موازاة مع استحضاري في هذا المقام كل مقالاتي السابقة في شأن الخصوصية الثقافية والسياسية المغربية مقارنة مع باقي الدول المغاربية ودول المشرق العربي، يبقى من الواجب أن نسائل أنفسنا، أفرادا وجماعات ومؤسسات، جميعا عن الأمد الممكن مغربيا لبناء الصرح الوطني المتراص للحسم النهائي في منطق التنشئة المنتجة للإنسان الكامل.
الوضع المغربي شبيه إلى حد ما بأوضاع ألمانيا زمن ماركس الإيديولوجيا الألمانية وليس مؤلف الرأسمالية. عاش هذا البلد حالة تأخر مادي مرحلي مذلة مقارنة بالتطورات والتحولات الكبرى التي أحدثتها النهضة الأوروبية خاصة بفرنسا وبريطانيا. فإذا كان الفلاسفة (كارل ماركس ونيتشه أساسا) وراء دفع ألمانيا للبحث الموضوعي على أسباب تأخرها والشروع في بناء صرح دولة ومجتمع جديدين يستدرك الواقع المتخلف الذي كبس على أنفاس الألمانيين، فإن لنا كمغاربة كنز فكري، عايشناه ولا زلنا ننقب بكل ما لدينا من قوة لسبر أغوار أعماقه، مؤمنين كامل الإيمان كونه يشكل مشروعا للنهضة المغربية. إنه مشروع الدكتور عبد الله العروي المستحضر لأفكار ابن خلدون وابن رشد ومحيي الدين بن العربي وغيرهم والمستند على الماركسية الموضوعية التاريخانية، وما تراكم من قبلها ومن بعدها من نظريات فلسفية غربية. بفعل أهمية تراكماته المعرفية، تنبأ المفكر المغربي مبكرا بفشل الإيديولوجيا العربية المعاصرة (برامج كل من محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى والأرضية السياسية للوحدة المصرية-السورية…)، وعبد طريقا خاصا به متحديا الصعاب والمنعرجات الخطيرة التي كادت أن تتسبب في تعميق هدر المورد الزمني في وطنه كوعاء متحمل لمراحل برامج التحديث الضرورية في المجالات الثقافية والاقتصادية العلمية والسياسية.
الخصوصية الوطنية والفكرية المغربية جعلت المرحوم الحسن الثاني يصرح مبكرا وبشكل علني ورسمي بتشابه أوضاع المملكة ببنيتها الترابية بأوضاع ألمانيا الفيدرالية (تشابه تاريخي). هذا الوعي المتقدم على زمانه بهذه الحقيقة هي التي جعلت مغرب العهد الجديد يراكم المنجزات بسرعة قياسية رافعا بذلك من القيمة التاريخية لثورة الملك والشعب. لقد تجاوز المغرب بآليات مؤسساتية عصرية اعتماده الحصري على المثقفين التقليديين ومنطق نقلهم لثقافاتهم المتواترة المرتبطة بمهنهم من جيل لجيل (كالمعلمين ورجال الدين …). لقد أصبح تأثير المثقفين العضويين التنويريين واقعا مغذيا للسياسات العمومية. إنهم صنف الفاعلين الجدد المؤثرين بفكرهم المنظم على طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم الوظيفية والمهنية. لقد عبروا عن نوع من الحكمة والأمل في مساعيهم لتحقيق تطلعات الطبقات الاجتماعية المتوسطة. لقد أبانوا عن قدرات اجتهادية وازنة في بحثهم المتواصل لابتكار غايات جديدة ترتقي من خلالها الثقافة والأخلاق في المجتمع المغربي مستهدفين تشخيص الوقائع التاريخية الموضوعية في الماضي والحاضر، ومن تم استنباط الدروس والعبر العقلانية التي تخدم المستقبل. أكثر من ذلك، جند العهد الجديد رجال الدولة في كل المجالات لسبر أعماق المنتوجات الفكرية للمثقفين الكبار ذوي المشاريع الفكرية المتكاملة التي تقدم برامج عامة لتحديث العقل المغربي على أسس موضوعية وقابلة للتفعيل (حتمية ترسيخ الحداثة بالمغرب مسألة وقت فقط). هكذا، بفعل التراكمات الواقعية الملموسة، ارتقت نظرة المغاربة إلى مستقبلهم، بحيث أصبحوا مقتنعين بفساد أطروحات المثقف السلفي والمثقف الانتقائي والليبرالي الانتهازي والتقني الذي لا يستجيب لمتطلبات الحكمة والتبصر. كما يمكن القول بثقة عالية أن الدولة المغربية أصبحت في مستوى السعي لخلق الظروف المساعدة لتمكين المثقف الثوري من الظهور للوجود ومساعدته للقيام بما ينتظر منه. إنه وضع جديد مشجع لهذه الفئة الريادية من المثقفين. في نفس الوقت، وتيرة تطور الأوضاع يسرت مشاركتهم الوازنة والمؤثرة في العلاقات الخارجية التي تقيمها الدولة، بحيث توسعت هوامش تفاعلاتهم مع التطورات العالمية بالشكل الذي يمكنهم اليوم من تجديد ثوريتهم الوطنية عبر الاحتكاك بالآخر.
