وبعد فقد انطلقنا في هذه الهوامش من ملاحظة أن نداءات ظهرت في الساحة الفكرية العربية تنادي بإبرام عقد اجتماعي “عربي” جديد! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي : إلى أي مدى يمكن أن يتطابق أو لا يتطابق هذا “العقد الاجتماعي العربي” المأمول، مع العقد الاجتماعي الذي روينا قصته ؟
ينطلق الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704)، في تقرير نظريته السياسية، من فرضيتي “حالة الطبيعة” و”العقد الاجتماعي” ولكن من منظور يختلف عن منظور هوبز اختلافا عبر عنه لوك بصراحة برفضه للمسلك الذي سلكه سلفه وللغاية التي قصدها. لقد انطلق هوبز كما رأينا من اعتبار “حالة الطبيعة” بكونها حالة “حرب الكل ضد الكل” وسخر فكرة “العقد الاجتماعي” للتشريع الحكم المطلق! ولوك يرفض هذا وذاك: فهو يقرر أن “حالة الطبيعة” ليست حالة عدوان وحرب وفوضى بل هي حالة منظمة يحكمها العقل. ذلك أن الاجتماع الإنساني ليس كالاجتماع الحيواني: هذا تحكمه الغريزة وذاك يحكمه العقل. والعقل كما يمنع الناس من الاقتتال خوف الفناء يمنعهم كذلك عن التنازل عن جميع حقوقهم فهم يميزون بين ما يمكن التنازل عنه وما لا يمكن، وإلا فقدت “حالة الطبيعة” جوهرها ومضمونها، يعني الحرية والمساواة. إن حالة الطبيعة هي حالة حرية ومساواة ينظمها العقل. العقل يحمل الناس على أن يحترم كل منهم حياة الآخرين وصحتهم وأموالهم وعلى أن يقفوا بجانب المظلوم ويدفعوا الأذى عمن يتعرض له وعلى أن يعاقبوا المسيء بما يناسب إساءته دون عسف ولا شطط، إلى غير ذلك مما يقتضيه حق الحرية وحق المساواة، وهما حقان طبيعيان كما قلنا.
هناك حق آخر يلح عليه لوك إلحاحا ويعتبره من الحقوق الطبيعية وهو حق “التملك” بمعناه الواسع: أن يملك الإنسان حياته وحريته والأشياء التي في الطبيعة. وليس المقصود هو الملكية في ذاتها بل المقصود الحق فيها: الحق في خدمة الأرض والاستفادة من خيراتها، والحق في ملكية الأرض نفسها. وبما أن ما يبرر الملكية ويشكل منشأها المشروع هو عمل الإنسان فلكل فرد أن يملك من الأرض مقدار ما يستطيع خدمته ويكفيه حاجته للحفاظ على وجوده ولا يتعدى ما هو ضروري له. والتزام هذه الحدود هو ما يقي حالة الطبيعة من شرور المنازعات والمشاجرات. إن حق الجميع في الحرية والمساواة يقضيان أن لا يطمع أحد في أكثر مما يحتاج.
ومع ذلك فحالة الطبيعة لا يمكن أن تخلو من مشاكل تأتي نتيجة احتكاك المصالح وتناقضها، ولكن العقل كفيل بتجاوزها. ومن هنا “العقد الاجتماعي” في ثوب جديد: من أجل تجنب ما قد ينشأ عن احتكاك وصراع بسبب اختلاف المصالح عمد الناس إلى تنظيم شؤونهم فانتقلوا بذلك إلى حالة “المجتمع”، وهكذا سنُّوا قوانين ترضي الجميع وكلفوا بتطبيقها قضاة اختارهم الجميع، وأقاموا إلى جانبهم سلطة قادرة على ضمان تنفيذ الأحكام وتطبيقها. وهكذا تتميز حالة المجتمع ليس فقط بكونها منظمة بقوانين من صنع البشر، بل تتميز أيضا بالفصل بين السلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية. وهذا شيء جديد تماما وسيركز عليه مانتيسكيو فيما بعد.
