حين جاء رجل السياسة الإنجليزي “اللورد هنري شارل كيث لانزدوون” إلى وزارة الخارجية في بريطانيا سنة 1900 أي مع بداية القرن العشرين، تغيرت سياسة بريطانيا العظمى تغيرا راديكاليا تجاه ما كانت تسميه أدبياتها السياسية ب “الدول الشرقية” الممتدة بالنسبة لحكومة رئيس الوزراء اللورد سالزبوري ومهندسي ديبلوماسيتها حينها من المغرب حتى أفغانستان .
كان شعار “لانزدوون” الذي بقي على رأس الخارجية البريطانية حتى سنة 1906 هو أن البلاد الشرقية تلك تسير بسرعة نحو التفسخ. وأن لندن بالتالي مستعدة لغايات تجارية صناعية وطاقية محضة، أن تقتسم أراضي الشرق تلك وتحولها إلى مناطق نفوذ واسعة بالتنسيق مع كبريات العواصم الغربية (أساسا فرنسا بحزبها الإستعماري الشهير حينها).
نحن هنا بإزاء منطق لاقتسام الغنائم وقصة ما وقع بعد ذلك من اتفاقية “سايكس – بيكو” الشهيرة سنة 1916 معروفة. بل إن خريطة الدول القومية الجديدة في “البلاد الشرقية” (أي بلداننا العربية الإسلامية التي نعرفها اليوم) بعواصمها المتعددة، هي وليدة ذلك المخطط الذي نُسِبَ إلى وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا (جورج بيكو و مارك سايكس).
كانت البداية في ترجمة ذلك القرار السياسي البريطاني (ابتداء من سنة 1900) مرتبطة أولا بمصير المغرب ومصر، كونهما الدولتان الوحيدتان القائمتان فعليا في كل بلاد الشرق تلك (خارج نفوذ السلطة العثمانية) التي كانت تحاول القيام بإصلاحات هيكلية للدولة. وهي إصلاحات عرفت فيما يرتبط بالمغرب ب “الإصلاحات العزيزية” نسبة إلى السلطان مولاي عبد العزيز (1894 – 1908)، بينما عرفت في مصر ب “إصلاحات الخديوي إسماعيل” (1863 – 1879). نسجل أن كليهما قد تمت الإطاحة بهما من العرش. علما أنه بالنسبة ل “الإصلاحات العزيزية” بالمغرب فهي امتداد لمحاولات إصلاحية تصاعدت منذ عهد جده السلطان محمد الرابع أي محمد بن عبد الرحمان سنة 1859، ثم تعززت أكثر في عهد والده السلطان الحسن الأول. وهي جميعها إصلاحات ترجمت هَمًّا لجزء من النخبة المغربية في أواسط وأواخر القرن 19 في إعادة بنينة الدولة بشكل حديث (مشروع بناء مصانع السلاح بفاس ومراكش والرباط. مشروع تحديث الجيش من خلال توظيف ضباط إنجليز وإيطاليين وأتراك وإرسال شباب مغاربة للتكوين العسكري بجبل طارق ولندن وبرلين ومونبلييه. مشروع توحيد نظام الضرائب الذي سمي ب “ضريبة الترتيب”. مشروع إصلاح نظام الجمارك بكل الموانئ المغربية. مشروع إصلاح البريد). فيما باقي الشساعة العربية (عدا الجزائر التي سقطت مناطقها الشمالية المتوسطية باكرا في يد الإستعمار الإستيطاني الفرنسي منذ 1830 وتبعها فرض الحماية الفرنسية على تونس سنة 1881) كانت شكلا هلاميا لولايات (إيالات) تابعة إلى سلطة الباب العالي العثماني.