في هذا السياق، للتعبير كون المغرب قد انتقل من مرحلة إلى أخرى في مسار مشروعه الديمقراطي الحداثي، نشرت على حائط حسابي الرسمي على الفايسبوك يوم 13 يناير 2024 تدوينة تحت عنوان “عتاب وجود..” بمضمون أبرزت من خلاله الحاجة الملحة لتحويل النسق التنشئوي المغربي إلى آلية حديثة وناجعة لتخفيف ضغوط الماضي، والاستجابة لتطلعات جيل الخمسينات والستينات والسبعينات، ومن تم ربط الثقافة المغربية المعاصرة عند أجيال الحاضر والمستقبل بالتطورات الكونية وبتراكم ابداعاتها الإنتاجية والاستفادة من صلابة جسور التواصل بين العلم والفلسفة. لقد تعمدت القول: “لم تسعفنا الحياة لنكون من المساهمين في ابتكار النظريات والكشوفات العلمية وتطوير الانتاج المادي النافع لحياة المغاربة والافارقة والبشرية كونيا (إنه واقع المنظومة التعليمية المنتجة للفئات العريضة من الشعب المغربي) … لم تسعفنا كذلك في إغناء النظريات والتجارب العلمية للحسم في القضايا الجديدة والتقرب من الحقائق المطلقة … لم تتح لنا الفرصة لنبدع في الغوص تفكيرا في المجهول الغابر عن منجزات العلم … لم نتفلسف بما يكفي …. انبهرنا لقضايا غير عادية، فكرنا فيها، وطرحنا الأسئلة في شأنها، لكننا اضطررنا لمعرفة النتائج من الآخر لضعف إمكانيات مؤسساتنا التعليمية والبحثية….. لكننا نتضرع ملتمسين من صانع منطق وجودنا ألا يصنفنا من القطيع عديم الفائدة ….. نطلب من الله الرحمة والمغفرة…”.
إنها متاهات الماضي المضنية وإكراهات رفع تحديات الحاضر لخدمة المستقبل. لم تتح لعامة الشباب المغربي فرص التفكير في مفهوم “الإنسان الأعلى” للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه المتشابه مع مفهوم “الإنسان الكامل” للشيخ محيي الدين بن عربي. هذا الأخير، اعتبر أن الوجود المحقق هو الله عز وجل، مطلق النعوت التي لا توصف (القدرة والعلم والحرية والإرادة…)، الشيء الذي جعله ينتصر لفكرة كون الوجود الإنساني وجود بالظل (ليس حقيقيا). الصفات الحسنى بالنسبة له ليست محدودة ولا نهائية ولا تكمن في ذات الله ولا يتصف بها إلا من خلال اتصاله بالخلق. الواحد بالنسبة لابن عربي لا ينتسب له التعدد والكثرة.