المهم عندنا الآن، أن نسجل أن الانتقال من حال الطبيعة إلى حال المجتمع تم من خلال عقد اجتماعي وافق عليه الجميع. “ذلك أنه بما أن الناس في حال الطبيعة أحرار ومتساوون ومستقلون فليس ثمة من سبيل إلى إخراجهم منها وإخضاعهم لسلطة سياسية ما بدون رضاهم” . لقد رغبوا جميعا في الاتحاد وتكوين مجتمع من أجل حفظ بقائهم وضمان أمنهم، وحماية أنفسهم ممن يريد السوء بهم.
ذلك هو منشأ الحكومة الشرعية: اتفاق الجميع ورضاهم، وهو شي جديد حقا، وهو ما يميز حالة المجتمع عن حالة الطبيعة. نعم يمكن دائما تأسيس دولة على القوة والغلبة وعلى أنقاض دولة أخرى، مثلما يمكن هدم منزل وبناء آخر مكانه، ولكن ذلك لن يكون أبدا حكما جديدا لأنه : “بدون موافقة الشعب لا يمكن أبدا بناء أي شكل جديد من الحكم”.
ويرد لوك على هوبز فيقرر أن الحكومة المطلقة لا يمكن أن تكون شرعية، إذ كيف يمكن أن يقبل الناس الخضوع لسلطة شخص، هو وحده لا يخضع لأية سلطة!؟ إن ذلك يعني أنهم جميعا يتحولون إلى “حال المجتمع” ما عدا هذا الشخص، فهو وحده يبقى في “حال الطبيعة” مالكا لكل شيء متصرفا في كل شيء؟!
وكما يرجع منشأ الحكم إلى اختيار الشعب ورضاه يرجع إليه أيضا النظر فيما إذا كان الحاكم يقوم بالمهمة المنوطة به أم أنه يتقاعس أو يتجاوز ويعسف. فإذا طغى الحاكم فللشعب كامل الحق في مقاومة طغيانه، لأن الشعب هو الذي نصَّبه. ولا معنى للقول –في نظر لوك- إن إعطاء الشعب الحق في المقاومة والثورة يؤدي إلى الفوضى! كلا، إن الشعب عاقل، وكيف لا يكون عاقلا وهو مكون من أفراد يتمتعون بالعقل. أما الجماهير فهي ليست مجبولة على الفوضى كما يدعي البعض، بل بالعكس هي تفضل في معظم الأحوال الشكوى على المقاومة لرفع الظلم عنها. ولا يلجأ الشعب إلى المقاومة إلا عندما يقتنع بأن الحكام والقضاة ماضون في غيهم لا يبالون بشكواه! في هذه الحالة يستنتج العقل أن لا سبيل لرفع ظلم الحكام إلا المقاومة. “وليس لأحد أن يلوم الشعوب على عواطفها التي يمليها عليها كونها مخلوقات عاقلة”.
يبقى أن نقول كملة عن موقف لوك من الكنيسة. وفي هذا الصدد يقرر أن المجتمع المدني مجتمع مستقل عن الكنيسة فهو لم ينشأ في كنفها ولا في ارتباط مع مصالحها. الدولة والكنيسة كيانان منفصلان وبالتالي فليس على الدولة أن تعمل بتشريعات الكنيسة ولا بما تقرره في شأن من الشؤون. فالكنيسة مجالها ما يخص الآخرة بينما مجال عمل الدولة هو هذه الحياة التي نعيشها على الأرض. نعم على الدولة أن تضمن حرية العبادة للجميع ولا تتدخل في الشؤون الدينية التي هي من اختصاص الكنيسة. بعبارة قصيرة: نحن الآن مع لوك مع العلمانية الصريحة.
***
إذا كان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك قد انطلق في نظريته السياسية من نزعته الحسية التجريبية التي تحكم فلسفته ككل فإن جان جاك روسو (1712-1778)، ابن جنيف الذي كتب بالفرنسية، ينطلق من طريقة في التفكير هي أقرب إلى “منهج العالم الفيزيائي الذي يدرس أصل تكون العالم”: المنهج الفرضي الاستنتاجي. يتجلى هذا في كتابين شهيرين من كتبه: أحدهما بعنوان” مقال في أصل وأسس التفاوت بين الناس” الذي صدر عام 1750، والآخر بعنوان “في العقد الاجتماعي” الصادر سنة 1762.
