إن الإنسان عبر تاريخ علاقة مع بالطبيعة والمجتمع, استطاع أن يطور في وجوديّه المادي والفكري معاً, فكلما تطورت وسائل إنتاجه مثلاً, تطور الإنتاج نفسه, ورافق تطور هذا الإنتاج تطور بالضرورة في العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما يتجلى التطور في الإنسان الفرد نفسه, أي في نفسيته وأخلاقه وقيمه ونظرته إلى الحياة ومهاراته الشخصيّة واهتماماته وميوله وسلوكياته وغير ذلك. هذا ويعتبر التطور الأهم في حياة الإنسان قد حدث برأيي مع قيام الثورة الصناعيّة أولاً, ومع الثورة المعلوماتية الفضائيّة ثانياً, فعندما حقق الإنسان هذه الثورة بجهوده العضليّة والفكريّة المتراكمة تاريخيّاً, استطاع في الحقيقة أن يحقق بعمله هذا, تغييراً جوهريّاً في معطيات وآليّة عمل العالم الإنساني بكل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة, وذلك بسبب ارتباط الكثير من مؤسسات الحياة بهذه الثورة ومعطياتها, ممثلة بالحاسوب والنت والفيس والخلوي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المرتبطة بهذه الثورة التكنولوجية بكل مفرداتها, التي أصبحت حاجات أساسيّة وضروريّة في حياة الإنسان بشكل عام.
إن هذه التكنولوجيا على سبيل المثال راحت تبرمج كل نشاط الإنسان من الهاتف الجوال الفردي, وصولاً إلى أجهزة المؤسسات التي يعمل بها, وهذا البرمجة ذاتها نالت سلوكيات وتفكير الإنسان أيضا كما أشرنا أعلاه, أي أن الإنسان ذاته تبرمج عقله ونفسيته ونشاطه بما يتفق وآليّة عمل هذه التكنولوجيا ذاتها.
بيد ان مسألة التطور هذه بكل أطرفها وآليّة عملها, راح يتحكم بها تاريخيّا من سيطر على مَلْكِيّةِ هذه التكنولوجيا, وهي الطبقة الرأسماليّة عبر تاريخها, منذ أن كانت طبقة تقدميّة ناضلت من أجل حريّة الإنسان وكرامته وعدالته ضد نظام استبداد الملك والنبلاء والكنيسة, وصولاً إلى المرحلة التي تحولت فيها إلى طبقة رأسماليّة متوحشة في ظل النظام العالمي الجديد, الذي تخلت فيه عن كل قيمها ومبادئها التي قاتلت ومفكريها من فلاسفة عصر التنوير من أجلها في القرن الثامن عشر عشر, ليظل السوق الحر وقيمه ومبادئ, هو المشروع الأول والأخير في اهتماماتها, هذه السوق التي راحت تعمل من خلاله على تسليع الإنسان نفسه وتنميطه بما يتفق ومصالحها الأنانيّة الضيقة.
كيف حققت الطبقة الرأسماليّة المتوحشة نمذجة الإنسان وتذريره؟.
