المواطنة في سياقها العام برأيي مفهوم يحمل دلالاته الاجتماعيّة قبل أن يحمل دلالاته السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة, ففي دلالاته الاجتماعيّة, هو دعوة إلى الانتقال بالإنسان من حالة ضياعه وغربته واستلابه في مجتمع أو دولة التخلف والتفاوت والتمايز الطبقي والعرقي والديني بكل أشكاله وتجلياته, إلى مجتمع أو دولة التقدم والحريّة والعدالة والمساوة وحق الاختلاف والمشاركة في بنية الدولة والجمتع. وعند تحقيق هذه الدعوة على أرض الواقع, فهذا يعني نقل الإنسان من حالة (الرعيّة) إلى حالة (المواطنة), أي إلى الحالة التي ستؤدي في المحصلة إلى فسح المجال واسعاً أمام الجميع لتحقيق العدالة في الحياة الاقتصاديّة والرفاه والتعليم, وكذلك المساواة أمام القانون, وحق الانتخاب والترشيح والوصول إلى مناصب الدولة والمشاركة في القرار السياسي وبناء الحياة السياسيّة للبلد, مثلما يعني أيضا, تحقيق المساواة بين الجنسين (الذكر والأنثى), والحد من سلطة المجتمع الذكوري, إضافة إلى تحقيق عدالة إنتاج واستهلاك الثقافة والمعرفة للجميع. هذا ونحب أن نؤكد هنا على مسألة في غاية الأهميّة من الناحية المعرفيّة والإنسانيّة معاً, وهي, أن تحقيق حالة المواطنة, أي تخليص الإنسان من حالات اغترابه وضياعه واستلابه, لا تنال من وقع عليه فعل الاغتراب والاستلاب والضياع فحسب, بل تنال أيضاً من فرض حالات الاغتراب والاستلاب والقهر على الآخرين بفعل امتلاكه سلطة القهر والاستبداد في حال اقتناعه بضرورة التنازل عن هذه السلطة. وفي حال تحقق مثل هذه الصيغة من المواطنة, نكون في الحقيقة قد وصلنا إلى مجتمع الدول المدنيّة, وهو المجتمع الذي لم يتحقق بعد رغم كل التحولات التاريخيّة التي مرت بها المجتمعات البشريّة, والنظريات التي طرحت لتحقيق هذا المجتمع.
أمام هذه المعطيات النظريّة المتعلقة بمفهوم المواطنة, هناك مجموعة من الأسئلة المشروعة تطرح نفسها علينا وهي : هل الدعوة إلى مجتمع (المواطنة) -مجتمع الدولة المدينّة – هي دعوة مشروعة أو عقلانيّة في وقتنا الراهن؟. هل شعارات المواطنة التي جئنا عليها أعلاه, أو ما نستطيع تسميته مضامين المواطنة, هي شعارات أو مضامين تتحقق بالإرادة الطبية؟, أم هي فعل مقاومة مفتوح في كل دلالاته؟. وهل مهام المقاومة وأساليب تحقيقها إرادويّة, أم هي مهام تتطلب فعل مقاومة, يضعها الإنسان المقاوم وفقاً لظروفه الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم بحركته ونشاطه والمهام التي يضعها لنفسه؟. أي هل مهام المقاومة توضع وفقاً لتصورات ذاتيّة, أم هي مهام تحدد طبيعتها ودرجتها ونوعها وأساليب تحقيقها معطيات الواقع الماديّة والفكريّة؟, وذلك انطلاقا من مقولة (أن الناس يضعون لأنفسهم المهام التي يستطيعون إنجازها فقط, أو التي ساعدت الظروف على تحقيق إنجازها).
إن الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة باعتقادي ستحدد لنا النتيجة التي نرمي إليها من طرحنا لموضوعة المواطنة. لذلك هذا ما يدفعنا للقول: إن أي دارس لطبيعة تكوّن وتطور المجتمعات البشريّة سيجد أن التطور الذي يصيب المجتمعات تتحكم به جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة, وهذه الظروف لا تفرخ بشكل مجرد, بل هي نتاج الواقع ذاته وآليّة عمله, دون أن نغفل مسألة أساسيّة في هذا الاتجاه وهي أن الظروف الذاتية, وبخاصة الحوامل الاجتماعيّة, هي في طبيعتها حريّة وضرورة معاً, وبالتالي فإن الحامل الاجتماعي محكوم بضرورة الواقع أولاً, ثم بالضرورة الكامنة فيه هو ذاته أيضاً, من حيث مهاراته وقابلياته واستعداداته النفسية والفسيولوجية, ودرجة وعيه لذاته وللآخرين ودرجة وطبيعة ثقافته, وللمهام المناطة به .. الخ.
