وإذن، فلقد كان الكلام في الإمامة، في الأصل، جزءا من الصراع السياسي بين الشيعة والسنة، وكان الهدف منه إضفاء الشرعية –أو نزعها-على تجارب في الحكم ماضية. ولما أخذ هذا الماضي في الابتعاد عن الحاضر صار الكلام في “الخلافة” عند أهل السنة، وفي “الإمامة” عند الشيعة”، يميل أكثر فأكثر نحو تبرير الواقع الذي يفرضه ميزان القوى في الصراع من أجل. كان الصراع سياسيا محضا ولم يكن الدين فيه طرفا، لا على مستوى النصوص ولا على مستوى ما قد يكون هناك من تناقض بين من يتحدثون باسم النصوص ومن يمارسون الحكم. أما في التجربة الحضارية الأوربية فالصراع الذي منه خرجت فكرة العقد الاجتماعي وفيه تطورت كان صراعا من نوع آخر، صراعا بين قطبي هذه التجربة في العصور الوسطى: الدولة والكنيسة. ومن هنا يمكن القول، كجواب عن السؤال الذي طرحناه آنفا، إذا كان لا بد من جواب: إن مبدأ “عقد البيعة” في الإسلام لم يتطور إلى “عقد اجتماعي” بالمعنى الأوربي للكلمة لأن الإسلام لم يعرف الكنيسة كهيأة دينية اجتماعية لها السلطة الروحية وتنافس الدولة على السلطة الزمنية.
ترددت في السنوات الأخيرة في الساحة الفكرية العربية نداءات تدعو إلى صياغة وإبرام “عقد اجتماعي عربي جديد”. ونحن هنا لا نرمي من وراء هذه “الهوامش” إلى الدخول في مناقشة مضامين هذه الدعوات! كل ما نهدف إليه هو إلقاء بعض الضوء على هذا المفهوم -“العقد الاجتماعي”- كما طرح ووظف في تاريخ الفكر الغربي مع الإطلالة على الكيفية أو الكيفيات التي طرح بها هذا المفهوم نفسه، أو ما يوازنه أو يرتبط به نوعا من الارتباط، في الحضارة العربية الإسلامية.
ولكي نقترب من صلب الموضوع منذ البداية نرى من المفيد التذكير بأن مفهوم “العقد الاجتماعي” هو فرضية –قد يكون لها أساس ما في الواقع البشري أو لا يكون- كان الغرض منها تأسيس السلطة السياسية على رضى المحكومين، وبالتالي بيان كيف نشأت الدولة وكيف يمكن تأسيس الديمقراطية، كما سنرى لاحقا.
كانت هناك نظرية شائعة سادت في العصور القديمة والوسطى تقول إن ظهور الدولة كان أمرا “طبيعيا” اقتضاه كون الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده ولا أن يقوم بجميع حاجاته، وبالتالي لابد له من التعاون مع غيره. وبتنظيم هذا التعاون تطور الأمر إلى ما نسميه الدولة: إما انطلاقا من الأسرة التي تطورت فأصبحت قبيلة تحالفت مع غيرها من القبائل والجماعات فأسست دولتها، كما كان شأن الأسر الحكمة خلال القرون الوسطى، أو ابتداء من بروز شخصية أو بطل في ظروف معينة مكنته من تولي السلطة وتنظيم التعاون الخ.
يمكن وصف هذه النظرية التي سادت في العصور القديمة والوسطى، في العالم الإسلامي كما في العالم المسيحي، بكونها نظرية محافظة: فهي إذ “تفسر” ظاهرة نشوء الدولة لا تفتح أية آفاق لتغيير الوضع القائم، بل تبرره وتجعل منه واقعا اقتضته “طبيعة” الأمور.
