أصدرت كتابا عن التعليم تدافع فيه عن المدرسة العمومية، ونحن عشنا احتجاجات منذ بداية السنة الدراسية، ما مغزى من ذلك ؟

– الكتاب هو انشغال وطني ولكن اعتمدت فيه المنهج النسقي، أي إنه عندما نريد دراسة قضية ما، لا بد من استحضار جميع العناصر المرتبطة بهذه القضية التي نريد دراستها، إذا كنا نريد دراسة ما أو إشكالية ما ، حتى لا بد من استحضار جميع العناصر المرتبطة به، وبالتالي فالنسق الشمولي هو الذي قد يسعفنا إلى التوصل إلى بعض الأسئلة العميقة المرتبطة بقضية التعليم، وأيضا المرتبطة بالإصلاح النظام التعليمي في المغرب.
لماذا أقول المنهج النسقي؟ لأنه يبعدنا عن التجزيئ الذي عنده طبيعة تقنية، هو الذي سقطت فيه كثير من الدراسات، التعليم يعود فقط إلى العناصر المشكلة لبنية نظام التعليم ولا يخرج عن العناصر المشكلة وهذا مهم ولكنه غير كاف، من هنا أقول بأنه لا بد من ربط النظام التعليمي بالنظام السياسي.
بالنسبة لي أصبحت مهما أن نركز وننتبه إلى المعضلات أو الأعطاب البنيوية المرتبطة ببنية النظام التعليمي، ولكن الخلل لا يكمن فقط في هذه البنية رغم وجودها، ولكن يكمن في أننا لا بد أن نتكلم عن علاقة النظام السياسي بالنظام التعليمي. وقد عدت إلى ميشيل فوكو في ما يتعلق بالسلطة والمعرفة، في كتابه يقول: يجب الدفاع عن المجتمع، وأن هذه السلطة والمعرفة، تعطينا مفتاحا لتجاوز حدود الدراسات التقنية المرتبطة بالخبير الذي لا يلتفت ولا يهتم ولا يستحضر السياسي، الوطني، الاجتماعي، الوجود الحضاري للمغرب، ويغرق غرقا في استغراق كبير في ما يتعلق بالبحث عن حلول تقنية.
قلت إن ميشيل فوكو يقول بأن السلطة السياسية يمكن لها ضبط حركية المجتمع من خلال آليات خارج الآليات المؤسساتية وخارج السجن والمحكمة، وخارج القانون وخارج الجيش ..هذه آليات معتمدة رسميا عند السلطة، ولكن هناك آليات أخرى يجب أن ننتبه إليها جيدا، وهي المرتبطة بضبط المجتمع بجهاز يسميه ميشيل فوكو بـ»جاهزيات المعرفة» أو بجهاز التربية، هناك نص في الكتاب يقول: كيف تعمل السلطة بذكاء قوي وبآليات دقيقة ومحددة مرتبطة بالتربية وبالتعليم وبالمعرفة للتحكم في المجتمع وضبط المجتمع.
في المغرب، هناك آليات خارج ما هو دستوري ومؤسساتي للتحكم في المجتمع أو ضبط المجتمع، أو مواكبة حركية المجتمع حتى لا تنفلت لها هي كسلطة، هي ثقافة المخزن.
ثقافة المخزن، عدت هنا بالتحديد للمرحوم والمفكر الكبير محمد عابد الجابري، ورجعت لمفكر كبير أيضا، الأستاذ عبد الله العروي، للقول بأن هناك ثقافة ملتصقة بالدولة، هي ثقافة المخزن، وهذه الثقافة يجب أن نتبعها ونتكلم عنها، ليس بمنظور نقدي سلبي، ولكن بمنظور نقدي في محاولة لبناء مستقبل آخر ومغرب آخر ممكن .
محمد عابد الجابري تحدث في لقاء صحفي مخاطبا صحفية لا تتحدثي عن دولة المؤسسات، بل يجب أن تتحدثي عن تحرير الدولة من ثقافة المخزن حتى نتمكن من مناقشة دولة المؤسسات بمفهومها الحداثي .
