون بأمرهم ولا يتخذونهم قدوة؛ ثم إن متعاطي الفلسفة أنفسَهم كثيرا ما يفتقدون الصفات التي تؤهلهم لقيادة المدينة الفاضلة، والنتيجة من كل ذلك استحالة قيام هذه المدينة! يرد ابن رشد على هذا الاعتراض بالقول: “والجواب هو أنه يمكن أن نربي أناسا بهذه الصفات الطبيعية التي وصفناهم بها، ومع ذلك ينشئون وقد اختاروا الناموس العام المشترك الذي لا مناص لأمة من هذه الأمم من اختياره، وتكون مع ذلك شريعتهم الخاصة بهم غير مخالفة للشرائع الإنسانية، وتكون الفلسفة قد بلغت على عهدهم غايتها. وذلك كما هو عليه الحال في زماننا هذا وفي ملتنا هذه. فإذا اتفق لمثل هؤلاء أن يكونوا أصحاب حكومة [حكم ]، وذلك في زمان لا ينقطع، صار ممكنا أن توجد هذه المدينة” الفاضلة .
على أن الطريق إلى المدينة الفاضلة ليست واحدة في نظر ابن رشد: هو يرى أنها “قد تنشأ على غير هذا الوجه” الذي رسمه أفلاطون، ويضيف فيلسوف قرطبة: “غير أن ذلك يكون في زمن طويل: وذلك بأن يتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة ملوك فضلاء، فلا يزالون يرعون هذه المدن ويؤثرون فيها قليلا قليلا إلى أن تبلغ في نهاية الأمر أن تصير على أفضل تدبير”. ويضيف ابن رشد قائلا: “وتحول هذه المدن [ غير الفاضلة نحو أن تصير فاضلة ] يكون بشيئين اثنين، أعني بالأفعال والآراء، ويزيد هذا، قليلا أو كثيرا، تبعا لما تجري به النواميس القائمة في وقت وقت و[تبعا] لقربها من هذه المدينة [ الفاضلة ] أو بعدها عنها”. ثم يضيف قائلا: “وبالجملة فتحولها إلى مدينة فاضلة أقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة، وأنت تلمس ذلك في مدننا”().
خلاصات أربع نخرج بها من ملاحظات فيلسوفنا:
1- إن بقاء دولة المخزن على ما هي عليه من الاستبداد أو دخولها في مرحلة الهرم ليس أمرا حتميا، فالإصلاح ممكن لأن الشؤون الإنسانية ” إرادية كليا”. وبعبارة معاصرة: الإصلاح مسألة إرادة، وبالتالي فهو لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي.
2- لابد لكي ينجح الإصلاح من اختيارات محددة لا تتناقض مع “الناموس العام” الذي اختارته الأمة، وفي نفس الوقت لا تكون “مخالفة للشرائع الإنسانية”. ولابد من “أن تكون الفلسفة قد بلغت غايتها”؛ وبلغة عصرنا لابد من دستور غير مخالف لـ “الشريعة الإنسانية”، والشرائع الإنسانية اليوم تتلخص في كلمة واحدة هي “الديموقراطية”، ولا بد من “فلسفة” أي من فكر مستنير يحل محل العقلية المخزنية والسلوك المخزني.
3- إن الآراء الحسنة والتصريحات المنعشة وحدها لا تكفي في الإصلاح، بل لابد أن تقرن بالأعمال الصالحة.
4- لا بد من تعاقب “حكومات أخيار” يرعون الإصلاح ويواصلونه إلى أن يصير الأمر على “أفضل تدبير”.
هل ينبغي لي إضافة شيء آخر ؟
سأقتصر على تقرير ما يلي:
الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب يعني مواجهة الحتمية الخلدونية بالمشروع الرشدي.
ولكن كيف؟ إنه السؤال الثالث من أسئلتنا الرئيسية.
(8) – في معنى التركيب : اليوم وقبل اليوم!