على أساس هذا الاعتبار، اجتهد ابن عربي في تحديد ماهية “الإنسان الكامل”. إنه المخلوق الذي يجب أن يكون دائم السعي لتحقيق الأسماء الحسنى فيه وعلى وجه الأرض (القدرة، والعدل، والرحمة، والعلم، والحق، والحكمة، ….)، وأن يسموا عن غرائزه طامحا ملامسة الأعلى الحقيقي. الحسنة التي نالها هذا الشيخ، الذي يعتبر من رواد التصوف، تتجلى في رفضه للواقع وكونه عاكس معتقدات عصره والإيديولوجيا الدينية الاستغلالية. المتصوف هو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه. لقد كان ابن عربي موسوع المعرفة التي امتدت إلى الشعر والأدب. ولادته في مرسية سنة 1165م، وحياته بالأندلس كان لهما وقع كبير على عقلانية مواقفه الدينية. يُعرف لدى المتصوفين باسم (الشيخ الأكبر)، أما في الشرق الأوسط، فُعرف باسم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
نفس العلاقة بين الخالق والمخلوق تناولها الفيلسوف فريديريك نيتشه بمنطلقات مختلفة. لقد اعتبر الإنسانية حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان المتفوق، داعيا إلى خلق إنسان جديد لا يكل ولا يمل في تقليد الله بهدف ارتقاء حقيقة التقرب إليه. أمام سلطة الظلم والاستغلال التي مارسها رجال الدين في ألمانيا، وما أشاعوه من معتقدات واهية، لم يجد نيتشه من سبيل لإثارة انتباه الجمهور سوى الدفع بتأليه الإنسان. من أشهر أقواله “الإله قد مات” (ولم يقل الله)، قتلناه بسبب ما راج دنيويا باسمه معلنا بذلك موت القيم والعادات السائدة المعاكسة للحرية والإبداع. غير مبال بالعواقب، تجرأ فريديريك على مواجهة رواد الدوجماطيقية وإيديولوجيتها الوثوقية، القطعية، التوكيدية، الإيقانية.
بالنسبة لهذا الفيلسوف الألماني، الإنسان، المسؤول دنيويا على مصيره وسيد نفسه، مطالب بشرعنة ذاته ساعيا إلى تأليهها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبذلك تكون المساواة في الرزق خرافة. بسبب شدة تذمره من المعتقدات السائدة، اعتبر الإنسان القوي، المقابل للإنسان العبد، لا يضيع الفرص باحثا عن الزعامة والقيادة. بكتابه “هكذا تكلم زراديشت”، الشخصية الدينية التي عاشت بإيران الحالية، ركز نيتشه على مسار هذا الشيخ وتمكنه من تأسيس أقدم ديانة قبل ظهور الكتاب اليهودي المسمى “التناخ” (توراة – نفيئيم – كتوفيم/ ختوفيم). سيراعلى نفس المنهج لهدم المعتقدات الواهية، عرف نيتشه الإنسان المتفوق كونه إله نفسه، يخلق كل القيم والمبادئ بنفسه ولنفسه، ويجدد قدرته على التحكم في مصيره بشكل مستمر مبدعا في تنويع وتوسيع معاني العدالة والحب والصدق والعلم من أجل تراكم المنافع المادية وخدمة الصالح العام (على كل إنسان أن يساهم في صناعة حقائق عصره، والحقائق تتغير بتغير العصور).
وفي الختام، نستحضر فقرة معبرة للغاية من كتاب “بين الفلسفة والتاريخ” للدكتور عبد الله العروي: “لم أفهم شيئا من نيتشه لأنني قرأته مبكرا جدا، ولكن على الخصوص لأنني كنت ضحية منظومة تربوية سيئة التصميم، غير ملائمة، وفي حاجة أن يعاد فيها النظر رأسا على عقب” (المدارس الثانوية الفرنسية-الإسلامية). إنه الاستحضار الذي قادني للعودة إلى نص كارل ياسبرز كمحفز معرفي للتقدم في مسار ترسيخ مقومات الإنسان الكامل مغربيا بتقوية ميولاته للتفلسف بأدواته المعروفة: الدهشة باعتبارها الأصل والشك الذي يثور على المعرفة ويدفع إلى بلوغ اليقين وسؤال الوعي بالذات التي يوصلنا إلى حقيقة الأشياء”.
الحسين بوخرطة مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري