بسم الله الرحمن الرحيم
تأليف
رئيس الأشاعرة في عصره، ورائد الفلسفة الإسلامية (الثالث)، العلامة المُفكر الحُجّة الكبير أ. د. علي سامي النشار الأشعري الشافعي
(1335 – 1400هـــــــ/ 1917 – 1980م)
رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس ثمة شك في أن ((الفلسفة الإسلامية)) هي التعبير النهائي المتجدد للأمة الإسلامية, والانقداح المنصهر السيال لتطور هذه الأمة الخلاق خلال الدهور. وليس في حياة المسلمين ولا في تاريخهم من حقائق أخطر ولا أدق من حقائق هذه ((الفلسفة الإسلامية))، إنها جوهر حياتهم, ومرآة تطورهم. وانعكاس لما في باطن مجتمعهم من آمال وآلام, ولقد شملت هذه الفلسفة آفاقاً متعددة, واقتحمت ميادين متسعة, ميتافيزيقية وطبيعية وأخلاقية وسياسية, وأقامت حضارة ذات طابع خاص يميزها عن غيرها من الحضارات, ويفصلها عن غيرها من الأمم؛ ولهذا كان من المحال أن نقول: إنها امتداد لحضارة أخرى, أوصورة غير متكاملة لفلسفات وأفكار سابقة.
إن الروح الفلسفي المنبعث من أمة ذات خصائص معينة يختلف عن الروح الفلسفي المنبعث من أمة مختلفة الخصائص ومختلفة الآفاق.
لا شك أن هناك تاريخاً عاماً للفلسفة يشمل الفلسفات جميعاً وتوضع هذه الفلسفات في إطاره, والفكر الإنساني متصل الحلقات, ولكن من الخطأ الكبير القول بأن الفلسفات تتشابه في جوهر مذاهبها, إنها تختلف طبقاً للانبعاث الداخلي والخارجي في الأمم. هل تشابه اليونان مع الهنود في شيء؟ وهل استطاع الهنود, وهم أمة آرية عريقة في التاريخ أن تقدم لنا ما قدمه اليونان؟ وهل استطاعت إيران القديمة, وهي أمة آرية اخرى, أن تقدم للفكر الإنساني ما قدمه الهنود أو اليونان؟ وكذلك فعل المسلمون القادمون من الجزيرة العربية, فحين التحموا بغيرهم من الأمم وكونوا معدلاً بشرياً جديداً, قدموا لنا فلسفة جديدة لم يعرفها اليونان ولا غير اليونان.
وتعقدت المسائل, وضخمت الحياة بالمسلمين, فأمسكوا بجوهر فلسفتهم الإسلامية القديم كما هو, وطوروا عرضها فقط, فبقيت كما هي منذ نشأتها حتى الأيام التي نحياها نحن الآن, فما زالت فلسفتنا وفكرنا هي ما تفلسفه أسلافنا الأقدمون وما تفكروه, ولم يظهر بيننا حتى الآن فيلسوف على طريقة أوربا, كما لم يظهر من قبل بين أسلافنا فيلسوف على طريقة يونان, أو على طريقة براهما أو زرادشت.
وما أشد عبث هؤلاء الذين يقولون إننا كنا ذيلاً لحضارة, وينبغي أن نكون ذيلاً لحضارة, وأن نفرض على كياننا الداخلي وعلى وجداننا الباطني ما صدر عن كيان غيرنا وكمُن في وجدانهم, وهذا خطأ بالغ, إننا نصدر عنا داخلياً, ونلقى إلى تراث الفكر بما تحرك في تعاريج عقلنا ذي القوام الخاص, فأحكام القيمة لدينا ليست أبداً هي أحكامهم, ولا أخلاقيتنا هي أخلاقيتهم, ولا ما نقتنصه من تشوفنا في آفاق الكون هو تشوفهم, وليس طريق الفكر والفلسفة واحداً. إنه متعدد النواحي, متعدد المسالك.
لم تكن فلسفتنا فلسفة اليونان, وإن كنا قد تناولناها, فلم يكن مجتمعنا مغلقاً تقف حواليه السدود والقلاع, بل فتح الباب العظيم, ودخل كل شيء عارياً على مدينتنا الكبرى, فأخذنا ما أخذنا ورفضنا ما رفضنا, وكان ما أخذنا قليلاً ثم وضعنا البناء العظيم وجرى الفكر نهراً سيالاً يُبدع و يُفتن.