أما نظرية “العقد الاجتماعي” فهي بالعكس من ذلك نظرية ثورية، بمعنى أنها تفسح المجال للتغيير. فمن جهة تقوم هذه النظرية على فرضية “حالة الطبيعة”، التي شرحناها قبل، ومؤداها أن البشر كانوا في مبتدأ أمرهم أحرارا لهم كافة الحقوق، لكل منهم الحق في كل شيء. ولكن، بما أن سعي كل واحد منهم إلى التمتع بجميع الحقوق كان لابد أن يؤدي إلى تنازع وتدافع واقتتال، فقد اهتدوا بعقولهم إلى طريقة لتنظيم هذه الحقوق بصورة تضمن الأمن والعدل، أعني: إبرام “عقد اجتماعي” يتنازلون بموجبه عن حقوقهم بهدف تنظيمها وحفظها واستردادها بصورة تمنع التنازع والتدافع والصراع.
واضح أن فكرة العقد الاجتماعي بهذا المعنى تطرح مسألة الحكم طرحا أعم وأعمق وعلى مستويين: أصل الاجتماع وأصل الدولة، وهما مستويان من التعاقد مختلفان:
يتعلق الأمر في المستوى الأول بتنازل الأفراد، للمجموعة التي تتشكل منهم، عن الحقوق الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها في “الحالة الطبيعية”، في مقابل حقوق مدنية تضمنها لهم المجموعة/الدولة. أما على المستوى الثاني فالأمر يتعلق أساسا بتفسير شكل الحكومة: فالأفراد يتنازلون هنا لا للمجموعة، بل لشخص واحد يقوم بمهام الرئاسة والحكم بما في ذلك الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعة.
وما دام الأمر يتعلق بفرضيات فغني عن البيان القول إنه من الممكن الجمع بين المستويين في نظرية واحدة تفسر في آن واحد أصل الاجتماع والدولة ومنشأ الحكومة وشكلها. كما أنه من الممكن تفسير الحكومة وشكلها داخل النظرية الأولى وحدها. وقد شهد الفكر الأوربي هذه الأنماط جميعا، كما سنرى.
***
أما الفكر العربي الإسلامي فهو لم يعرف إلا النمط الثاني، أعني الذي يفسر منشأ الحكومة وشكلها وهو ما يسمى عندنا بـ “عقد البيعة”. فالعقد السياسي الذي دار الكلام حوله في التراث العربي الإسلامي هو “عقد الإمامة” أو “البيعة”، أما “العقد الاجتماعي” كنظرية تفسر أصل الاجتماع والدولة معا فشيء ظل غائبا عن مجال المفكَّر فيه لدى الذين خاضوا في مسألة “الإمامة” و “الخلافة”.
نعم هناك في العهد النبوي أنواع من “العقد” أبرمها الرسول (ص)، بعضها ينظم الاجتماع وبعضها ينظم الحكم، وبعضها يجمع بين الاثنين: من ذلك نظام “المؤاخاة” الذي سنه (ص) عند مقدمه إلى المدينة مهاجرا إليها هو وصحبه من مكة والذي آخى فيه بين المهاجرين بعضهم مع بعض وبينهم وبين الأنصار مؤاخاة “على الحق والمساواة”، وهذا “عقد اجتماع”. أما العقد المعروف بـ “الصحيفة” فهو يجمع بين الاثنين: فقد كتب النبي (ص)، عند وصوله إلى المدينة مهاجرا، كتابا “بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة”. كما “وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم”. لقد نص هذا الكتاب أو العقد على أن كل فئة من فئات المسلمين والمؤمنين من المهاجرين والأنصار من أهل يثرب تواصل العمل بالعرف الذي كانت تعمل به قبل الإسلام في مجال أخذ الديات وإعطائها، مع التزام المعاملة الحسنة للأسرى والعمل بالعدل في افتدائهم. كما ينص على التضامن والتكافل بين المؤمنين بعضهم مع بعض الخ. هذا من جهة ومن جهة أخرى ينص هذا العقد على أن “اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (=يتحملون نصيبهم من نفقات الحرب التي يشاركون فيها مع المؤمنين) وأنهم : “أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”. كما ينص هذا العقد على تحريم القتل في يثرب والدفاع المشترك عنها، وأن المرجع في الفصل في الخلاف هو محمد (ص) سواء كان الخلاف بين المؤمنين والمسلمين بعضهم مع بعض أو بينهم وبين اليهود. وتختم “الصحيفة” بالتأكيد على أن العلاقات في يثرب يجب أن تبنى على البر وحسن المعاملة والحرص على الأمن (انظر التفاصيل في كتابنا: العقل السياسي العربي. ص 92 وما بعدها).