إذن, ما هو مطروح للتغير في هذا الواقع محكوم بالضرورة بمعطيات الواقع, وأن كل الشعارات والمهام التي تُطرح من أجل تغيير الواقع غالباً ما تعمل على إنتاجها وتحديد مسارها وأساليب عملها الظروف التاريخيّة المعيشة. وهذا يذكرني بمقولة عقلانيّة للمفكر النهضوي “رئيف الخوري” يتكلم فيها عن أفكار مفكري الثورة البرجوازيّة في فرنسا التي أدت إلى كومونة باريس حيث يقول بما معناه: لم تكن أفكار فولتير مونتسكيو وروسو وهلفسيوس وغيرهم, هي التي حركت الثورة البرجوازيّة, بل كانت أفكار هؤلاء هي نتاج لهذه الثورة. ولكن هذا القول لا يحجب الحقيقة التي تقول إن أفكار هؤلاء استطاعت فيما بعد أن تلعب دوراً هاماً في التأثير على تفكير النخب المثقفة لشعوب العالم وما لعبته هذه النخب من تأثير على حياة شعوبها, ومنها الشعب العربي منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر مع الطهطاوي, وخير الدين التونسي وإبراهيم اليازجي, وبطرس البستاني, وفرح أنطون, ومحمد عبده, والكواكبي, والأفغاني, وأديب اسحق وغيرهم الكثير.
على العموم نستطيع القول: إن مسألة طرح مشروع المواطنة هي مسألة نسبية في تطبيقاتها أولاً, وهي تدخل في نطاق التغيرات الكبيرة التي تصيب حياة الشعوب ثانياً, وهي تأتي ثالثاً, في مرحلة لاحقة لسيادة المجتمع المدني, وتحقق الدولة البرجوازيّة, لذلك نجد أن الإرهاصات الأوليّة لدولة المواطنة, (الدولة المدنيّة), راحت تطرح نفسها مع بدء تشكل الطبقة الرأسماليّة, التي أخذت تطمح إلى السلطة أو المشاركة فيها, وإلى التخفيف من حدّة السلطة الاستبداديّة لدولة الملك والكنيسة والنبلاء. وهذا ما عبر عنه مفكرو الطبقة البرجوازية والمدافعون عن مصالحها آنذاك أمثال, توماس هوبس (1588- 1679) الذي راح يدعو إلى إقامة دولة المواطنة (الدولة المدنيّة) بما يتفق وطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة آنذاك, ووفقاً لقوة سلطة الدولة ما قبل الرأسماليّة, مؤكداً على دور السلطة (الملكيّة) المطلقة التي يجب أن تكون بيد الدولة التي لا حدود لسلطتها, كونها المسؤولة عن حقوق الأفراد ورعاية مصالحهم والدفاع عنها, والأفراد في مثل هذه الدولة كلهم رعايا في خدمة القانون المدني. يقول هوبس: ( إن السلطان الحاكم غير مقيد بشيء, وهو الذي يضع القوانين ويعدلها حسب مشيئته) .
أما جون لوك (1632 – 1704) الذي جاء بعد “هوبس” بمسيرة نصف قرن تقريباً من التحولات باتجاه النظام الرأسمالي, فقد كان أكثر جرأة من هوبس, بل وعلى النقيض منه في حدّة وعمق أطروحاته تجاه دولة المواطنة, فدولة المواطنة, أو (الدولة المدنيّة) عنده تقوم على الحريّة لا على الطاعة العمياء لسلطة الدولة, وهو يرى انه بموجب العقد الاجتماعي بين الأفراد والدولة يتم احترام سلطة الدولة والقانون طالما أن الدولة تقوم بإشباع حقوق الأفراد وتنفيذ العدالة واستقرار وأمان المجتمع, وفي حال فقدان الدولة القدرة على تأمين هذه الحقوق, فمن حق الأفراد الدفاع عن حقوقهم. أما السلطة عند لوك فتنبع من البرلمان وليس من الملك, هذا وقد دافع لوك عن الحرية الفرديّة والتربية والتسامح والملكيّة الخاصة التي لاتتعارض مع سلطة الدولة.