كانت ((الفلسفة الإسلامية)) بدء عصر تنويري مبدع نفاذ, إنها أتت بخلق جديد وألقت بتصورات كبرى في تاريخ الفكر الإنساني, وحولت هذا الفكر من طور إلى طور, وسارت قدماً حتى حل الأصيل, وكاد المغيب أن يطويها ويطوي المسلمين, ولكنها – وهي قوة حيوية خلاقة – تُفتن من جديد و تُبدع.
ومنذ أن نادت ((المدرسة الإسلامية الحديثة)) بضرورة الكشف عن روح هذه الحضارة في كتابات المسلمين الأصيلة وأنا معني بتتبع نشأة هذه ((الفلسفة الإسلامية)) و ((الفكر الإسلامي)). إن ((النشأة)) هي اللبنة التي يقوم عليها أساس الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي.
وشغلت بتأريخ هذه المرحلة الأولى الخطيرة, فكتبت الكتاب الأول أو الطبعة الأولى ((منهجًا)) لا ((مادة)), أردت به أن أوجه أنظار الباحثين إلى منهج البحث في هذه الفلسفة, وكيف نتناولها في مصادرها الأصلية.
ثم قدمت الطبعة الثانية من هذا الكتاب في جزءين ((منهجًا)) و ((مادةً)), وحاولت أن أقوم بدراسة تركيبية لهؤلاء المفكرين الأوائل الذين قامت ((الفلسفة الإسلامية)) على أكتافهم.
وما إن نفدت الطبعة الثانية حتى وجدت أن من واجبي أن أقدم الطبعة الثالثة التي نفدت فقدمت الطبعة الرابعة وهأنذا أقدم السابعة.
أما ((المنهج)) فلم يتغير في الطبعات كلها, وأما ((المادة)) فقد كبرت وضخمت, فبدا الكتاب على غير ما يعرفه قارئ الطبعات السابقة, أضيفت إليه مواد واستخدمت فيه وثائق ومصادر جديدة, وما زلت أؤكد أن البحث في ((النشأة)) لم يتم بعد, ولابد من سنوات أخرى تبرز فيها وثائق ما زالت مطمورة, وتتضح فيه حقائق ما زالت مغمورة وتبين عن أصالة هذه الفلسفة وقوتها الدافقة, وتكشف عن تكامل نسقها.
ولم تكن أبحاثي وحدها في الميدان تبحث ((الفلسفة الإسلامية)) في وجهتها الصحيحة, إن الأبحاث المستفيضة في تاريخ هذه الفلسفة تتوالى عاماً بعد عام.
ومنذ أن أعلن شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق – أستاذ الفلسفة الإسلامية الأول القديم– دعوته إلى دراسة ((الفلسفة الإسلامية)) في مظانها الحقيقية, وتلامذته الأقدمون قد نفروا إلى أعنف موضوعاتها, يدرسونها في تؤدة وإتقان, ثم يقدمونها للحياة الإسلامية المعاصرة, وللمسلمين جميعًا في صورة متلألئة فاتنة.
ظهرت الأبحاث الغنية العارمة من رجال تلك المدرسة, فوضحت قواعدها وثبتت ركائزها, وانطلق كل في نطاقه يعرض لأصالة ((الفكر الإسلامي)) في ناحية من نواحي هذا الفكر.
أما أقدم هؤلاء المشيخة القدامى: فهو العلامة العظيم المرحوم محمود الخضيري وقد فقدناه وهو في أوج نضجه, ولا ينسى تلامذته الكثيرون في الجامعات العربية ما ألقاه إليهم من محاضرات تكشف عن ملامح ((الفلسفة الإسلامية)) الحقيقية في عصورها المختلفة, ولا ينسى الباحثون تحقيقاته العميقة الرائعة المنشورة وغير المنشورة في شتى نواحي ((الفلسفة الإسلامية)). وكم نرجو أن يتمكن البعض من تلامذته أن يجمع أعماله العلمية لتكون أول سجل حافل لأعمال هذه المدرسة الأولى في محاولتها الحضارية للكشف عن حقيقة ((الفكر الإسلامي)).
تأليف: شيخ الأزهر الإمام مصطفى عبد الرازق الأشعري الشافعي (1303 – 1366هـــ) رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. |
أما ثاني هؤلاء المشيخة: فهو الدكتور محمد مصطفى حلمي, وقد ورث هذا الشيخ العتيق ميراث شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق في جامعة القاهرة وأخذ مكانه , وحمل في أناقة فاتنة رسالة الأستاذ الكبير. وتبدَّى هذا واضحًا في توفره على فلسفة الحب الإلهي لدى سلطان العاشقين ((عمر بن الفارض)), كما كانت كتاباته عن الحياة الروحية في الإسلام أكبر دليل على انبثاق هذه الحياة في جوهرها عن الإسلام وحده, وقد ملأت كتابات مصطفى حلمي في التصوف فجوة كبيرة في تاريخ ((الفلسفة الإسلامية)), موضحة هذا الجانب الأصيل فيها, كاشفة عن أسرارها و دقائقها.