عندما قامت الحركة الشارتيّة العماليّة (١٨٣٨–١٨٥٠) في بريطانيا, وكومونة باريس (1871) في فرنسة من قبل الطبقة العماليّة, التي راحت تعاني من ظلم الطبقة الرأسمالية لها وهي التي وقفت معها ضد نظام الاقطاع ممثلاً كما قلنا بالملك والنبلاء والكنيسة, أخذت الطبقة الرأسمالية وبكل من تمتلك من قوى مادءة ومعنوية تعمل على تغرب وتجهيل الطبة العاملة والمستهلة معاً عن التفكير في أسباب معاناتهم وقهرهم وغربتهم وتشيئهم, حى لا يفكر بالثيام بأي ثورة ضد النظام الرأسمالي وطبقته المالكة. وعلى هذا الساس سخر ت الكثير من الفلاسفة والمفكرين للعمل من أجل تحقيق هذه المهمةمن جهة, ومن جهة أخرى تشويه الفكر التقدمي الذي تبنته الطبقة العماليّة بعد أن أصبح لها مفكروها وأحزابها. وعلى هذا الأساس جاءت قيم ما بعد الحداثة, التي مثلها ورسم خرائطها ممثلوا اقتصاد السوق الرأسماليّة المتوحشة, ممثلاً بحوامله الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, حيث راحت هذه الحوامل تشتغل وبكل قدرة ودراية, وبما امتلكته من وسائل التأثير على المتلقي, إن كان امتلاكها للمال وتسخيره في كل ما يساهم في تحقيق أهدافها, كاستخدام وسائل الإعلام الموجه, أو وسائل التواصل الاجتماعي, أو شراء وتسخير الكتاب والمفكرين والأدباء والفنانين, أو استخدام السلطات التي أصبحت بيدهم وفي مقدمتها سلطة الدولة وقانونها وقضائها وعسكرها, لفرض منطق ونمط الاستهلاك أولاً, أي الاستهلاك المنتزع من صلته العضويّه بالمجتمع, على اعتباره استهلاكاً من أجل الاستهلاك, وليس استهلاكاً يهدف إلى تأمين حاجات المجتمع الماديّة والروحيّة, بقدر ما همه في ظل عصر الرأسماليّة المتوحشة تحقيق الربح المفتوح على المطلق, والمستعد أن يعلق المشانق لكل من لا يستطيع الاستهلاك, كما راحت الطبقة الرأسماليّة ذاتها تعمل عبر وسائلها ثانياً, على تذرير الإنسان وتشيئه وتنميطه, من خلال إبعاد تفكيره عن أي كتلة اجتماعيّة تحيط به أو نشأ فيها, وفي مقدمتها الأسرة والدولة, بل ومجتمعه الذي ينشط فيه, والنظر إلى نفسه وقدراته الذاتيّة فقط من أجل تحقيق ذاته. وبناءً على هذا التوجه ها هي “مارغريت تاتشر” عندما كانت رئيسة للحكومة البريطانيّة في ثمانينيات القرن الماضي تدعوا (الفرد) قائلة : (لا تنظر إلى فوقك أو تحتك أو إلى جانبيك, بل أنظر إلى داخلك, إلى أعماقك, حيث يكمن دهاؤك وقوتك وإرادتك والأدوات كلها اللازمة لتقدم الحياة. لن يوجد بعد اليوم قادة عظام يقولون لك ماذا تفعل ويريحونك من المسؤوليّة المتعلقة بتبعات أفعالك.. هناك أفراد فقط يحيطون بك كباراً وصغاراً عليك ان تتعلم منهم وفقاً لمهاراتك وقدراتك الذاتيّة, وأنت وحدك من يتحمل نتائج ثقته بأعماله وما تختاره في هذه الحياة. إنه “مجتمع الأفراد”).(1).
إن الهويّة بشكل عام تتحول وفق هذا التوجه هنا من (قيمة وجوديّة) إلى (مهمة). أي لم تعد انتماءً وتضحية وارتباطاً بالمجتمع والوطن, بل تحولت إلى وسيلة تشكل فرديّة أعضائه, والأعضاء يشكلون مجتمع التفرد وموقفهم من أعمالهم في هذا المجتمع.
هذا ونجد كاتبا وعالم اجتماع بريطاني يراقب عن كثب ما يجري في ظل النظام العالمي الجديد, وهو”أوليرش بيك” واصفاً المجتمع الصناعي في مقال له بعنوان (فناء المجتمع الصناعي) قائلاً: (يصدر عن القواعد الاجتماعيّة في أفولها (أنا) عدوانيّة مرعوبة عارية تبحث عن الحب والمساعدة. وفي بحثها عن نفسها وعن تئام اجتماعيّ حنون تتوه بسهولة في غابة الذات.. ومن يفتش في غابة الذات لم يعد بمقدوره أن يدرك أن هذا الانعزال … هذا الحبس الانفرادي للأنا, هو حكم جماعي أيضاً.) (2) .