نحن هنا إذن أمام عقد اجتماعي مزدوج ينظم الاجتماع وفي نفس الوقت يعين رئيس الجماعة. وما يلفت النظر في هذا العقد –من منظور اهتماماتنا الراهنة- هو تأكيده على الحق في الاختلاف وإقراره لهذا الحق بعبارات تتكرر مع كل فئة. الاعتراف بالاختلاف داخل المسلمين والمؤمنين: مهاجرين، أنصار، قبائل. واعتراف بالاختلاف داخل اليهود وقبائلهم، واحترام ما يؤسس هذا الاختلاف من أعراف، وفي الوقت نفسه الحفاظ على وحدة الجماعة التي أصبحت تشكل “أمة واحدة”. أما رئيس الجماعة –النبي (ص)- فهو لا يتدخل إلا عندما يحدث خلاف بين فئة وأخرى يتطلب مرجعية محايدة مستقلة.
لقد قيل الكثير عن هذه الصحيفة فلنكتف بما قلناه عنها أعلاه ولنضف شيئا واحدا فقط، وهو أن هذه المعاهدة التاريخية قد نظر إليها قديما على أنها عقد حربي: كانت معاهدة من أجل تنظيم الحرب ضد مشركي قريش الذين رفضوا الدعوة الإسلامية السلمية وحاربوها وأخرجوا أهلها من ديارهم. ومن هذا المنظور تبدو امتدادا مباشرا لبيعة العقبة الأولى والثانية، وهما عقدان أبرمهما النبي (ص) في مكة مع رجال من أهل يثرب (المدينة) قبل هجرته إليها، وكانا في الحقيقة والواقع تمهيدا وإعدادا للهجرة.
أما “بيعة العقبة الأولى” فقد تمت حين خرج الرسول (ص) في أحد مواسم الحج يعرض نفسه على القبائل فلقي جماعة من الخزرج من أهل المدينة فعرض عليهم الإسلام، فقبلوا ولكن بدون الالتزام بالقتال معه، ووعدوا أن يعرضوا الأمر على قومهم. فلما قدموا المدينة أخبروا قومهم بما جرى بينهم وبين الرسول ودعوهم إلى الإسلام فلقي استجابة هامة وأخذ ينتشر فيهم. فلما كان العام التالي جاء الموسم جماعة من الأنصار أكثر عددا فاجتمعوا بالنبي وطلبوا منه توضيح ما يريد منهم فقال: “تبايعوني على السمع والطاعة في الكسل والمنشط، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، ولكم الجنة” (تسمى هذه البيعة في بعض المراجع: بيعة النساء). ولما أبدى أحد أعضاء الوفد تخوفه من أن يعود الرسول إلى أهل مكة عندما ينتصر ويترك أهل المدينة أجابه (ص) قائلا: “بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم”. قال أحد الذين حضروا هذه البيعة “بايعنا رسول الله (ص) بيعة الحرب”. (تجعل بعض الروايات هذه البيعة بيعتين: بيعة النساء: العقبة الثانية. وبيعة الحرب: العقبة الثالثة).