لعل القارئ يتساءل : ماذا يعني كل هذا الكلام التراثي بالنسبة لحاضر المغرب اليوم؟ ما علاقة مفهوم “التركيب” كما وظفه ابن رشد وابن خلدون في فهم مجتمعهما ودولتهما بحال المجتمع والدولة الآن؟ وما أهمية التذكير هنا بالنزعة الحتمية الخلدونية والنزعة الإصلاحية الرشدية؟ وبعبارة قصيرة ما العلاقة بين أفق ابن خلدون وابن رشد والأفق المعاصر، أفق القرن الواحد والعشرين؟
أسئلة لابد من طرحها والوعي بما تطرحه من ضرورة مراعاة الفارق الزمني! وستكون هي مدخلنا إلى الكلام عن الوضع المعاصر.
أما أن يكون المجتمع المغربي المعاصر –بل وجميع المجتمعات تقريبا- يحمل في جوفه نوعا ما من “التركيب”، فهذا ما قد لا يحتاج إلى بيان. ومع ذلك لا بد من التأكيد على أن “المجتمع” هو اسم لأشياء جمعت أو اجتمعت. ليس المجتمع مجموعة أفراد وحسب، بل هو اجتماع مجموعات وفئات، منها ما يكتسي طابعا اقتصاديا كالطبقات بالمعنى الحديث للكلمة، ومنها ما يكتسي طابعا اجتماعيا طبيعيا كالقبائل وأهل الحضر وأهل القرى والمدر، ومنها ما له طابع ثقافي كالطوائف الدينية وغيرها، ومنها مؤسسات المجتمع المدني الحديث كالأحزاب والنقابات والجمعيات الخ. ولكل من هذه الفئات قسط من السلطة يمارسه أو من الجاه يستفيد منه. قد تكون السلطة -أو الجاه- ذات مصدر اقتصادي وقد تكون ذات مصدر ثقافي أو اجتماعي الخ.
و”التركيب” في المجتمع الحديث –كالمجتمعات الأوربية- يتكون من أشياء حديثة أساسا، الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد. و”التركيب” في المجتمع المختلط يضم أشياء من الماضي وأخرى من الحاضر. والمجتمع المغربي مجتمع مختلط، وهذا لا يحتاج إلى كلام، فقد درجنا على التمييز فيه بين القطاع العصري والقطاع التقليدي في كافة الميادين تقريبا، في الاقتصاد والتعليم والسكن والعمل والذهنية الخ.
وكل عنصر من عناصر “التركيب” يحمل معه نوعا خاصا من السلطة، منها ما يدخل في مجال “الفضيلة” أو في مجال الدين، ومنها ما يدخل في مجال القهر والقسر كالذي يمارسه بعض الآباء على أبنائهم، و بعض المعلمين على تلامذتهم، وبعض الأساتذة على طلابهم، أو تمارسه الشرطة والجند أحيانا؛ ومنها ما يدخل في مجال استغلال النفوذ بكافة أشكاله الخ.
وهذه الأشكال من “التركيب” تمارس حضورها وتأثيرها في المجموعات أيضا، حتى الحديثة منها. فليس هناك حزب ولا نقابة ولا جمعية لا يعاني من هذه الأنواع من “التركيب”، ومهما اتخذت الأحزاب من أسماء “واحدة” و”موحدة” فهي في واقع الأمر مركبة ولا بد. الحزب المغربي اليوم مجموعة من الأعمار الطبيعية والعقلية، ومجموعة من الانتماءات منها الطبيعية القبلية الفئوية ومنها “الإرادية” الاقتصادية والثقافية الخ. والحزب إذا لم يعكس في جميع هيئاته هذا “التركيب” لا يمثل المجتمع حقا، وإنما يمثل شريحة واحدة أو بضع شرائح، تعيش “التركيب” هي الأخرى بصورة من الصور! والحزب الناجح “حزب المستقبل” هو الذي يحقق في كيانه ما نعبر عنه بـ”الكتلة التاريخية” قبل أن تتحقق في المجتمع ككل، ومن خلال مجموع الأحزاب. والدولة في المغرب كالمجتمع سواء بسواء. هي أيضا مركبة، وسياستها مركبة. قد تميل إلى “الفضيلة” حينا وقد تنساق مع غير الفضيلة أحيانا، وهذا في جميع العصور.