إننا لو تتبعنا خيط القصة التاريخية تلك النائمةُ في أرشيفات الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية والإسبانية، لوجدنا أن من بين أول الإتفاقات التي وقعت بخصوص مستقبل “بلاد الشرق” الإتفاق السري بين لندن وباريس سنة 1904، الذي حدد عمليا مصير المغرب ومصر والسودان نهائيا 8 سنوات قبل ان يصبح المغرب فعليا محمية فرنسية – إسبانية سنة 1912 وتصبح مصر محمية بريطانية ابتداء من سنة 1914.
بالتالي كان اتفاق “لانزدوون” البريطاني مع وزير خارجية فرنسا آنذاك “ثيوفيل دلكاسي” أول التدشين لاقتسام غنائم الشرق. وكان لافتا أن لندن، الحليف الأول للمغرب منذ زمن السفير المفوض إدوارد دارموند هاي وابنه جون دارموند هاي، في أواسط القرن 19 (قضيا معا في المغرب بشكل متواصل أكثر من 52 سنة كسفراء لبريطانيا) كانت الرابح الأكبر من تلك الصفقة فيما كان يعرف بالسياسة المتوسطية للتاج البريطاني قبل أن يتحول الأمر إلى السياسة الأطلنتية، بعد الحربين العالميتين، التي يجسدها عمليا إلى اليوم الحلف الأطلسي بزعامة واشنطن.
ضربت لندن حينها أربعة عصافير بحجر واحد:
من جهة ربحت مصر والسودان كممر استراتيجي بين آسيا (الهند) والمتوسط وتحكمت عمليا في وسط العالم العربي والإسلامي.
كسبت حليفا أروبيا إسمه إسبانيا، ضعيف ومثخن بفقدانه آخر مستعمراته الأمريكية وهي جزيرة كوبا (1898) ثم آخر مستعمراتها بآسيا في ذات السنة (الفلبين) إثر هزيمتها في البلدين معا أمام القوة الأمريكية الصاعدة بواشنطن. مما جعل مدريد مطيعة لأوامر لندن في سياستها المتوسطية.
ربحت حرية التجارة عبر مضيق جبل طارق من خلال إلزام باريس بجعل منطقة طنجة المغربية منطقة دولية حرة (وإبقاء سيطرتها الفعلية على صخرة جبل طارق)..
أخيرا أنها لم تمنح لفرنسا قط اليد المطلقة في غرب البحر المتوسط من خلال دعمها الفعلي لمنح الضفة المتوسطية للمغرب إلى مدريد. بل وألزمت باريس أن تبقي على الوضعية التجارية للتجار الإنجليز والأمريكيين ومحمييهم في كل موانئ المغرب الأطلسية وأن يكون لأبناكها حصة في كل مشاريع الطرق والسكك الحديدية والفلاحة به (إلى جانب الرأسمال الألماني).
إن ما يثير في هذه الخطاطة هو أن نفس التعبير الغربي الذي أطلقته بريطانيا سنة 1900 الذي يتحدث عن بلاد الشرق من المغرب حتى أفغانستان قد عاد في سنوات بداية الألفية الجديدة (القرن 21) من خلال دراسات جيو – استراتيجية أمريكية، تتحدث عن آلية تسريع التحول السياسي في بلدان الشرق بالشكل الذي يترجم ملامح نظام عربي جديد، من خلال إعادة توزيع متلاحق لمنطق المصالح المرتبطة ببلاد العرب ضمن منظومة المصالح العالمية. بل وأن يكون ذلك متساوقا مع نظام السوق ضمن “السياسة الأطلنتية” للنظام العالمي الجديد الذي تقوده واشنطن فعليا وعمليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنذ مشروع مارشال الضخم لإعادة بناء أروبا (الغربية حينها) وتعزز أكثر منذ سقوط المنظومة الشيوعية بشرق أروبا، ويحكمه اليوم منطق آخر للتنافس الجيو ستراتيجي مع الصين.