هوامش حول موضوع العقد الاجتماعي
يمكن أن نستعيد هنا السؤال الذي كنا طرحناه في مقال سابق والذي تساءلنا فيه : لماذا لم تتطور فكرة “الفطرة”، التي توازن في الفكر الإسلامي “حالة الطبيعة” في الفكر الأوربي، إلى مفهوم “حقوق الإنسان” الخ ؟ يمكن أن نستعيد صيغة هذا السؤال فنقول: لماذا لم تتطور أنواع العقود التي عرفها المجتمع العربي الإسلامي (عقد الصحيفة وعقود الإمامة المختلفة المتنوعة) إلى نظرية في العقد الاجتماعي؟
أؤكد هنا أن الهدف من هذا السؤال ليس الحصول على جواب –فهذا النوع من الأسئلة غير علمي كما شرحت في المقال المشار إليه- بل الهدف منه التوضيح بواسطة المقارنة. وفي هذا الإطار، يمكن القول: إن ما عرفه المجتمع العربي الإسلامي من عقود –وكلها عقود بيعة- كان عبارة عن تنظيم عملي للسلطة، سواء كانت البيعة عقدا حقيقيا مبنيا على التشاور والاختيار كما كان الحال زمن الخلفاء الراشدين، أو كانت مجرد إجراء شكلي لإضفاء شرعية شكلية على أمر واقع، كما آل إليه الأمر منذ أن انقلبت الخلافة إلى ملك عضوض مع معاوية. وحتى إذا اقتصرنا على العقد الذي كان يستحق أن يكون النموذج والمثال في “المدينة الإسلامية”، أقصد “صحيفة النبي” التي تحدثنا عنها قبل، فإننا سنجد الناحية العملية فيه أقوى وأبلغ، مما يجعل من “العقد الاجتماعي” الذي قررته عقدا من أجل التطبيق الآني وليس من أجل التنظير للمستقبل.
ربما كان هذا الطابع العملي التطبيقي الذي رافق “الصحيفة” هو السبب الذي جعلها تبقى مجرد وثيقة من وثائق الماضي تورد بنصها أو يشار إليها في كتب التاريخ وحدها. وربما كان هذا أيضا من جملة العوامل التي تفسر، جزئيا على الأقل، عدم تطور “الكلام في الإمامة” في الإسلام إلى طرح فكرة “العقد الاجتماعي” على الشكل الذي طرحت به في أوربا.
على أن “الكلام في الإمامة” قد اتجه منذ بدايته إلى الكلام في سياسة الماضي: في خلافة الخلفاء الأربعة (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي)، خصوصا عندما أنكر “الرافضة” من الشيعة شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وحصروا الشرعية في علي بن أبي طالب وذريته؛ إضافة إلى أنهم جعلوا الإمامة بالوصية، لا بالاختيار، وبالتالي فلا مجال لفكرة العقد في هذا النوع من الرؤية. أما أهل السنة الذين جعلوا من الإمامة “عقدا” يتم بالاختيار فقد ربطوا هذا العقد وكيفيته، لا بما ينبغي أن يكون، بل بما كان زمن الخلفاء الأربعة، مستوحين ما يقرره الفقهاء في عقد البيع كإطار قانوني.
وإذن، فلقد كان الكلام في الإمامة، في الأصل، جزءا من الصراع السياسي بين الشيعة والسنة، وكان الهدف منه إضفاء الشرعية –أو نزعها-على تجارب في الحكم ماضية. ولما أخذ هذا الماضي في الابتعاد عن الحاضر صار الكلام في “الخلافة” عند أهل السنة، وفي “الإمامة” عند الشيعة”، يميل أكثر فأكثر نحو تبرير الواقع الذي يفرضه ميزان القوى في الصراع من أجل الحكم (راجع في هذا الصدد تكوين العقل العربي ص 107 وما بعدها ، والعقل السياسي العربي ص 355 وما بعدها). كان الصراع سياسيا محضا ولم يكن الدين فيه طرفا، لا على مستوى النصوص ولا على مستوى ما قد يكون هناك من تناقض بين من يتحدثون باسم النصوص ومن يمارسون الحكم.