وإذا نحن أردنا أن نفسر اختلاف رأي ابن رشد عن رأي ابن خلدون في مسألة الإصلاح فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار عاملين اثنين : النموذج العلمي الذي استوحاه كل منهما ثم طبيعة العصر الذي عاش فيه.
أما ابن رشد فقد فكر في “التركيب”، في سياسات الدول، مستوحيا نموذجا رياضيا هندسيا هو فكرة “الوسط”. هو يرى أن التركيب ليس مجرد جمع بين عناصر كيفما اتفق. بل التركيب عنده هو نوع من “الوسط” بين طرفين متناقضين. فحكومة الأخيار في طرف وحكومة الطغيان في الطرف المقابل، والدولة المركبة تقع بينهما، تماما كما هو الشأن في الألوان التي تقع بين الأسود والأبيض، فهي تتدرج من الأسود عبر ألوان لا حصر لها، تزداد فيها نسبة البياض إلى أن تصير إلى الأبيض “الكامل”. وهذا الفهم للتركيب بوصفه مجالا للحركة من طرف إلى طرف هو ما جعل ابن رشد يؤمن بإمكانية الإصلاح، وبالتالي يتجنب تشاؤم أفلاطون بل ويعترض عليه، كما سنرى بعد.
أما ابن خلدون فقد فهم “التركيب” في الدولة على غرار نموذج “كيميائي” هو “المزاج”. فمزاج الإنسان حسب النظرية الطبية القديمة هو حصيلة الأخلاط الأربعة (المرتان الصفراء والسوداء والبلغم والدم). والمزاج يسمى باسم الخلط الغالب. ومزاج الدولة عند ابن خلدون هو مزاج العصبية صاحبة الدولة، ويتغير مزاجها حسب الطور الذي تكون فيه. هو يرى أن “حالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار”. طور “الظفر بالبغية” أي التأسيس، ويكون “صاحب الدولة أسوة قومه(…) لا ينفرد دونهم بشيء”، وتكون سياسته بمشاركة أهل العصبية وهم العمود الفقري في جماعة “أهل الحل والعقد” آنذاك، كما تكون أقرب إلى الفضيلة والشريعة. يأتي بعد ذلك طور “الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك(…) واصطناع الرجال واتخاذ الموالي والصنائع”. ثم تنتقل الدولة إلى “طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك”. يأتي بعده “طور القنوع والمسالمة” وتقليد السابقين. ثم “طور الإسراف والتبذير”، وفيه “تحصل في الدولة طبيعة الهرم”(). فالتركيب هنا متداخل مع “أطوار الدولة” إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن لكل طور مزاجه الخاص. وواضح أن هذا النموذج لا يسمح بالتفكير في الإصلاح، فأطوار الدولة كأطوار عمر الإنسان لا تقبل الانعكاس، فالشباب لا يعود … يوما!
أما تأثير العصر ومعطياته في فهم “التركيب” في السياسة لدى مفكرينا العتيدين، ابن رشد وابن خلدون، فيمكن رصده كما يلي:
أما فيلسوف قرطبة فقد عاش في عصر الدولة الموحدية التي عرفت فترات من الازدهار خاصة على عهد عبد المومن، وابنه يوسف الأمير الفيلسوف صديق ابن رشد. وإذا كانت هذه الدولة قد شهدت انتكاسة على مستوى التضييق على الفلسفة والفلاسفة وبالتالي على حرية الفكر وازدهاره في أواخر عهد يعقوب المنصور الذي تزامن مع أواخر عمر ابن رشد، فلم يكن ذلك مما لا يمكن تداركه فعنصر “الفضيلة” –حسب تعبير ابن رشد- لم يكن قد توارى تماما، لم يكن قد اقترب من “اللون الأسود” بعد، ولذلك نجد فيلسوف قرطبة يقول بإمكانية الإصلاح.