إن الدراسات الأمريكية تلك التي نشرت بعض تفاصيلها جريدة “الواشنطن بوسط” منذ سنوات (بداية الألفية) تتحدث بالضبط بذات اللغة القديمة عن إلحاحية تغيير سياسات التعامل مع “الدول الشرقية” بذات التحديد الجغرافي من المغرب حتى أفغانستان. مما يرسخ ذلك التحليل الثابت في الرؤية الإستراتيجية الغربية الذي يرى إلى هذا الإمتداد الجغرافي الذي نشكله كعرب ومسلمين كوحدة جغرافية موحدة. وهي رؤية تتأسس على نتائج دراسات ميدانية، سوسيولوجية وانثربولوجية واستكشافية، ممتدة على أكثر من 170 سنة سمحت بخلق باب معرفية مستقلة في مختلف عواصم دول الحلف الأطلنتي تعرف ب “الدراسات الشرقية” التي هي أبحاثٌ تقوم مرجعا لكل صاحب قرار سياسي في بعده الإستراتيجي بتلك المجموعة الأطلنتية.
المفارقة الكبرى اليوم أن جزء هائلا من ذاكرتنا الجماعية، عربيا وإسلاميا، لا نملك عنها مراجع دامغة بالدليل المادي للبحث الميداني غير تلك التي يوفرها لنا أرشيف وزارات الخارجية ووزارات الحربية ومعاهد البحث الجامعية والمتاحف الوطنية بمختلف العواصم الغربية. وأن أجزاء مفصلية من ذاكرتنا الجماعية نائمة في أرشيفات تلك الوزارات ضمن تقاريرها السرية السابقة وضمن نتائج أبحاثها العلمية وأنها تتطلب منا نفض الغبار عنها حتى نفهم شجرة أنساب تطورنا المجتمعي والفكري والسلوكي خلال ل 150 سنة الماضية حتى لحظة ما يوسم تواصليا ب “الربيع العربي”.
لست في حاجة إلى أن أشير هنا أنني لا أسعى قط إلى تغليط القارئ المفترض لهذه السطور عبر محاولة جره للإقتناع بمنطق التحليل بالمؤامرة. بل إن الغاية على العكس من ذلك تماما هي محاولة شحذ ملكة الإنتباه إلى الحقيقة التاريخية التي تتحدانا جميعا، التي نحن العرب والمسلمون موضوع لها منذ أكثر من قرن من الزمان. وأساسا لفت الإنتباه إلى إلحاحية امتلاك الرؤية الإستراتيجية للوقائع والأحداث التي مهم ومفيد أن تحكم التحليل العربي، حتى نستوعب جميعا تحديات حقل ألغام المصالح العالمية الذي قدرنا أن نخطو فوقه.
إن أمر هذا الوعي الإستراتيجي على قدر ما هو ملح لدى الفرد العربي المواطن، على قدر ما هو أشد إلحاحية عند النخبة العربية وعند كل صاحب قرار سياسي في دنيا هذه الجغرافية الممتدة من المغرب حتى أفغانستان. الذي حقل ألغام المصالح تلك في الأول منه دوما مصادر الطاقة وممرات التجارة.
كان الأمر في نهاية القرن 19 مرتبطا بالفحم والقطن والذهب، ثم صار منذ 75 سنة إلى اليوم متعلقا بالنفط والغاز ويورانيوم الفوسفاط والأدمغة والطاقات المتجددة وأيضا سوق الإستهلاك.
يكفي أن نستحضر أن ثلاث أرباع مصادر الطاقة في العالم توجد بين المغرب وأفغانستان، وأن بها أكبر المعابر الإستراتيجية الحاسمة للتجارة العالمية (مضيق جبل طارق، ممر السويس، رأس المندب، مضيق هرمز، ممر البوسفور). مثلما أن بها تجمعات بشرية منتجة للثروة، لها كل الممكنات لتعزيز الدخل الفردي الذي هو الرافعة لأي مستوى استهلاك مطلوب عالميا، حيث هنا تحضر ممكنات مجتمعات الخليج وتركيا ومصر وبلاد المغرب العربي كوحدات واعدة هامة.