أما ثالث التلاميذ فهو: الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة, ولقد كانت حياة أبي ريدة غنية بالفلسفة, لقد اقتحم ميدانها الوعر, فكتب في باكورة شبابه كتابه العظيم: (( إبراهيم بن سيّار النظّام وآراؤه الفلسفية والكلامية)). ولم أر عبقريًّا بين كتب الفلسفة جميعًا كما رأيت كتاب أبي ريدة. لقد كون المذهب النظامي خلال شذرات قام بتركيبها على أساس منهجي متكامل, وأثبت أن لهذا الشيخ الكبير من شيوخ المعتزلة فلسفة ذات أصالة تجعله في الرعيل الأول من فلاسفة هذه الدنيا, ثم نشر الدكتور أبو ريدة رسائل ((الكندي)) وعاش معه وفيه, وحاول أن يظهر في وضوح وخصب حقيقة ((الكندي)) بين الكلام والفلسفة, وأن يخلص مذهبه من أوضار فلسفة اليونان التي يختلف فيها عن فلسفة الإسلام, وسواء صحت المحاولة أو لم تصح, فإن عبد الهادي أبو ريدة إنما يصدر عن منهج شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق في أصالة ((الفلسفة الإسلامية)) وعبقريتها, وظهر دفاع محمد عبد الهادي أبو ريدة عن أصالة ((الفلسفة الإسلامية)) واستقلالها في تعليقاته الزاخرة على كتاب ((تاريخ الفلسفة في الإسلام)) للأستاذ دي بور, و الذي قام عبد الهادي أبو ريدة نفسه بترجمته من الألمانية إلى العربية.
ولم تكن مدرسة شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق وحدها تقوم بهذا التفسير الحضاري العلمي لحقيقة ((الفلسفة الإسلامية)) ولحقيقة الإسلام, بل سرعان ما تكونت مدرسة أخرى ذات طابع عقلي في ((دار العلوم)) موطن العلم العربي وحاملة التراث الإسلامي المقدس في جميع نواحيه, سرعان ما ظهرت المدرسة العقلية الإسلامية فيها على يد العالم الكبير الدكتور محمود قاسم, لقد توجه هذا الأستاذ الأول للفلسفة الإسلامية في الشرق الأوسط إلى منهج جديد في البحث, هو إحياء النظرة العقلية في شباب العرب خاصة والمسلمين عامة, فنشر أبحاثه الفياضة عن ((ابن رشد)) سواء في الفرنسية أو في العربية.
وقد تناول محمود قاسم ((ابن رشد)) من ناحية جديدة, وهي أنه معبر أيضًا عن روح ((الفلسفة الإسلامية)) وأصالتها وأنه لم يتابع أرسطو متابعة الأعمى, وبهذا أنكر محمود قاسم خرافة شارح أرسطو وثم بيًّن في ضوء تحليل جديد ووثائق جديدة أثر ((ابن رشد)) في فيلسوف المسيحية توماس الأكويني. ونشر محمود قاسم كتابه الرائع: ((نظرية المعرفة عند ابن رشد و أثرها في توماس الأكويني)) كما نشر ((مناهج الأدلة)) لابن رشد, مع مقدمة مستفيضة يعرض فيها آراءه في ((الأشاعرة)) و ((الماتريدية)) و ((المعتزلة), فيهاجم الأولى ويمجد الثانية والثالثة!.
إنني لا أوافق محمود قاسم في آرائه عن ابن رشد ولا في مهاجمته للأشاعرة وتمجيده للمعتزلة. إنني – كمفكر أشعري يرى أن عمله الأساسي في الحياة هو المحافظة على كيان ((المذهب الأشعري)) مذهب الجمهور العظيم من المسلمين ورباط حياتهم – أنكر كل الإنكار فكرة محمود قاسم الرئيسية, وهي: أن المذهب المعتزلي من ناحية , والمذهب الرشدي من ناحية ثانية أقرب عقلًا إلى روح الإسلام من ((مذهب الأشاعرة)). إنني أرى أن ((الأشعرية)) هي آخر ما وصل إليه العقل الإسلامي الناطق باسم القرآن والسنة, المعبر عنها في أصالة وقوة. وإن ما بقي للمسلمين بعد في الحياة حتى نهاية الدنيا, هو الأخذ بهذا المذهب كاملًا وتطويره خلال العصور, وعلى حسب مقتضيات الأجيال المقبلة. ونحن في أشد الغنى عن تحجر المعتزلة العقلي, كما أننا على بعد كامل عن تفسير ((ابن رشد)) للإسلام في ضوء فلسفة أرسطو. لقد اطمأن المسلمون من قبل في بواديهم, كما اطمأنوا من قبل في حواضرهم إلى ((المذهب الأشعري)), وتخلصوا من شوائب العقل البحت وكما تخلصوا من أدران الغنوص في ضوء هذا المذهب, وحفلت حياتهم في ضوء تعاليمه وتعاليم رجاله.