وأما ابن خلدون الذي عاش في عصر كان كله تراجعات في الميدان السياسي كما في الميدان الثقافي والازدهار الحضاري، في المغرب والأندلس وفي المشرق كذلك، فلم يكن يرى من سبيل للإصلاح إلا إذا انقلبت الأمور رأسا على عقب، وحينئذ يكون التغيير ليس مجرد إصلاح بل إنشاء شيء جديد تماما. لقد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت “كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة”. والتغيير في مثل هذه الحال لا يكون بـ “الإصلاح” وإنما يكون بحدوث انقلاب كبير في الأوضاع تتبدل به الأحوال جملة: “وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”، حسب تعبير ابن خلدون نفسه().
هذا النوع من “الخلق الجديد والنشأة المستأنفة والعالم المحدث” كان مرتبطا في أفق ابن خلدون بسقوط ما يسميه بـ”الدولة العامة”، وقيام أخرى مثلها مكانها، كسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية مكانها، وذلك لا يكون بـ”الإصلاح” بل بالثورة العارمة، كالثورة العباسية، أو ثورة المرابطين أو الموحدين وهلم جرا.. ففي مثل هذه التغييرات الكبرى التي تأتي بعد ثورات شاملة عميقة يمكن حصول التجديد والإصلاح، أما في غير ذلك فكل ما يمكن أن يحصل هو أن تزيد الدولة عمرا إلى عمرها بالتحالف مع قوى جديدة، كما ذكرنا، ليأتي بعد ذلك الهرم المحتوم.
وفي جميع الأحوال تكون سياسة الدولة مركبة و”مجتمعة من أحكام شرعية، وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية” . قد يتغلب هذا العنصر في وقت وقد يهيمن عنصر آخر، ولكن هذه العناصر تبقى حاضرة بشكل أو بآخر كـ “المزاج للمتكون” كما شرحنا.
***
ما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الاستطراد في موضوع “التركيب” في الدولة والسياسة؟
هناك علاقة جدلية بين النظرية والواقع الذي تفسره: النظرية تشهد بالوجود للواقع الذي تفسره، والواقع يشهد للنظرية بالصحة، عندما تقدم عنه فهما مقبولا في مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري. وعندما تحتفظ نظرية من النظريات بشيء من الصحة عندما يقرأ بها واقع معين، في وقت يقع خارج وقتها، فذلك دليل على أن ذلك الواقع ما زال يحتفظ في جوفه بشيء ما من الواقع الذي منه انبثقت تلك النظرية أولا. وهكذا فإذا كانت الدولة المغربية المعاصرة تقبل أن تقرأ، كليا أو جزئيا، وفق نظرية ابن خلدون أو نظرية ابن رشد فذلك دليل على أن هاتين النظريتين ما زالتا تحتفظان بشيء ما من الصدق. وبالعكس: إذا كانت هاتان النظريتان تجدان صدى في تفكيرنا يضفي عليهما نوعا من الصدق، فذلك دليل على أن في الواقع المغربي المعاصر شيئا ما من “زمن” ابن خلدون وزمن ابن رشد.
(9) – من أجل تركيب جديد : الكتلة التاريخية.
لقد أسهبنا في شرح مصطلحات ابن رشد وابن خلدون وآراءهما في الدولة. والدولة التي فكرا فيها واستلهما معطياتها، قبل غيرها، هي الدولة التي عاشا في كنفها، دولة القرون الوسطى في المغرب. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : ما ذا بقي اليوم من هذه الدولة ؟
بوسعنا أن نجيب: إن أول ما يقدم نفسه جوابا عن هذا السؤال هو اسمها الذي عرفت به قديما وتعرف به اليوم: “المخزن“. والسؤال الآن: ماذا بقي في “المخزن” الجديد من “المخزن” القديم كما تحدث عنه كل من ابن رشد وابن خلدون. هل عانى هذا “المخزن” من قبل ، أو يعاني اليوم، من “الهرم” الذي جعل منه ابن خلدون مصيرا حتميا؟ هل مازال دولة “مركبة” من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب، كما يقول ابن رشد؟ وهل مازالت قوانينه “مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية”، كما يقول ابن خلدون؟ ثم ما نوع العلاقة القائمة فيه بين السلطة والمال ؟ هل ما زال مجالا لقانون ابن خلدون الذي يجعل التملق مصدرا للجاه والجاه مصدرا للمال؟
بوسعنا أن نجيب بالإيجاب وباختصار كما يلي:
– لقد تعرضت دولة المخزن للهرم المحتوم في أوائل هذا القرن مع فرض الحماية الفرنسية على المغرب.