يتبنى روسو نظرية هوبز الذي كرس نظريته السياسية من أجل مسألة “الأمن” من خلال التنظير للحكم المطلق، كما يتبنى في الوقت نفسه قضية لوك الذي جعل من “الحرية” مدار فكره السياسي، ولكنه يرفض الطريقة التي سلكها كل منهما في الدفاع عن قضيته. ومن هنا جاءت وجهة نظره في “حالة الطبيعة” و”العقد الاجتماعي” مختلفة بل مناقضة لوجهة نظر الفيلسوفين الإنجليزيين.
حالة الطبيعة عند روسو هي حال ذلك الإنسان المتوحد الذي يعيش بمفرده في الغابة: لا يعرف أباه ولا زوجته ولا أبناءه، ولا يتكلم لغة ولا يحترف مهنة ولا يتقن صناعة، ولا يرتبط بقيم تقود سلوكه فلا يعرف معنى الفضيلة ولا معنى الرذيلة الخ. هذا الإنسان كائن سعيد: حاجاته ومتطلبات حياته وطموحاته قليلة ومحدودة وبالتالي فمشاكله ومتاعبه قليلة كذلك ومحدودة. شيء واحد يمكن أن يعكر صفو هذه الحياة البسيطة الهادئة: إنه الكوارث الطبيعية وتقلبات الطقس وما ينجم عن ذلك من برد وجفاف الخ، مما يضطر معه هذا الإنسان المتوحد السعيد إلى التعاون مع غيره من أبناء جنسه للتغلب على آثارها.
من هنا نشأ الاجتماع، ومع الاجتماع نشأت اللغة وظهرت أنماط من السلوك لم تكن من قبل، فظهر الحسد وظهرت الخصومات وكثرت الحاجيات وتنوعت. وترسخت الملكية وأصبحت تحميها القوانين وتكرس التفاوت بين الناس. وإذن فالاجتماع هو الذي أفسد صفاء حالة الطبيعة.
كيف يمكن إصلاح ما أفسده الاجتماع الذي فرضته الطبيعة نفسها؟
الوسيلة إلى ذلك: إقامة الحكم الصالح والقيام بالتربية الصالحة. يعالج كتاب “العقد الاجتماعي” مسألة الحكومة الصالحة، أما مسألة التربية فيعالجها كتاب “إميل”. ويهمنا هنا الكتاب الأول.
كيف نقيم الحكم الصالح، إذن ؟
لإقامة الحكم الصالح، في نظر روسو، يجب التزام ما يلي:
يجب أن لا نسلم بشرعية أية سلطة أو أية امتيازات لا يؤسسها إلا كونها أقامتها الطبيعة أو فرضها قانون الأقوى. إن السلطة الشرعية الوحيدة التي يجب أن نعترف بها هي تلك التي تقوم على أساس عقد يبرمه بينهم الأطراف المتعاقدة. إن الأمر يتعلق بعقد اتحاد فقط ولا يلزم عنه أية طاعة لأي كان. ذلك لأن الشعب المتعاقد هو وحده مصدر السلطة وهو وحده الذي يمارسها. الشعب وحده صاحب السيادة. وهذا الحق الذي للشعب، دون غيره، حق لا يقبل الخلع ولا التجزئة، لا يمكن التنازل عنه لا ككل ولا كأجزاء، هو حق يجسم السيادة.
ذلك هو العقد الاجتماعي عند روسو، وذلك هو البند الوحيد الذي يتألف منه: كل فرد تنازل للمجموع الذي تتشكل منه الإرادة العامة. وإذ يعطي كل واحد نفسه للجميع فهو لا يعطي نفسه لأحد بعينه. الكل مرتبط وفي حالة مساواة تامة، فلا أحد رعية لأحد. وبما أن الشعب لا يريد إلا المصلحة العامة فبالضرورة يكون التنازل للمصلحة العامة: للقانون. والإرادة العامة ليست مجموعا حسابيا بسيطا لإرادات الأفراد الخاصة، بل هي الإرادة التي تريد المصلحة العامة وليس المصلحة الخاصة. إن الشعب بوصفه على هيأة كيان واحد لا يمكن أن تكون له إرادة أخرى غير الإرادة العامة. الإرادة العامة هي التي تؤسس الدولة. وليست الدولة إلا التعبير المجسم عن هذه الإرادة.