إن ثراء الحياة الإسلامية كلها يعود إليه وبه وبواسطة رجاله, خصبت آراؤه ((الفلسفية)) و ((السياسية)) و ((الفقهية)) و ((الأصولية)) و ((اللغوية)) و ((الصوفية)) و ((العلمية)). لقد شع النور حيثما كان, وانتشر ضوء حيثما ظهر, وبقي الإسلام حيثما كان, بينما كانت المعتزلة – وهي إسلامية في جوهرها ولكنها لا تمثل الإسلام كاملاً حاجة مؤقتة من حاجات المجتمع الإسلامي, أرادها وقتًا, ثم تخلص منها بعد. أما المذهب الرشدي – إن صح تفسير محمود قاسم له – فهو ترف عقلي, لم يؤثر في مجتمع المسلمين أدنى تأثير.
هذا هو الخلاف الأكبر بين محمود قاسم وبيننا. ولكن هناك اتفاقًا كاملاً بيننا وبينه في أنه حيثما تفحص ((الفلسفة الإسلامية)) فإنك تقابل الأصالة الفكرية, والقوة المنبعثة في تفكير المسلمين. وقد استطاع محمود قاسم أن يكون مجموعة من التلاميذ يتدارسون آراءه وينشرونها, واحتل مكانه الكبير في تاريخ الباحثين في روح ((الفلسفة الإسلامية)) وتبيين أصالتها.
ولست أود أبدًا أن أغض من أعمال مجموعة من شباب الباحثين الذين أقبلوا على ((تاريخ الإسلام الفكري)), وكونوا جيلاً من جبابرة العلماء. إنهم بعد قليل سيتولون أمر ((الفلسفة الإسلامية)) وتوجيه الحياة الروحية الإسلامية وعلى عاتقهم سيكون أمر الحفاظ على هذا التراث. إنهم يسيرون على أرض أسهل فقد مهد لهم الطريق, لقد تفتحت عقول المسلمين من هذه الفلسفة, فعليهم هم أن يحملوا مشاعلها, وأن يوضحوا حقائقها. وأُقدِّم على سبيل المثال لا سبيل الحصر بعض أسماء هؤلاء العلماء وأبحاثهم:
الدكتور عمار الطالبي في أبحاثه العميقة عن الخوارج وعن ((ابن العربي)) الفيلسوف الأشعري وعن ((ابن باديس)).
والدكتور محمد رشاد سالم في أبحاثه العميقة عن ابن تيمية.
والدكتورة فوقية حسين في أبحاثها عن ((إمام الحرمين)) فيلسوف الأشاعرة الكبير.
والدكتور فتح الله خليف في أبحاثه عن ((فخر الدين الرازي )) و ((الماتريدية)).
والدكتور عبد القادر محمود في أبحاثه عن ((الإمامية)) و ((تاريخ التصوف)).
والدكتور أحمد صبحي في أبحاثه عن ((علم الكلام)) و ((علم الأخلاق)) عند المسلمين وغير هؤلاء كثيرون.
كل هؤلاء إنما يتجهون نحو توضيح ((منهج المدرسة الإسلامية الحديثة)), وتدعيم مادتها. أما منهجها فهو بحثهم ((الفلسفة الإسلامية)) في مظانها الحقيقية: ((الكلام)) و ((التصوّف)), وأما مادتها فيما ينشرونه من أبحاث في هذه الموضوعات وما يعدونه من مخطوطات نشر البعض منها, والبعض ما زال في طريقه إلى النشر.
وقد يتساءل البعض: و ما حظ الأزهر – وقد كان معقل الإسلامية العظمى الأشاعرة – في الدراسات الإسلامية الفكرية وبعثها و توضيح حقائقها, والوقوف بالمرصاد لأوروبا وعلمائها جميعًا؟ ولست أود في هذه الآونة أن أعرض لمشكلة الدراسات الإسلامية الفكرية فيه, غير أنني أقول: إن ملامح مدرسة كبيرة ستؤدي عملها فيه أمام ضمير العالم الإسلامي, تظهر الآن بقوة على يد عالم الإسلام الكبير الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود, ولقد نشر عبد الحليم محمود أبحاثًا طوالاً عن حقيقة ((الفكر الإسلامي)), واستفاضت أبحاثه, وستمضي مدرسته قدمًا في هذا الميدان, لا توقفها حركات ناشزة تحاول أن توقف مجرى البعث العظيم.