– ثم حصل تجديدها بـ” إضافة عمر إلى عمرها”، حسب عبارة ابن خلدون، مع محمد الخامس الذي انفصل عن عملاء الاستعمار من المخزن القديم وتحالف مع الحركة الوطنية.
– فتحقق الاستقلال وتجددت الدولة وساد في تركيبها عنصر “الفضيلة” بتعبير ابن رشد، لأن محمد الخامس “صاحب الدولة –كان- أسوة قومه (الوطنيين) … لا ينفرد دونهم بشيء” حسب عبارة ابن خلدون.
– ثم عرفت هذه الدولة، خلال الأربعين سنة التي تولى فيها أمرها الحسن الثاني، نوعا من “التركيب”، شبيه بذلك الذي تحدث عنه ابن رشد، فعرفت فترات يطبعها “التغلب والاستبداد”، وأخرى أقرب إلى “الكرامة” أو “الحرية”، لينتهي بها الأمر إلى الشروع في تغليب “الفضيلة” على العناصر الأخرى، بإقرار ما عرف بـ “التناوب التوافقي” الذي جاء أشبه بذلك الذي بدأ على عهد والده محمد الخامس مجدد الدولة.
– أما الاغتناء بالدولة وبواسطتها حسب قانون “التملق مفيد للجاه” و”الجاه مفيد للمال”، فقد كان وما زال ظاهرة متفشية. وهي التي تقف وراء التفاوت الفاحش بين أقلية من الأغنياء وأكثرية كاثرة من الفقراء.
– واليوم، مع محمد السادس، ينتظر أن يتم الانتقال إلى التناوب الديموقراطي الحق، وبذلك يتم تجاوز دولة “المخزن” والانتقال إلى الدولة الديموقراطية.
***
نخلص من جميع ما تقدم إلى النتيجة التالية :
“الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب”، موضوع حديثنا، لن يكون له مضمونه التاريخي الحق إلا إذا كان يعني تدشين قطيعة نهائية مع “التركيب” الذي طبع دولة ابن رشد ودولة ابن خلدون ومع قانون “التملق مفيد للجاه، والجاه مفيد للمال” الذي شكل جوهر العلاقات فيها. وإذا كنا قد استحضرنا ابن رشد وابن خلدون فلأن حاضرنا ما يزال يقع ضمن أفقهما، وغني عن البيان القول : إن طموحنا الديموقراطي سيكون متخلفا عن عصرنا إن لم نضعه خارج أفقهما. ومع أن أفق ابن رشد يختلف عن أفق ابن خلدون من حيث إنه كان يؤمن بإمكانية الإصلاح لكون الحكم في نظره من الأمور التي تنتمي إلى الإرادة البشرية وليس إلى جبرية “طبائع العمران”، كما كان يرى ابن خلدون، فإن “المدينة الديموقراطية” التي تعني دولة المؤسسات التي ينتخبها الشعب بوصفه مصدر السلطات كانت تقع خارج أفق تفكيرهما، خارج مجال المفكر فيه خلال القرون الوسطى. إن الفكر الإصلاحي القديم كان يتحرك داخل “التركيب” الذي شرحناه. أما اليوم فالمطلوب ليس القضاء على التركيب بالمرة، فهذا غير ممكن إذ ما من مجتمع إلا وهو مركب كما سبق أن شرحنا، وإنما المطلوب هو صب التركيب في مؤسسات يحكمها التعبير الديموقراطي الحر، وهو ما كان غائبا عن أفق ابن رشد وابن خلدون. (فالانتخابات كما تجري اليوم لم يكن من الممكن التفكير فيها في زمانهما بسبب عوائق موضوعية وفي مقدمتها مشكل المواصلات).