هكذا يتحول الإنسان من حال الطبيعة إلى حال المدينة فيصبح الإنسان الطبيعي إنسانا قد تغيرت طبيعته فأصبح مواطنا: لقد حلت العدالة في سلوكه محل الغريزة فأصبح كائنا أخلاقيا بعد أن كان كائنا طبيعيا.
***
وبعد، فقد اختلف المؤرخون وما زالوا مختلفين حول الدور الذي يجب أن يعزى لروسو في قيام الثورة الفرنسية. هذا موضوع لا يهمنا هنا. ما يهمنا –ولا نعتقد أن أحدا يخالفنا الرأي فيه- هو أن رحلة فكرة “العقد الاجتماعي” كما عرضناها قد بلغت أوجها مع روسو، وأن هذا الفكرة قد تحولت مع الثورة الفرنسية من فرضية أو نظرية إلى نص دستوري عرف باسم “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، وهو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية في جلساتها أيام 20، 21، 23، 24، و26 أغسطس 1789.
هذا الإعلان معروف باسمه: “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”. ليس حقوق الإنسان كإنسان وحسب بل الإنسان كـ”مواطن”. وباللغة الفرنسية citoyen, وبالإنجليزية citizen والكلمة نسبة إلى “المدينة” , city cité وبالتخصيص: المدينة/الدولة. فحقوق المواطن هي حقوق الحياة في المدينة/الدولة، الحقوق الديمقراطية التي هي مضمون العقد الاجتماعي. من هنا جاء هذا الإعلان ليجسد فكرة العقد الاجتماعي في أقوى مضامينه. والحق أن مفهوم “حقوق الإنسان” ومفهوم “العقد الاجتماعي” مفهومان متكاملان، الأول يشرع للإنسان الحديث كفرد، والثاني يشرع للحداثة كمجتمع ودولة، فهما من الناحية العملية التطبيقية لا ينفصلان. ولذلك كان “إعلان” الجمعية التأسيسية الفرنسية عقدا اجتماعيا بقدر ما هو تقرير لحقوق الإنسان.
جاء في ديباجة هذا الإعلان التاريخي ما يلي:
“إن ممثلي الشعب الفرنسي، الملتئمين في جمعية وطنية، إذ يؤكدون أن الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء المجتمع وفساد الحكومات، يعلنون أنه قد قر عزمهم على أن يعرضوا في إعلان للعموم حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للخلع، وذلك لكي يبقى هذا الإعلان حاضرا باستمرار في جميع أعضاء الجسم الاجتماعي، يذكر الناس على الدوام بحقوقهم وواجباتهم، [من جهة]، ولكي تكون أعمال السلطات التشريعية وتصرفات السلطات التنفيذية قابلة لأن توزن في كل لحظة بالهدف من كل مؤسسة سياسية، فتحظى باحترام أكبر، [من جهة ثانية]، ولكي تكون احتجاجات المواطنين، التي ستنبني من الآن فصاعدا على مبادئ بسيطة وغير قابلة للاعتراض عليها، احتجاجات تدور دوما حول العمل بالدستور ومن أجل سعادة الجميع، [من جهة ثالثة]. وبناء عليه فإن الجمعية الوطنية تقرر وتعلن، تحت أنظار الكائن الأسمى وتحت رعايته، حقوق الإنسان والمواطن الآتي ذكرها”. يتلو ذلك مواد هذا الإعلان، ومنها:
“المادة الأولى: يولد الناس ويبقون أحرارا متساويين في الحقوق، أما التمايز الاجتماعي فلا يمكن أن يبنى إلا على المنفعة العامة.
المادة الثانية: إن الهدف من كل اجتماع سياسي هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية، غير القابلة للخلع. وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الجور.
المادة الثالثة: إن السيادة أيا كانت إنما تجد مبدأها بصورة أساسية في الأمة، ولا يحق لأية هيأة ولا لأي شخص أن يمارس السلطة ما لم تكن صادرة عن الأمة صدورا صريحا.
المادة الرابعة: إن الحرية تعني القدرة على عمل أي شيء لا يضر بالآخرين. وهكذا فممارسة الحقوق الطبيعية الخاصة بكل شخص لا يحدها إلا الحدود التي تضمن للأعضاء الآخرين في المجتمع التمتع بهذه الحقوق نفسها، ولا شيء يرسم هذه الحدود غير القانون.