يجب أن نفهم دور الثقافة المخزنية في ضبط التربية لتكون في خدمة الفلسفة التربوية للنظام المخزني. حينما نستحضر شهادة العلامة محمد شفيق التي أوردها الأستاذ إدريس كسيكس في كتابه: «وظيفة مثقف»، الذي حاور فيه 15 مثقفة ومثقفاً مغربيا، في مختلف القضايا التي تهم المغرب، والتي تبين لنا بوضوح، اهتمام الدولة القوي بالتربية والتعليم بغاية الحفاظ وتكريس التربية الخادمة للمخزن، يقول الأستاذ محمد شفيق:» في سنة 1968، استقبلني المدير العام للديوان الملكي السيد إدريس المحمدي بدعوة منه، وأخبرني أن الملك الحسن الثاني طلب مني، كمفتش عام بوزارة التربية الوطنية، إعداد تقريرين: الأول عن طرائق تفكير المدرسين، وأذكر أن هذه السنة هي التي شهدت الحركات الاحتجاجية للطلبة بباريز، وشكل ذلك قلقا كبيرا للرباط. وبعد شهرين طلب مني أن أهيئ تقريراً تقنياً حول التعليم والتربية بالكتاتيب القرآنية «Les Msids».
وإذا تذكرت جيدا – يقول الأستاذ محمد شفيق – أنني ختمت تقريري بالجملة التي تقول: « التعليم بالكتاتيب القرآنية، يعد واحدا من بين الأسباب الرئيسية لتأخرنا الحضاري». لقد انزعج إدريس المحمدي عندما قرأ التقرير… وبعد أسبوع دعاني للحضور إلى مكتبه، وفي باب المكتب، ضحك بقوة وبأعلى صوته، وأخبرني بأن الملك اطلع على التقرير، وأمرني ببعث مذكرة إلى وزير التربية الوطنية من أجل: تعميم التدريس بالكتاتيب القرآنية في كافة ربوع التراب الوطني.
شخصيا، لا أتصور كيف سيكون المغرب غدا إن بقيت منظومة التربية والتعليم هكذا !.
كما تحدثت في الكتاب عن ضرورة الاختيارات التربوية في مجال التعليم والحسم في الاختيار، هناك قضايا تحتاج للحسم وليس للتكتيك، وقضية التربية يجب الحسم فيها ، مثلا التلميذ يعيش على إيقاع عالمين: عالم تقليدي تقليداني ماضوي وعالم آخر حداثي بشكله الصوري.
يجب أن نكون أبناء العصر، ولكي نلج العصر يجب أن نصلح التربية والتعليم والبحث العلمي وإلا سنكون على هامش التاريخ والصيرورة التاريخية الحديثة المعاصرة.
بخصوص الأدوار الاستراتيجية للتربية والتعليم في تغير المجتمعات، هناك تقريران مهمان في هذا الباب: تقرير مدرسة العدالة الاجتماعية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، يقول فيه أن بناء قدرات الفرد هي أساس وشرط التنمية المستدامة، وتعتبر التربية البعد المحوري للأبعاد الأخرى التي تكون وتبني القدرات، حيث إن ولوج تربية ذات جودة يؤثر على الصحة والكرامة والحرية، التي تمكن الفرد من استعمال قدراته، والاعتماد عليها بشكل فعال من أجل التغلب على الفقر والقيام بالاختيارات في الحياة. وهناك تقرير محمد عابد الجابري في تغيير المجتمعات قصد تحديثها في « نقد العقل السياسي العربي: الجزء الثالث « .
إذ لم نغير المجتمعات لن نصل إلى الحداثة، يمكن أن يكون هناك دستور ديمقراطي وقوانين في المستوى الرفيع في بعدها الوطني والحقوقي على مستوى ما هو مكتوب، والتعليم عنصر أساسي من أجل تغيير المجتمع.
كما تحدثت في الكتاب عن « محنة الفلسفة « وأعتبرها جزءا لا يتجزأ من الأزمة المركبة والمعقدة التي يعرفها النظام التعليمي بالمغرب، لقد كانت الفلسفة تاريخيا في توتر دائم مع السلطة، وكانت السلطات تخشى الفكر الفلسفي، لأنها تكشف، أي الفلسفة، طبيعة بنياتها السياسية المعتمدة في ممارسة سلطتها وتبحث عن العناصر المكونة للمجتمع بمنظور نقدي.