وإذن، فإذا كان ابن رشد وابن خلدون ضروريين لنا في التماس الجواب لسؤالنا الأول :”من أين؟”، فإن الجواب عن سؤالنا الثاني “إلى أين؟” ” يتطلب مغادرة أفقهما والارتباط بأفق الحداثة وإنجازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية.
في غياب أفق الحداثة لم يكن أمام ابن رشد من أفق غير التحرك عكسا مع سلسة أفلاطون: من مدينة الطغيان والاستبداد إلى المدينة الجماعية التي يهيمن فيها وضع اللادولة، إلى مدينة العسكر، إلى المدينة الأرستقراطية أو “حكومة الأخيار”، التي كان يرى فيها على غرار أفلاطون، النموذج الأمثل الممكن تحقيقه واقعيا. أما ابن خلدون، الذي هيمن على نظرته طابع العبث والفوضى والتدهور الذي ساد زمانه، والذي فكر في التاريخ بعيدا عن أية فرضية في الإصلاح، فما كان له أن يرى من مصير للدولة المركبة غير الهرم المحتوم، على الرغم من كون هذه الدولة قد تضيف إلى عمرها عمرا آخر باعتمادها قوى جديدة أخرى لم يفسدها الترف و”المجد”حسب تعبيره.
وإذا كان من الجائز عقلا أن يبقى “الهرم الخلدوني” اللاعقلاني شبحا يهدد المغرب في المستقبل القريب أو البعيد، فإن ما هو أكثر منه جوازا في حكم العقل المستنير هو الطموح إلى تحقيق “المشروع الرشدي”، لا كما فكر فيه صاحبه وحسب، بل كما يجب أن يكون في عصرنا نحن بوصفه مدينة الديموقراطية الحق. وبذلك يمكن الإفلات من الدورة الخلدونية إلى الأبد.
إن العالم اليوم ينظر إلى المغرب بوصفه البلد المرشح، أكثر من غيره، ليكون بلد الديموقراطية الحقيقية في العالم الثالث. وليس للمغرب من سبيل غير المضي بأسرع ما يمكن وأعمق ما يمكن للإعداد للانتقال من “التناوب التوافقي”، المؤقت بطبعه وطبيعته، إلى التناوب الديموقراطي بكل شروطه وآفاقه. لقد تميز المغرب من قبل بكون “المؤقت” فيه كان يتحول إلى ما يشبه “المؤقت الدائم”، وأعتقد أن ذلك لم يعد اليوم ممكنا، فاستمرار المؤقت يعني استمرار نوع من “التركيب” الذي قد تعود الدائرة فيه إلى قانون “الجاه مفيد للمال” الذي يعني أيضا الاستظلال بمظلات، وهو ما يقع على طرفي نقيض مع دولة الحق والقانون التي هي شعار المرحلة. الشعار الذي يرفعه الجميع في المغرب اليوم.
والحق أن التغييرات المتلاحقة التي عرفها المغرب منذ أن عين جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني حكومة التناوب، والتي تتوالى اليوم على عهد جلالة محمد السادس، تبعث على الأمل في أن تتحول “قاعة الانتظار” المغربية قريبا إلى قاعة مرور وجواز إلى ما هو منتظر، إلى التناوب الديموقراطي الذي ينظمه دستور يضمن فعلا استقلال القضاء، وينقل مزيدا من الصلاحيات إلى كل من الحكومة والبرلمان، ويدقق في الاختصاصات ويحدد المسئوليات، وبالتالي يضع حدا لـ “التركيب” الذي جعل الدولة الحديثة في المغرب قابلة للكلام فيها بواسطة رجال ماضيها. ومن هنا يكون أحد مضامين “الانتقال إلى الديموقراطية” في المغرب هو وضع حد لإمكانية الكلام عنه بواسطة ماضيه.
المغرب الآن يمد رجله ليخطو نحو الجديد، ومعلوم أن الذي يمد رجله ليخطو ليس له إلا أن يتبعها بالثانية ويتابع الخطى. إن الخطو في هذا المجال لا يقبل الانعكاس. ليس هناك وراء: فإما إلى أمام وإما السقوط.
بقلم : د. محمد عابد الجابري
عن موقع فكر ونقد