إن الفرد الحقيقيّ أصبح في مجتمع النظام العاملي الجديد, أو عالم ما بعد الحداثة, هو الذي لا يلوم أحداً على ما يعانيّه من بؤس وشقاء, ولا يبحث عن أسباب فشله إلا في كسله وبلادته, ولا يبحث عن حل إلا في الجد والاجتهاد. أي بالاعتماد على ذاته, لأنه لن يتوقع أن يساعده أحد, ولكنه يستطيع أن يتعلم – هذا إذا استطاع أن يتعلم في شريعة الغاب هذه, من تجارب الاخرين, دون أن ينتظر مساعدتهم. إنه عالم (قلع شوكاتك بيدك) كما يقول المثل العربي. وهنا يأتي الفرق بين المواطن والفرد:
التفريد المطلق للفرد وفقدانه جوهره الإنساني:
في ندوة عقدت مؤخرا في أحد الدول الأوربيّة تناولت مسألة عالم ما بعد الحداثة وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع ليس في أوربا فحسب, بل والعالم الذي قد طاله النظام العالمي الجديد بقيادة الطبقة الرأسماليّة المتوحشة, ومهندسة خرائط هذا النظام حاضراً ومستقبلاً. ونظراً لخطورة وأهميّة ما طرحته هذه الندوة من قضايا تهم مصير الإنسان, عملت على تلخيص أبرز ما جاء في أحد المداخلات الجادة التي تناولت طبيعة وآليّة النظام العالمي الجديد.
تعتبر الهندسة الوراثيّة اليوم, وتكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونيّة في الإنسان, أو التعامل مع الذكاء الاصطناعي, أو ما يسمى تكنولوجيا (النانو), أو (علم التحكم الذاتي, من أهم القضايا التي يشتغل عليها قادة النظام العالمي الجديد, وعلينا أن نميز هنا بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان ذو الاحتياجات الخاصة ليعيش حياة طبيعيّة, وبين هذه التكنولوجيّا التي تهدف إلى تحويلنا كليّاً إلى ريبورتات بشريّة. إن الإنسان الذي سيتجاوز (البيولوجيا) التي أعطته إياها الطبيعة أو جبل عليها, وبعد الوصول إلى مرحلة التفرد المنمذج, لن يكون هناك أي فرق بين الإنسان والآلة, أو بين الواقع والواقع الافتراضي.
إن من المهم أن نفهم مشروع ما بعد الإنسان, كونه مرحلة انتقاليّة ما بين الإنسان وما بعد الإنسان, فالهدف النهائي هو التخلص تماماً من الإنسان كما نعرفه اليوم, وحينما نعرف السبب الرئيس وراء هذا التوجه وهو (العبث البيولوجي), والانحراف الاجتماعي, وتذرير المجتمع, وفردنة الإنسان ونمذجته, من خلال الإعداد التربوي والبث الإعلامي الموجه لتحقيق هذا الإنسان ذي البعد الواحد كما يصفه “هربرت ماركوز” ولكل ما تعرض ولم يزل يتعرض له خلال عشرات السنين يأتي تحضيراً لتقبله حياة ما بعد الإنسان لا حقاً,. فالأمر يتطلب الكثير من الإساءة الجسديّة والنفسيّة والأخلاقيّة لإرغام كائنات ذكيّة مثلنا تتقبل الانقراض, أو التحول الجنسي.
إن أغلب إن لم نقل كل الأحداث في النصف الثاني من القرن الماضي كانت مصممة من أجل تقريبنا لقبول هذا الواقع الفاسد. فسواء تقبلت هذا الأمر أم لا, فنحن نعيش داخل منظومة فائقة التحكم.