يشاء مكر المصالح الحيوية للغرب المتقدم، السائد، القوي تقنيا وعسكريا، مرة أخرى أن يكون المغرب ورقة مختلفة واعدة. بل وأن يكون النموذج المثالي الذي مطلوب أن يقتدى به في مسلسل الإصلاح والتحول السياسي الديمقراطي التراكمي، في كل خريطة التحول ببلاد الشرق. وهذا أمر يجب النظر إليه كمكسب هائل للمغرب ولمنطقة المغرب الكبير، وليس اعتباطا أن حازت الرباط صفة العضو الخاص منذ سنوات ضمن الحلف الاطلسي من خارج دول الحلف الغربية وأن تكون ثالث دولة ترسم معها واشنطن حوارا استراتيجيا (رباعي الأذرع) بعد الصين والهند.
يحضر هنا أكيد منطق تراكم الدولة وتراكم الشرعية والمشروعية السياسية كتجربة في التدبير العمومي للجماعة البشرية التي اسمها “المغاربة”، يحضر في الميزان وفي صيرورة العلاقات الدولية. لأنه علينا أن لا ننسى أن فكرة الدولة حديثة في بلاد الشرق عدا المغرب وتركيا وإيران (وأنها لا تتعدى قرنين فقط في كل من مصر وتونس).
مثلما أن سؤال “المشروعية السياسية” للحكم ظل مطروحا بقوة في أغلب بلداننا القطرية العربية على امتداد القرن 20، وأنه لربما مع حركية الشارع العربي المديني منذ 2010 قد بدأنا نلج إلى “الشرعية السياسية” الديمقراطية التي مرتكزها المجتمع (رجل الشارع) وليس النخبة فقط (بتعدد تلك النخب سابقا سواء العسكرية أو التجارية أو الدينية). من هنا الرؤية إلى المغرب كمثال بفضل التراكم المتحقق في منظومته المجتمعية، التي التجلي السياسي ملمح فيها فقط من بين ملامح أخرى مرتبطة بالنخب الدينية والتجارية والفكرية والأمنية (بالمعنى الشامل للأمن الذي يحدده ذلك المعنى اليوناني – الروماني لامتلاك الدولة للقوة وتنظيمها لها تحت سلطة القانون). بل إن المشتل المغري بالتأمل من موقعنا المغربي هو ما يحدث عند أشقاءنا الجزائريين حيث ثمة تحولات في الوعي السياسي الإستراتيجي للفرد الجزائري و لبعض النخب الحاكمة، يسعى إلى بلورة منطق جديد للدولة ترجمانا للشرعية السياسية عبر البوابة الاقتصادية، يخشى أن تكون نقطة عطبه في أمرين:
محاولة كبح التحول السياسي للشرعية الديمقراطية بالشارع الجزائري، عبر الرهان فقط على توسيع وتعميم الرخاء الإقتصادي (قرار تخفيض الضرائب كمثال فقط).
ثم السقوط مجددا في وهم القوة الإقليمية المستبد عند جزء مركزي من جيل النخبة الحاكمة، عبر لجم أي شكل للتعاون المادي الفعلي مع جيرانها المغاربيين خاصة المغرب.
من هنا ذلك الإلحاح الأطلنتي (الأمريكي والفرنسي والألماني) على فتح الحدود بين المغرب والجزائر، لتجسير التكامل الشعبي القائم فعليا بين النخب المغربية والجزائرية والتونسية، بما يحقق الأمن السياسي والإقتصادي للمنطقة المغاربية كلها. ولعل البوابة الحاسمة لذلك، كما سبق وكتب في دراسة قيمة له نشرت في بداية الثمانيناث الدكتور فتح الله ولعلو من موقعه كخبير اقتصادي، هي جعل الصحراء نقطة الإرتكاز المغاربية للقفز نحو المستقبل المنشود للتقدم. الصحراء هنا في معناها الشامل الممتد من الداخلة المغربية ونواكشوط الموريتانية حتى الكفرة بليبيا.