وفي حركة البعث الكبيرة للعالم الإسلامي الخالص, يقوم علماء أزهريون بمجهود علمي جبار في إحياء وبعث ((الفكر الإسلامي)): أما أولهم, فهو الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار في أبحاثه المتعددة الممتازة عن ((ابن رشد)) وتوضيح حقيقة فكره وعن ((الغزالي)) وفكره وفلسفته, ثم الدكتور سليمان دنيا. وقد شارك في إحياء أعمال سيد مفكري الإسلام على مر العصور ((أبي حامد الغزالي)) رضي الله عنه, ثم كتب دراسات مهمة عن حقيقته. أما الأستاذ نور الدين شريبة فقد أحيا لنا نوادر المخطوطات في التصوف بتحقيق علمي نادر المثال.
وقد تعودت من قبل أن أعرض لآراء المدرسة الإسلامية الحديثة, وأن أعرض لآراء المدرسة الأوربية الحديثة. هؤلاء الذين التحموا بالفكر الأوربي وتفتتوا أذلاء في فكره المنتن الآفن, وأعلنوا أنه لم تكن هناك عبقرية فكرية إسلامية!, وأن عمل المسلمين الأساسي كان قبول الفكر اليوناني والافتتان بفتنته. وكانت كتاباتي كلها ردًّا على هذه الدعوة الكاذبة, ومنذ أن نشرت كتابي الأول: ((مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي)) وآراء هذه المدرسة تتهافت تهافتًا كاملاً, اختفت أسطورة الفتنة اليونانية من نطاق البحث ولم يعد يشعر أحد بوجودها, اللهم إلا إذا تعالت صيحة عصبية من رجالها الآفلين, تصرخ في جنون: أن تراثنا هو تراث اليونان, وأن فكرنا هو فكرهم, وأن حياتنا الفكرية ينبغي أن تربط بخلائف اليونان أوربا وأمريكا.
وقد أثارت مقدمة الطبعة الثالثة لهذا الكتاب ضجة كبرى, حين كشفت – في إيمان كامل – عن حقيقة هذه المدرسة وحقيقة وجودها, لقد حق فيهم حقيقة ما ذكره سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “إني لا أخاف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا, أما المؤمن فيقمعه الله بإيمانه, وأما المشرك فيقمعه الله بشركه, ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان, عالم اللسان, يعلم ما تفعلون وينكر ما تقولون”. كان هؤلاء على الإسلام وحقائقه والمسلمين وعقيدتهم أخطر من كل أعدائه.
لقد ظلموا الإسلام أشد الظلم, وأنكروه بكل وسيلة, كما حاربوا ((الفكرة العربية)) حينما صارت العربية علمًا على ((الوحدة)) فأنكروا انتماءنا للعرب أشد الإنكار, ولقد ذهب البعض منهم إلى بارئه, وبقيت القلة منهم, ولعلهم أن يعودوا عن ظلم أقدس ما لدينا, ولعلهم يذكرون حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك و تعالى: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي, فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم, يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني, ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما أنقص ذلك من ملكي شيئًا, يا عبادي لو أن أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني, فأعطيت كل إنسان منهم ما سأله ما أنقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط, يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها, فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”.
أما بعد, فإني أقول: لعلهم أن يعودوا عن ظلم عقيدتهم وتراثهم وكيانهم. إنهم لن يضروا الإسلام شيئًا, إنهم أحقر من جناح بعوضة, ولن يغني طنينهم شيئًا, إن مسرح الأمة الإسلامية وبالتالي الأمة العربية قد خلا منهم إلى الأبد, وبقيت صفحة الذين ذهبوا منهم إلى الأبد, وبقيت صفحة الذين ذهبوا منهم إلى الله ملطخة بالعار والشنار. لقد خلت النذر من قبل و لم يستفيقوا, وأرجو أن يتيقن الباقون منهم في الحياة من النذر, نذر الله المتتاليات, وأن يعلنوا إنابتهم إلى الله, وإنابتهم وعودتهم: العودة الدائمة إلى حظيرة الله.
والله ولي التوفيق..
(طبعة دار السلام سنة: 1429هـــ/2008م)، في ثلاث مجلدات ضخمة.