المادة الخامسة: لا يجوز للقانون أن يمنع من الأعمال إلا تلك التي تنطوي على ضرر بالمجتمع. وكل ما لم يمنعه القانون لا يجوز الحيلولة دونه، ولا يجوز حمل أي شخص على فعل ما يمنعه القانون.
المادة السادسة: القانون هو التعبير عن الإرادة العامة، وجميع المواطنين لهم الحق في المساهمة في وضع القانون إما بأنفسهم وإما بواسطة ممثليهم، ويجب أن يكون القانون واحدا بالنسبة للجميع سواء في حالة حماية الأشخاص أو في حالة العقاب. وجميع المواطنين، وهم متساوون أمام القانون، هم أيضا مرشحون لجميع المراتب والمناصب والأعمال العمومية حسب مقدرتهم وبدون أي تمييز آخر إلا ما يرجع إلى خصالهم ومواهبهم”.
الخ الخ.
هل نحتاج إلى خاتمة؟!
لقد ختم هذا الإعلان تاريخ مفهوم العقد الاجتماعي ومفهوم حقوق الإنسان. وكل ما جاء بعده بصددهما يدخل في مضمون هذا الإعلان. لنقتصر إذن على التذكير بالمراحل الأساسية في تاريخ مفهوم “العقد الاجتماعي” كما عرضناها في هذه الهوامش.
-بدأ تاريخ هذه الفكرة حينما وظفتها الكنيسة في صراعها مع الدولة فأعطت لنفسها الحق في إعفاء الشعب من طاعة الحاكم الطاغي بدعوى أنه بطغيانه يكون قد نكث وتنكر للعقد الذي يجمع الناس بالرب. والكنيسة، صاحبة السلطة الروحية، هي الساهرة على هذا العقد (المذهب الغريغوري).
ثم تطور الأمر فوظفت الفكرة في عكس ذلك، وظفت لفائدة حكم مطلق تكون الكنيسة تحت سلطته (هوبز).
ثم وظفت في عقد مزدوج يؤاخي بين القانون الطبيعي والتشريع الإلهي ويجعل من القانون الوضعي امتدادا لهما، وبذلك تم تجاوز ثنائية الروحي والزمني، وبدأ تقليم أظافر الخصمين معا: الكنيسة والحكم المطلق (بوفيندورف).
والخطوة التالية ستكون المناداة الصريحة بفصل الكنيسة والدولة والتنظير للحكم الليبرالي والدين العقلي (لوك).
وأخيرا يتحول العقد الاجتماعي إلى إرادة عامة، إرادة الشعب التي لا تنخلع: فلا تنازل ولا تعاقد مع حاكم ما، بل العقد هو عقد بين أفراد الشعب بعضهم مع بعض لا غير، فالسلطة للشعب وليست الدولة إلا التعبير المجسد عن هذه الإرادة. أما الكنيسة فيجب أن تترك مكانها للدين المدني، الدين الذي يرتبط فيه الناس كأفراد بالإله مباشرة بدون وساطة ولا تعقيدات. والنتيجة إقصاء الدولة كممثل للسلطة الزمنية وإقصاء للكنيسة كممثلة للسلطة الروحية وإحلال المجتمع المدني مكانهما: مجتمع دينه دين مدني ودولته الإرادة العامة.
ترى لو لم تكن الكنيسة طرفا في هذا المسلسل هل كان سيعرف نفس المسار والمحطات؟
نعم لا معنى لـ”لو” في التاريخ… ولكن تبقى مع ذلك في نفس الإنسان بقية من “لو” ، ليس في مجال النحو والإعراب وحسب، بل في كل مجال! فالإنسان حيوان يفترض، ولا يميزه تماما عن الحيوان غير الافتراض. فالعقل في جوهره قوة للافتراض، فلنترك الباب مفتوحا إذن!
وبعد فقد انطلقنا في هذه الهوامش من ملاحظة أن نداءات ظهرت في الساحة الفكرية العربية تنادي بإبرام عقد اجتماعي “عربي” جديد! والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي : إلى أي مدى يمكن أن يتطابق أو لا يتطابق هذا “العقد الاجتماعي العربي” المأمول، مع العقد الاجتماعي الذي روينا قصته؟