إن الخطر الصاعد من منطقة الساحل منذ التسعينات (وأكثر منذ سقوط نظام العقيد معمر القدافي بليبيا) يعتبر درسا استراتيجيا للجميع أن الصحراء ليست خطرا على وحدة المغرب فقط وعلى مصالحه الحيوية في شقها الغربي، بل هي أخطر على الثروة الجزائرية وعلى عمقها الإفريقي في جزئها الممتد صوب دول الساحل عبر بوابة بلاد الطوارق.
إن الجديد ضمن الرؤية الإستراتيجية لتطور الأمور هذا، هو أن دول الحلف الأطلنتي مدركة بشكل حاسم، تأسيسا على منطق دراساتها العلمية التراكمية، أن المعطى الجديد في “بلاد الشرق” هذه هو تحقق تغيير في دور الفرد فيها. فمسلم وعربي نهاية القرن 19 ليس هو عربي ومسلم بداية القرن 21. أي أن العنصر البشري، المديني، قد غير المعادلة عربيا بأن أصبح لرجل الشارع كلمته، وأنه أصبح يطالب بحقه في الخدمات العمومية للمدينة ويفرض كجيل جديد (بالمعنى السياسي وليس العمري) أن يكون سيد قراره وأن يكون شريكا في صناعة مصيره، بما أصبحت توفره له تكنولوجيات التواصل الجديدة.
لهذا السبب فمنذ سقوط جدار برلين ومنذ إعادة ترتيب توجيه مصادر الطاقة بعد حروب الخليج المتلاحقة، أصبحت الطريق واضحة صوب دعم تحويل مؤسسات دول الشرق إلى مؤسسات متصالحة مع شعوبها، قوية بالشرعية الإنتخابية، منظمة بدساتير للدولة المدنية الحديثة، المنتصرة للقيم الكونية. هل لنا أن نُذكِّرَ مرة أخرى بالتطورات المتراكمة بالمغرب (دائما كمثال للدراسة) منذ سنة 1994 سنة العفو العام السياسي وبداية التجاوب مع دفتر التحملات العالمية الجديدة لما بعد سقوط جدار برلين ؟.. أليس يكمن في ذلك منطق للدولة يميز التجربة المغربية؟.
أليست قرارات الملك الراحل الحسن الثاني للإنفتاح السياسي صوب المجتمع (بأحزابه ونقاباته وجمعياته المدنية والحقوقية) عنوانا لمنطق الدولة ذاك الذي تواصل وتعزز أكثر منذ 1999 مع بداية العهد الجديد للملك محمد السادس. وأن منطق التدافع والتجريب الذي أطره ذات منطق الدولة بنخبها المتعددة المرجعيات والمصالح هو الذي أوصل إلى خطاب 9 مارس 2011 ودستور فاتح يوليوز 2011؟. إن هذا التراكم في الفعل السياسي والمجتمعي للمغاربة (دولة ونخبا ومجتمع) هو الذي يجعل الرهان على المغرب كدولة ضمن منطق التحول في “بلاد الشرق”، يكتسب قوته الحاسمة عند عواصم الحلف الأطلنتي.
ذلك أن دعم تحويل مؤسسات “البلاد الشرقية” إلى مؤسسات متصالحة مع شعوبها العربية الإسلامية، ضمن الرؤية الإستراتيجية للدول الغربية الأطلنتية (ما يحدث مثلا بالعربية السعودية هام جدا في هذا الباب)، هو الضمانة الحاسمة في تحليلها لاستمرار تحقق أمور مركزية ثلاث تخدم نظام السوق العالمي. وهي:
استقرار سياسي وأمني في منطقة استراتيجية بالعالم من قيمة بلاد الشرق من المغرب حتى أفغانستان (مصادر حيوية للطاقة ومعابر حيوية للتجارة العالمية).