أما في التجربة الحضارية الأوربية فالصراع الذي منه خرجت فكرة العقد الاجتماعي وفيه تطورت كان صراعا من نوع آخر، صراعا بين قطبي هذه التجربة في العصور الوسطى: الدولة والكنيسة. ومن هنا يمكن القول، كجواب عن السؤال الذي طرحناه آنفا، إذا كان لا بد من جواب: إن مبدأ “عقد البيعة” في الإسلام لم يتطور إلى “عقد اجتماعي” بالمعنى الأوربي للكلمة لأن الإسلام لم يعرف الكنيسة كهيأة دينية اجتماعية لها السلطة الروحية وتنافس الدولة على السلطة الزمنية.
وفي الفقرات التالية ما يوضح هذا الفكرة.
***
الأفكار تسافر، تنام وقد تستيقظ! والمهم في تاريخ الفكر ليس الفكرة في ذاتها بل الدور التي تقوم به في النظام الفكري العام في وقت معين. أما الفكرة التي تبقى يتيمة معزولة عاقرا فهي لا تدخل التاريخ. وهل يدخل التاريخ أحد بمفرده؟
يصدق هذا على جميع الأفكار التي ماتت ولا حصر لها. ولكن قد يحدث أيضا أن فكرة ما تدخل التاريخ بفعل ظروف معينة لتقوم بدور معين. فإذا أصبح لها تاريخ اندفع الناس إلى البحث لها عن “ما قبل تاريخـ”ـها. إن الفكر البشري، وبخاصة فكر المؤرخ للفكر، لا يقنع عادة بعقد ميلاد الفكرة التي تستقطب اهتمامه بل كثيرا ما تراه يبحث عن أصول للمولود الجديد. يبدو أنه ليس الماء هو وحده الذي “يخشى الفراغ” –وذلك هو ما يجعله يندفع إلى أعلى في المضخات حسب التفسير القديم- بل الفكر البشري نفسه “يخشى الفراغ” فلا يقبل ببداية لا شيء وراءها. الإنسان يبحث دوما عن متكأ، وفي هذا الإطار يندرج قول القائل: “أعطوني متكأ أضع عليه قدمي وسأحمل الكرة الأرضية على كتفي”! والبحث الفلسفي منذ كان وهو يبحث عن “هذا” المتكأ!
أبت هذه الخواطر إلا أن تستبد بالقلم ونحن نفكر في كتابة شيء عن تطور فكرة “العقد الاجتماعي” عبر التاريخ. ذلك لأن هذه الفكرة هي من تلك من الأفكار التي لم يكن لها تاريخ، حتى إذا ظهرت في القرن السابع عشر في أوربا، وفي إطار الصراع بين الكنيسة والدولة، وتبين فيما بعد لمؤرخي الفكر السياسي الأوربي أن هذه الفكرة قد قامت بدور هام في المسلسل الذي أدى إلى قيام الدولة الديموقراطية الأوربية الحديثة، حينذاك اتجهوا إلى البحث عن “جذورها”، عن “ما قبل تاريخـ”ـها.
لماذا البحث عن هذا الـ” ما قبل التاريخ”؟ الذي يقع وراء فكرة لم تدخل التاريخ بفعل ما قبلها، بل دخلته بفضل ما قامت هي به من دور، بل أدوار، في التاريخ الذي يقع بعد ميلادها؟
إن المسألة لا تخص فكرة “العقد الاجتماعي” وحدها بل تعم جميع الأفكار التي كتب مؤرخو الفكر في أوربا تاريخها منذ القرن الماضي حينما أخذوا في إعادة كتابة تاريخهم معتمدين ما عرف عندهم بـ “المنهج الفيلولوجي” الذي يقوم على رد كل فكرة إلى أصول سبقتها وجذور أسستها، عامدين هكذا إلى تأسيس ثقافتهم على أصول ترجع إلى الإغريق، فجعلوا بداية تاريخهم في اليونان ومنها يمتد إلى روما ومن روما إلى فرنسا وبريطانيا الخ.
