كان رولان بارت قد حاول أن يحصر المسوّغات التي تدفعه إلى الكتابة، فعرضها جميعها من غير أن يشغل باله بما قد يكون بينها من تناقض، وجعلها تتنوع بين الدوافع الذاتية والإكراهات الموضوعية. وهكذا، كشف أنه يكتب إما إشباعاً للذة، وتحقيقاً ل »موهبة«، ونيلاً لاعتراف أو »عناية«، وإرضاءً لأصدقاء أو نكايةً بأعداء، أو أنه يكتب لما في الكتابة من قوة تخلخل الكلام وتهز سلطة المعاني، وتحدث الفروق والشروخ في المنظومتين المادية والرمزية للمجتمع.تصدر الكتابة إذاً، عن دوافع ذاتية وعوامل شخصية، إلا أنها قد تجد مبرراتها في المجتمع بكامله، فتمتد في مؤسساته ومحدداته المادية والمعنوية.
ليس من الضروري بطبيعة الحال أن تعمل كل هذه المسوّغات مجتمعة، فقد تكون الكتابة استجابة لإحداها، أو للبعض منها دون الآخر. كأن تكون مجرد استجابة لهوى شخصي، أو تكون عملاً نضالياً »بإيعاز أيديولوجية متسترة، وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستدامة« على حد قول بارت نفسه. إلا أن تنوّع هذه العوامل، وتأرجحها بين الذاتي والموضوعي، يجعل الكتابة دوماً أمراً ضرورياً مرغوباً فيه، بل يجعلها هي نفسها تحقيقاً للذات، وتفاعلاً مع الواقع بكل أبعاده المادية والرمزية.
وعلى رغم ذلك فقد يحصل أن تشل »قوةُ الأشياء« »قوةَ الكلمات«، فتتعطل كل هذه المسوغات، ولا يعود أمام الكاتب ما من شأنه أن يدفعه نحو الكتابة، بل إنه لا يعود يرى في ما يقوم إلا نوعاً من الهروب من الواقع الفعلي، وربما خيانته.
صحيح أن البعض قد يصرّ، حتى في هذه الحال، على ممارسة الكتابة، إلا أننا نلحظ أن إصراره على ألا يهرب بعيداً، وحرصه »كي لا يخون الواقع الفعلي«، يُجبرانه على الالتصاق المفرط بهذا الواقع، فتتحول الكتابة عنده من قدرة على الخلخلة وإحداث الشروخ إلى عمل »أمين« ينشد إلى ما يجري، وينصاع ل »قوة الأشياء«.
لعل هذه هي الحال التي أصبح يسمح بها الراهن العربي وما يعجّ به من عرقلة للتطور وتدمير للمؤسسات، وتراجع في المكتسبات، والتي تجعل الكاتب لا يرى أي جدوى في ما يقوم به، بل ربما تدفعه إلى أن يعتقد أن في كل عمل فكري، رمزي أو تجريدي، نوعاً من البذخ الثقافي والابتعاد عن مجريات الأمور. وحينئذ لا يعود أمامه إلا الاختيار الصعب بين أن يستسلم لبادئ الرأي وينصاع للوصف التقريري، أو يركن إلى الصمت ويستسلم للشعور بالخجل من الكتابة.