سوق استهلاكية تنافسية واعدة لها إمكانيات تحقيق مستوى مرتفع لدخل الفرد السنوي بذات المستوى المتحقق في كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند.
عدالة مستقلة ضامنة لحقوق الرأسمال والتجارة (أليس هذا ما ظل دوما يؤرق صاحب القرار السياسي الغربي ببلداننا العربية منذ القرن 19؟).
إن في هذا كله إعادة نظر كاملة للسياسة المتوسطية والشرق أوسطية لدول الحلف الأطلسي.
إن درس التاريخ الذي للأسف لا توليه نخبنا كثير اهتمام، هو أن منطق تنظيم المصالح لدى الشعوب الغربية (في الجزء الخاص بنا من العالم) هو منطق مضبوط، فيه تراكم للمعلومات وتحليل لها بعقلانية، في لندن وباريس وواشنطن وبرلين، سواء على عهد الوزير البريطاني “لانزدوون” أو الوزير الفرنسي “دلكاسي” سنة 1904 أو على عهد القيادات الأمريكية والأروبية الأمريكية في 2023. وحين نذكر بذلك فلأننا لا نريد أن نكون ممن قال فيهم الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف: “من يقرأ الماضي بطريقة خاطئة، سوف يرى الحاضر والمستقبل بطريقة خاطئة أيضا.. ومن الغباء أن يدفع الإنسان ثمن الخطأ الواحد مرتين”.
العربي.. مفهوم الفرد وإشكالية البداوة
ننتهي دوما في تحليل الواقع التاريخي والحقيقة السوسيولوجية للعربي والمسلم إلى باب التفكير في سؤال الفرد (بالمعنى البورجوازي الذي أنتجته التجربة الحضارية الغربية منذ القرن 17 المتأسس على منظومة جديدة لتنظيم الخدمات، بلورت مفهوم “نظام المدينة”). لأنه مرة أخرى نحن ملزمون أن نفكر في منجز اللحظة العربية الإسلامية كلحظة للتحول التاريخي، من خلال تأمل سؤال معرفي مفروض أنه يشغل بال العربي المسلم أو يجب أن تحوله العديد من الروافد التواصلية والفكرية إلى أن يصبح مما يشغل بال المواطنين العرب والمسلمين. ذلك السؤال الذي يمكن أن نصوغه إجرائيا كالآتي:
هل يجب أن نفكر كعرب مسلمين في ذواتنا انطلاقا من واقعنا ومن بنية عقلنا العربي، أم يجب أن نكتفي ونستكين إلى خدر التفكير في ذواتنا من خلال ما يفكر الآخرون به فينا؟..
بمعنى أوضح:
هل يجب أن نفكر في ذواتنا بأنفسنا أم يكفينا أن ننجر إلى بنية وآلية تحليل وتفكير الآخر حولنا؟..
بصيغة فلسفة تاريخ الأفكار:
هل نحن في حاجة إلى عصر تنوير عربي إسلامي جديد، أم إن الثورة الفكرية التنويرية الأروبية المنجزة والقارئة لنا اليوم بمرجعياتها المعرفية الخاصة كافية، ولسنا في حاجة سوى إلى محاولة إسقاط خلاصاتها على واقعنا؟
الجواب، المنطقي الذي أقتنع به مثل كثيرين هو: لا هذا ولا ذاك.. بل هما معا.
أي النجاح في بلورة نظام معرفة عربي جديد يصالح بينهما معا. لأنه في مكان ما فإن مما يضعف قراءة الأروبيين لواقعنا أنها قراءة تصدر أحكاما إطلاقية تكاد تكون تعميمية تكتفي في الغالب الأعم بالتعامل مع النتائج وليس مع الأسباب.. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ما ينتجه هذا التوجه من تأويل حول سؤال الهوية عندنا الذي يحصرونه في الشق الديني. والحال أن إشكال العربي المسلم اليوم هو إشكال حقوقي في الأبعاد التنموية لمعنى حقوق الإنسان التي هي أبعاد اقتصادية وأمنية ولغوية وثقافية.. فالعربي في حاجة إلى أسباب الحق في التقدم التي ستعلي من آدميته وتحقق كرامته كإنسان وهذا لا يتعارض قط وهويته الحضارية الدينية.