إن إعادة كتابة التاريخ تنطوي في الواقع على إعادة تشكيل الوعي. مفهوم “العقد الاجتماعي” له مكان ما في بنية الوعي الأوربي لأنه مفهوم بنوا له موقعا في تاريخهم. أما نحن فهذا المفهوم ما زال غريبا عنا، وبالعكس منه “عقد البيعة” مثلا. فإذا كنا نريد أن نؤسس في وعينا لعقد اجتماعي خاص بنا، أو كنا نريد أن نجدد مفهوم البيعة في وعينا وأن نجعله موازنا لمفهوم العقد الاجتماعي نفسه، فمن الضروري التعرف أولا على مضمون هذا المفهوم، لا من خلال تعريف معجمي قاموسي فهذا لا يفيد في تشكيل الوعي ولا في إعادة تشكيله بل من خلال التعرف على تاريخه، على المحطات التي قطعها في أسفاره.
في هذا الإطار يجب أن نضع هذا الذي ينتمي إلى “ما قبل تاريخ” نظرية “العقد الاجتماعي” في أوربا. نحن نريد أن نفهم كيف نشأت فكرة العقد الاجتماعي في أوربا! نريد أن نتعرف على العوامل التي جعلتها تظهر هناك لنقارن، بعد ذلك، بين “ما قبل تاريخـ”هـا هناك وبين الوضع عندنا نحن، وهو وضع “ما قبل تاريخ” ما زال ممتدا في الحاضر لم يترك بعد مكانه لـ”التاريخ”.
يتحدث الباحثون الأوربيون عن ظهور فكرة “العقد الاجتماعي”، بصورة أو بأخرى، في العصور القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، عند الفيلسوف الصيني موتزو وعند السوفسطائيين اليونانيين، ثم عند الأبيقوريين في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عند الرومان وعند شيشيرون خاصة، في القرن الأول ق.م، ويشيرون إلى أنه كان لها صدى في القانون الروماني يعود إلى التقليد الروماني القديم الخاص بـ “الوفاق الشعبي”، بينما يبحث بعضهم عن أصول لها في النصوص المقدسة فيجدون في “العهد القديم” عددا من الأمثلة على “العقد الاجتماعي”، على رأسها “ميثاق بني إسرائيل”، بينهم وبين يهوه (الله)، والعقد الذي أبرموه مع الملك سليمان.
ويتتبع المؤرخون فكرة العقد الاجتماعي في القرون الوسطى المسيحية، ويجد بعضهم نموذجا عمليا لـ”عقد الاجتماع” في “ميثاق الاتحاد” Pactum Unions الذي اتفق عليه الآباء المهاجرون الذي رحلوا عن إنجلترا لينشئوا أول مستعمرة في “نيوإنجلند” بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1620، حيث أعلنوا أنهم يتعهدون على أن يتجمعوا ويعيشوا معا في مجتمع مدني واحد. أما “عقد الحكومة” أو عقد الرعية مع الحاكم Pactum Subjectionis فقد وجد المؤرخون له أمثلة في العقود التي أبرمت، ابتداء من القرن الخامس، وفي عدد من المملكات الجرمانية، بين الملوك ورعاياهم. أما النموذج والمثال لهذا النوع من العقد فيجده هؤلاء المؤرخون في “الميثاق الأعظم” Magna Carta الذي وقعه الملك جون عام 1215 ورضخ فيه لثورة النبلاء وقبل شروطهم.
ومع ذلك، فنحن نرى أن هذه الأمثلة والنماذج كانت تقع خارج ما نعتبره هنا “ما قبل تاريخ” فكرة العقد الاجتماعي، فليست هناك أية علاقة بين هذه الأمثلة التاريخية، الفكرية والعملية، وبين فكرة العقد الاجتماعي كما ظهرت في القرن السابع عشر. ذلك أن فكرة التعاقد بين الحاكم والمحكومين (عقد الحكومة) لم تصبح ذات شأن في التاريخ الأوربي إلا حين اشتد الصراع بين الإمبراطورية وبين الكنيسة البابوية ولجأت هذه الأخيرة إلى تبرير تدخلها بإقحام فكرة “العقد”. لقد ادعت الكنيسة لنفسها الحق في عزل الملوك الطغاة مستندة في ذلك إلى أن البابا يملك السلطة الروحية، الشيء الذي يعني أنه المسؤول عن السعادة الروحية للشعب، وبالتالي فمن حقه أن يحرر هذا الشعب الذي يعاني ماديا وروحيا من استبداد الملوك المستبدين، وذلك بجعله في حل من الالتزام الذي يوجبه ذلك “العقد” إزاء صاحب السلطة الزمنية: الملك.