نعم.. وعينا بالواقع قد تم التخطيط له, وتسييره وتنفيذه بعناية تامة من أجل التحكم فينا وأخذنا إلى أية جهة يرغبون بها, وهذه الوجهة هي (ما بعد الإنسان). ولتحقيق ذلك كان عليهم العمل على:
أولاً : زعزعة ثقة الإنسان بنفسه وتجريده من إنسانيته, وزرع اليأس في نفسيته عبر كل الوسائل الماديّة والمعنويّة المتاحة.
ثانياً: تحطيم نواة العائلة من خلال تربية أفرادها عبر مؤسسات الدولة التربويّة والإعلاميّة والثقافيّة, كالتربيّة التي تقوم على تشجيع الاجهاض, والمثلية والتحول الجنسي, وتحييد القضاء, والايمان بالله والروحانيات.
ثالثاً: تشجيع الناس للعيش في المدن الكبيرة, بعيداً عن الأرياف والطبيعة, وتسميم الغذاء من خلال الصناعات الغذائية المعلبة, وتسميم حتى المياه والهواء, ونشر الأمراض بين أفراد المجتمع. أي العمل على تطبيق النظرية المالتوسيّة الجديدة.
رابعاً: نشر مواقع التواصل الاجتماعي بدل التواصل والتفاعل الحقيقين المباشرين بين الأفراد, ومن ثم تقديم كل ما يحرك أهواء وغرائز الناس, كالإباحيّة الجنسيّة والمثليّة والتحول الجنسي, والأكثر اهتماماً عندهم هو دفع الناس لممارسة الجنس بعيداً عن أية سلطة قانونيّة أو أخلاقيّة حتى ولو كانت ممارسته مع الحيوانات.
خامساً: صنع الأزمات الماليّة والزيادات المستمرة بالضرائب ورفع الأسعار وخلق الأزمات المعيشيّة, وصنع الحروب, وتشجيع الهجرة الجماعيّة, ونشر القلق والاكتئاب والمخدرات والكحول, والخوف الدائم من الناس والمستقبل, وانعدام الأخلاق كدين جديد.
هذا ويمكن المواصلة بدون توقف في شرح كيف يتم التأثير في إبعاد الإنسان عن إنسانيته, من خلال نشر وتعميم وتجسيد أي شيء يبعد الإنسان عن مصادر قوته وأمانه واستقراره, أو تحقيق أي هدف إيجابي في هذه الحياة, أو أي معنى للحياة. والهدف الأكثر أهميّة عندهم هو إيجاد مجتمع ضعيف في وحدته وأخلاقه واتصالاته وصحته وعلمه أو معرفته الايجابيّة عن نفسه وعن واقعه ومن يتحكم به.
إذاً إن الهدف هو صنع جيل كامل من الكائنات البشريّة الهجينة أو المهجنة. فالذكورة هنا يجب أن تبقى محط هجوم نفسي وأخلاقي وثقافي وبيولوجي, ودفع هذا الإنسان المراد نمذجته وتهجبنه باتجاه الرياضة والترفيه والتخنيث من خلال رجال يميلون إلى تقليد النساء في مظاهرهنَ, وكذلك تعليم الأطفال في المدارس بأن الجنس (ذكر وأنثى) هو خيار يمكن تحقيقه بالتحول الجنسي.
إن كل ما جئنا عليه هنا ليس حركة طبيعيّة, بل وجدت بأوامر فوقيّة ليس لها أي دخل بحريّة الإنسان في التعبير عن جنسه, أو حقوقه المدنيّة, بل هي أجندة مدروسة وبعناية شديدة ذات بعد شرير وفاسد لتغريبنا وتُصالنا إلى مرحلة ما بعد الإنسان, وجعلنا نتساءل عن أهم شيء في هويّة الإنسان هو جنسنا البشري.
د. عدنان عويد كاتب وباحث من سوريّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحداثة السائلة, “زيجمونت باومان” – ترجمة حجاج أبو حبر- مكتبة بغداة- الشبكة العربيّة للبحاث والنشر- 2016. ص7و8.
1- الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص75.
2- الحداثة السائبة المرجع نفسه – ص85