إن تمثل تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي وبنية إنتاج المعرفة كما بلورها المفكر الفرنسي ميشال فوكو جد مفيد في تفكيك بنية واقعنا العربي أكثر من ذي قبل. بالتعدد الثقافي والإجتماعي للعرب. لأن تجربة المجتمعات الخليجية ليست هي تجربة مجتمعات بلاد الشام وليست هي تجربة مجتمعات وادي النيل (سودانا ومصر) وليست هي تجربة بلاد المغارب (ضمنها التجربة المجتمعية الخاصة للمغرب الأقصى الذي راكمت جماعته البشرية منذ قرون، تجربة خاصة لمعنى الدولة، ولمعنى إنتاج آليات تدبير عمومية، وبلورت نخبا سياسية وعسكرية وتجارية شكلت هوية مستقلة خاصة للمغربي).
إن الإختلاف بين هذه التجارب المجتمعية العربية آت من التراكم المتحقق في كل واحدة منها تأسيسا على شرطها التاريخي (نظرية العروي) وأيضا من بنية إنتاج المعرفة سلوكيا وتربويا الخاص بكل واحدة منها على حدة (تحليل فوكو). إذ إن ما تنتجه ثقافة الترحال واقتصاد الندرة في الماء والزراعة مثلا، ليس هو ما تنتجه ثقافة الإستقرار واقتصاد الوفرة. (2)
لنأخذ مثالا واحدا دالا ومركزيا في هذا الباب هو العلاقة بالجسد عند العربي. لأن الرؤية للجسد أمر مركزي في إنتاج العربي لقيمه السلوكية. والإشكال الأكبر الذي يطرحه سؤال الجسد عند المسلم كامن في التوزع بين حلم اعتبار الجسد ملكية خاصة، حرة، وبين اعتباره وديعة وأمانة فقط.
إننا هنا بإزاء رؤيتين للحياة وبإزاء فلسفتين للمعرفة والسلوك تزوبع وتدوخ العربي المسلم منذ قرن ونصف من الزمان. ذلك أن الزمن التاريخي للتطور البشري قد منح للفرد منذ عصر التنوير الأروبي أن يتعامل مع جسده بحرية كملكية خاصة، سواء على المستوى التشريعي الحقوقي والقانوني، أو ثقافيا وسلوكيا من خلال شكل البروز العمومي كترجمة لتحقيق المتعة في الحياة (الأكل/ الأثاث/ المسكن/ السفر/ المتع الفنية/ الحلاقة وتقنيات التجميل للمرأة والرجل معا/ الرياضة/ الجنس… إلخ). وأن الحق في امتلاك الجسد يؤطره النظام الحديث للمدينة المبني على منطق الحق والواجب، الذي يؤطره سمو سلطة القانون، الحامي للفرد كوحدة حاسمة في بنية الإنتاج والإستهلاك، ضمن منطق نظام السوق..
مشكلتنا ربما كأفراد عرب (أبناء لزمننا العالمي بالإكراه)هي في عدم نقد التعايش مع ذلك الوعي الحضاري الآخر، المتكامل، الذي يرسخ في هويتنا المعرفية أن الجسد هو مجرد وديعة، نحن ملزمون بصيانتها.
من هنا ذلك الحضور الطاغي في نقاشاتنا العمومية لسؤال اللباس والأكل والمشرب والسلوك العمومي وطرائق التعبير الفنية.. إذ في كلها يحضر سؤال النظيف منها من غير النظيف.. المثال من غير المثال.. الواجب من غير الواجب..
لنعد إلى درس التاريخ..