كان ذلك على عهد البابا غريغوار السابع (1073-1085) الذي خاض صراعا مريرا مع الإمبراطور هنري الرابع فانتصر عليه وسن عدة قوانين كهنوتية في إطار ما عرف الإصلاح الغريغوري. لقد بنى هذا البابا إصلاحه في هذا المجال على فكرة أن سلطة الملوك مستمدة من الشعب بينما سلطة الباب مستمدة من الله. وهذا ينتج عنه أن سلطة البابا أسمى وأشرف من سلطة الملك، وأن سلطة هذا الأخير تفقد شرعيتها إذا مارس الطغيان والاستبداد على الشعب الذي إنما يحكمه بموجب عقد قوامه الحكم بالعدل والعمل لصالح السعادة المادية للرعية، جنبا إلى جنب مع البابا المكلف بتوفير السعادة الروحية لنفس الرعية. فالحاكم الزمني ليس حاكما مطلقا بل له شريك أسمى منه هو البابا.
هنا تبدو فكرة “العقد”، عقد الحكومة، وكأنها قد وظفت لصالح الرعية ضد الملك، بتوسط طرف ثالث هو الكنيسة. غير أن القصد الأول والأخير منها هو تبرير تدخل الكنيسة بين الملوك والرعايا، بوصفها سلطة عليا. فالمسألة، في هذه المرحلة، تندرج في إطار الصراع بين الكنيسة والإمبراطورية، وليس في إطار الصراع بين الحاكم والمحكومين.
ومع ذلك فقد أخذت الفكرة تشق طريقها لتنخرط في هذا الإطار الأخير وتصبح فاعلة فيه. وهكذا ركز بعض المنظرين للمذهب الغريغوري على كون الشعب هو الذي ينصب الملوك حكاما عليه وأنه إنما يفعل ذلك بهدف حماية نفسه من طغيان الطغاة، الشيء الذي يعني أن الملك إنما يحكم بموجب “عقد مشروط” بينه وبين الرعية. ومن هنا خطا بعض أنصار المذهب الغريغوري خطوة أخرى فقالوا: إن خرق الملك للعقد الذي بينه وبين الرعية يجعل هذه الأخيرة في حل من الالتزام بطاعته وإن تدخل البابا إنما هو عبارة عن إضفاء الصبغة العملية على ما استوجبه طغيان الأمير. وهكذا فبعد أن كانت فكرة “العقد” تُبَرِّرُ تدخل البابا لتحرير الشعب أصبحت تبرر ثورة الشعب، أما دور البابا فقد تقلص ليصبح محصورا في مجرد إضفاء الشرعية على أمر واقع هو ثورة الشعب.
ويأتي القديس توما الأكويني ( 1225-1275)، وهو من أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، ليناقش المسألة في إطار اهتماماته الفكرية الخاصة التي كانت مركزة حول التوفيق بين الفلسفة واللاهوت. كان الأكويني من شراح أرسطو وقد تأثر إلى حد كبير بآراء ابن رشد في مسألة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة فضلا عن أخذه برأيه في مسألة العقل والنفس، كما هو معروف عند المختصين. وما يهمنا إبرازه هنا هو أن الأكويني تبنى وجهة النظر الأرسطية في أصل الاجتماع ومنشأ الدولة فقرر أن الاجتماع الإنساني أمر طبيعي كاجتماع النمل والنحل، مع هذا الفارق وهو أن الاجتماع الحيواني يخضع للغريزة، أما الاجتماع الإنساني فيقوم على الإرادة ويدبره العقل وبالتالي فهو اجتماع تعاقد لا اجتماع فطرة وغريزة.