– لماذا اخترت عنوان «يجب الدفاع عن المدرسة العمومية «؟


– المدرسة العمومية موضوع يهم المغاربة ومستقبلهم. لماذا الدفاع عن المدرسة العمومية؟ لأن المدرسة العمومية الجيدة بنظام تعليمي تربوي جيد هي المدرسة التي تضمن لنا التوزيع العادل للمعرفة للتعليم والتربية، وهي الوحيدة التي تصل إلى أبناء الشعب المغربي وبناته في قمة الجبل، لذلك يجب الدفاع عن المدرسة العمومية.
ثانيا: الكتاب هو انشغال وطني بقضية التعليم والإصلاح الهيكلي العميق للنظام التعليمي بالمغرب، لأنه المرتكز الأساس بالنسبة لتحقيق التنمية الشاملة والبناء الديمقراطي. لا أتصور بأن المغرب يمكنه أن يتقدم ويتطور ويمكنه أن يحقق التنمية الشاملة، ويمكنه أن يعمل على بناء الديمقراطية السليمة دون التربية والتعليم. وهذه القاعدة إن تجاوزناها ستكون لنا مشاكل تتعلق بالمغرب ومشاكل بالمستقبل. المحدد للوجود الحضاري للمغرب ينطلق من البحث العلمي ومن التربية والتعليم، هذه مسلمة أصبحت متداولة ومعروفة لدى كافة الدول. الاهتمام بتنمية رأس المال البشري هو القاعدة الأساسية بالنسبة للبناء.
اليوم في المغرب لدينا إنجازات كبيرة لا يمكن نكرانها، وهناك الانفتاح على إفريقيا، وهذا موضوع وطني يستحق الكثير من الدراسة والبحث والتدوين والتوثيق ومن الإشادة. ولدينا بنيات تحتية مهمة، والميناء المتوسطي والصناعات، ولكن صناعة السيارات وأجزاء الطائرات لا يمكنها أن تحقق التنمية، وأسميها في الكتاب التنمية المعاقة، لأن الصناعة التي نتحدث عنها ينبغي أن تكون مرتبطة بصناعة الإنسان. نحن في المغرب نهمل الإنسان من خلال إهمال التربية والمدرسة وأصبحنا نعيش وضع لا يليق بالمغرب ويمكن أن يحدث شرخا حقيقيا في المجتمع لأن تماسك المجتمع هو رهان من الرهانات الأساسية التي ينبغي أن نحافظ عليها. هذا التماسك قد يصاب بكسور وقد يصاب بانكسارات وتوترات واختلالات بنيوية قد تؤدي إلى توترات لا ندري إلى أين تصل. لذلك فالاهتمام بالتعليم يعد جوهر الأشياء بالنسبة للتنظيمات السياسية والنقابية وللدولة وللمجتمع، ويجب الدفاع عن المدرسة العمومية لأنها هي الضامن الأساسي لتجاوز بعض المعيقات والأعطاب البنيوية ذات الطابع الاجتماعي والثقافي والتي تؤدي إلى بعض النتائج السيئة.

– ماذا يجري الآن في التعليم؟


– ما يقع الآن في التعليم هو نتيجة طبيعية لتطور غير طبيعي عرفته السياسة التعليمية في المغرب، ونتيجة طبيعية لمسار غير طبيعي ولا تاريخي عرفته السياسات التعليمية منذ الاستقلال إلى اليوم.وأؤكد أن الضرورة الوطنية والحاجة التاريخية تقتضي الإصلاح الشامل الهيكلي العميق للنظام التعليمي لكي نخرج من كل ما يؤدي إلى نقاشات هامشية وجزئية. وإذا لم نصلح النظام التعليمي سنبقى غارقين، ولا أتصور حكومة تستقبل التنسيقيات، واستقبال التنسيقيات
****** هو عنصر من العناصر التي يمكن أن نؤسس عليها الرأي لتهميش النقابات.
فما حدث في التعليم مؤخرا هو نقطة نظام وطنية جديدة تطرح سؤال الإصلاح العميق الهيكلي على الدولة وتنظيمات المجتمع.

الكاتب : مصطفى الإدريسي

الحوار منقول عن جريدة الاتحاد الاشتراكي / الرابط ادناه :

‫شاهد أيضًا‬

عندما توسط الحسن الثاني بين شاه إيران والخميني * عمر لبشيريت

يحكي عبداللطيف الفيلالي رحمه الله، وزير الخارجية والوزير الأول الأسبق، أن اتصالات المغرب ب…