أما جان جاك روسو , (1712- 1778 ), الذي جاء أيضاً بعد “لوك” بمسيرة نصف قرن آخر من التحولات ذاتها, نراه يقدم مشروعاً لدولة المواطنة (المدنيّة) يقوم على أساس الإرادة الشعبيّة العامة, مبيناً في ذلك, أن العقد الاجتماعي هو العقد الذي يكون بين طرفين وليس من حق طرف واحد أن يملي شروطه كما يريد على الآخر, ومن هنا يتحد الفرد عند روسو بالمجموع وبإرادته, مكوناً مع الكل إرادة جمعيّة لتحقيق المصالح المشتركة.
هذا دون أن نغفل الكثير من النظريات الأخرى التي طرحت مع قيام النظام البرجوازي في أوربة, وكانت تدعوا إلى دولة المواطنة لتحقق المساواة والعدالة والحرية الفرديّة وحق التملك والاختلاف بين الموطنين, ويأتي في مقدمتها النظرية الليبراليّة الكلاسيكيّة التي قامت على تحطيم أسس الدولة الاستبداديّة بكل سلطاتها التقليديّة القائمة على الملك والنبلاء ورجال الدين, والدعوة لمشروع الدولة الديمقراطيّة الدستوريّة القائمة على البرلمانات المنتخبة من الشعب, ولكن دون النظر إلى البنية الطبقيّة لهذه المجتمعات والدور الذي يلعبه الصراع الطبقي في تحديد معالم المجالس النيابيّة لهذه المجتمعات وطبيعية القوانين والتشريعات التي ستسنها أو تشرع لها. وهذه المسألة بالذات – أي مسألة النظر إلى طبيعة الصراع الطبقي داخل المجتمع – جاءت النظريّة الماركسيّة فيما بعد لتأسس عليها نظريّة الدولة المدنيّة (المواطنة) التي تقول بأن مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطية والعكس صحيح.
مع انتشار أفكار الحريّة والعدالة والمساواة بين شعوب العالم, ومع ما تم من تحولات تاريخيّة هامة في حياة الشعوب, راح ينعكس بالضرورة على طبيعة عمل الدولة ذاتها, التي راحت وبخاصة في دول العالم الثالث, تأخذ في حساباتها طبيعة أفكار المواطنة وأهميتها بالنسبة لمستقبل الطبقة الحاكمة لهذه الدولة نفسها. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم القائم برأيي, وشكل الدولة ذاتها, وطبيعة حاملها الاجتماعي, فإن قيم المواطنة أصبحت من المهام الأساسيّة التي تفرض نفسها على السياسات الداخليّة لحكومات هذه الدول, لاسيما بعد التحولات التي تمت في مضمار النظام العالمي الجديد, حيث فرضت هذه التحولات وعياً لدى المواطن بمواطنتيه أولاً, والسعي لتحقيق هذه المواطنة عبر وسائل عدة, يأتي في مقدمتها تشكل الكثير من الأحزاب السياسيّة, ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. مثلما فرضت على الدولة ذاتها أن تقدم تنازلات تجاه فكرة المواطنة من الناحية العمليّة وبخاصة على المستوى الدستوري.
إن قيم الموطنة, أصبح من الواجب على الدولة أولا, ومن ثم على مؤسسات المجتمع المدني, والأحزاب السياسيّة ثانياً, ترسيخها عمليّاً وفكريّاً لدى الفرد والمجتمع, ويأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور, وبالحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الطبيعيّة منها والمكتسبة للفرد والمجتمع, وبمهام الفرد, ومدى الحريات الممنوحة وأنواعها, وبكيفيّة تشكيل القرارات السياسيّة, وكيفية تنفيذها, وبنمط الحكم السائد, وبنظم الحكم العالميّة, وبشروط التمثيل النيابي, وبكيفيّة المشاركة في الانتخابات, وتشكل المجالس المحليّة والنيابيّة, وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سويّة المواطنة ذاتها, وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقليّة وثقافة الراعي والرعيّة, وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون, هذه الدولة التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها, ستشكل هذه المواطنة الرافعة العمليّة والفكريّة لاستمرار الدولة وقوتها من جهة, والرفع من القيمة الإنسانيّة لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.
كاتب وباحث من سوريّة.
ملاحظة: إن م يتعلق بفكر “توماس هوبس” و”وجون لوك” و”جان جاك روسو” و “ماركس والماركسية).حول قيام الدولة المدنية أو دولة المواطنة. يراجع كتاب ” (تاريخ الأفكار السياسيّة) لجان توشار – جزآن – ترجمة ناجي دراوشة – منشورات وزارة الثقافة السوريّة – دمشق – 1984.