ويميز توما الأكويني بين الإنسان كحيوان اجتماعي والإنسان كحيوان مؤمن. فمن ناحية: “الإنسان حيوان اجتماعي” بوصفه كائنا يخضع لقوانين الطبيعة التي تفرض عليه التعاون مع بني جنسه ليستقيم أمره، ومن ناحية أخرى هناك “الإنسان-المؤمن”، وهو يتميز بانتمائه إلى نوع من الاجتماع خاص هو الكيان الروحي الذي تشكله الكنيسة.
هنا سيوظف الأكويني التمييز بين السبب الأول والأسباب الثواني -وهو تمييز يرجع إلى أرسطو و وقد انتشر في الفكر الفلسفي في الإسلام- سيوظفه توظيفا رشديا (نسبة إلى ابن رشد)، ولكن في مجال السياسة والحكم. لقد اعتبر أرسطو السبب الأول (المحرك الأول، الله) مبدأ لكل شيء، ولكنه جعله لا يتدخل كل مرة وفي جميع الجزئيات، بل هناك الطبيعة وقوانينها التي تشكل الأسباب الثواني، وهي المسؤولة عما يجري في الكون من حوادث جزئية. كان الفارابي وابن سينا قد اتجها بالفكرة اتجاها آخر فاعتبرا العقول السماوية (الملائكة) فائضة عن العقل الأول (الله) وجعلوها هي الأسباب الثواني. أما ابن رشد فقد احتفظ بفكرة أرسطو كما هي : المحرك الأول هو السبب الأول وهو الله، ثم المحركات الأخرى (الأجرام السماوية) التي رتب الله حركتها وتأثيرها لتشكل ما نسميه القوانين الطبيعية، وهي الأسباب الثواني. وفي هذا الاتجاه سار توما الأكويني فشيد رؤية جديدة لثنائية الزمني والروحي، إذ ربط الزمني بالأسباب الثانوية والروحي بالسبب الأول.
في إطار هذه الرؤية الجديدة لثنائية الزمني والروحي يقرر توما الأكويني أن سلطة الحاكم، وبالتالي الدولة، ليست نتيجة تدخل مباشر من السبب الأول (الله) بل هي ترجع إلى “الأسباب الثواني”، أي إلى القوانين الطبيعية التي بفعلها تم الاجتماع ونصبت الدولة، ولا يكون حكم الحاكم مشروعا إلا إذا كان متوافقا مع القوانين الطبيعية أي مع العقل، لأن العقل ليس شيئا آخر غير إدراك الأسباب كما يقول أرسطو وكرر ذلك ابن رشد مرارا وتكرارا. فبدون الاهتداء بالعقل والعمل بموجب قوانينه، التي هي من قوانين الطبيعة التي خطتها الإرادة الإلهية، تكون سلطة الأمير ظلما فاحشا. ذلك أن غاية الاجتماع ليست في حصول الإنسان على المتعة والشهوة بل الغاية منه حصول الفرد البشري على كماله الإنساني. ومهمة الدولة تكمن في مساعدته على ذلك خصوصا فيما لا تطاله قواه الخاصة من الأمور التي تنتمي إلى عالم المادة، بما في ذلك الحياة الاجتماعية ومقتضياتها. أما الناحية الروحية، الدينية الخلقية، فتتكفل بها الكنيسة.
يمكن اعتبار هذا الفصل الذي أقامه القديس توما الأكويني بين الدولة والكنيسة بذرة البذور لما سيعرف في العصر الحديث بـ”العلمانية”، كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين. لن نخوض في هذا الموضوع الآن. المهم بالنسبة لموضوعنا هو أن نسجل أن الترويج لمثل هذه الأفكار في القرن الثالث عشر الميلادي من طرف الكنيسة كان من الناحية التاريخية، أعني من ناحية النتيجة، بمثابة إشعال النار في حقل الحكم الإمبراطوري الإقطاعي.