إن السبيل في ما أتصور للإفلات من الوقوع في حيرة أي طريق نتبع (هل إنتاج عصر تنوير عربي إسلامي جديد أم الإكتفاء بالتنوير الأروبي)، هو دراسة خلاصات تجربة مجتمعية مماثلة لنا عاشت ذات قلق السؤال الذي يأخذ برقابنا كمسلمين عرب منذ قرن ونصف القرن، هي التجربة اليابانية. التجربة التي انتصرت من خلال مشروع الإمبراطور “ميجي” التاريخي، عبر نظام تربوي تعليمي تنويري وعقلاني، عمل على المزاوجة بين نظام السوق العالمية وبين الهوية الثقافية السلوكية التقليدية للفرد الياباني. أن ذلك قد تم من خلال نظام تحديث مديني صناعي انتصر للتقنية والتنظيم والمصلحة القومية العليا، المتصالحة مع اللحظة التاريخية للبشرية. مثلما عمل على إعادة مصالحة التقاليد مع شرط الحداثة فأنتجت تلك التجربة حداتثها الخاصة، غير المتضادة مع الحداثة الغربية السائدة الغالبة والمهيمنة. فتحقق تحول حضاري للإنسية اليابانية التي بقيت بوذية روحا ومبنى ثقافيا وقيما إنسانية، لكنها حديثة، مدينية، كونية، منتصرة لحرية تملك الجسد كممارسة مسؤولة للحياة.
إن التحدي الفكري الذي تفرضه تطورات الواقع العربي كامن في الحاجة إلى إنتاج “نظرية معرفة عربية إسلامية” تُصالحُ نظام السوق العالمي مع النظام المعرفي الذي ينتجه السلوك المؤطر للفرد العربي المسلم، كما يتحقق أقله من خلال ثلاث تجارب واضحة المعالم:
التجربة الخليجية، الليبرالية اقتصاديا، المحافظة جدا ثقافيا، غير الديمقراطية سياسيا.
التجربة المصرية المنتقلة من نظام الحزب الوحيد إلى نظام التعدد السياسي.
التجربة المغربية المراكمة لتجربة التعددية الحزبية والنقابية ولتجربة التوافق السياسي والإنتقال الديمقراطي السلمي التراكمي.
واضعين نصب أعيننا أن الرهان الأكبر المساهمة عبر ذلك (أي عبر إنتاج نظرية معرفة خاصة بنا) في أنسنة نظام السوق العالمي أكثر ضمن أدوار مجتمعات الجنوب، المؤطرة ثقافيا من خلال بروز أقطاب عالمية جديدة لأول مرة منذ 4 قرون من خارج “المركزية الغربية”، كلها من دول الجنوب في مقدمتها الصين، الهند، كوريا الجنوبية والبرازيل.
بهذا وبهذا وحده، في ما أتصور، سنكون جزء فاعلا من زمننا، وربما من مستقبلنا.. لكن هل نملك نخبا واعية فعليا بذلك؟.. ذلك هو التحدي وذلك هو السؤال.
جدلية التفاعل بين النخبة والواقع
يفرض مكر التاريخ دوما أحكامه.. هذا واحد من الدروس التي قليلا ما ننتبه إليها في زحمة تلاحق الأحداث وتشعبها بدنيا العرب.. ولعل مما يطرح تحديا على الفكر وعلى المثقف أنه قليلا ما ينتبهان إلى معطى جلي هو أن العربي قلق قلقا وجوديا وبشكل عنيف في أول القرن 21، قرن التكنولوجيات الدقيقة (أو النانو تكنولوجي).
هو قلق وجودي لن نبالغ إذا قلنا إنه غير مسبوق في تاريخنا الممتد، منذ تحقق الدعوة المحمدية التي غيرت قدر العربي بشكل ثوري كامل، حين أخرجته من “القبيلة والعصبية” إلى “الدولة” بالمنطق الحضاري لمعنى الدولة، كناظمة لقيم عمومية تؤطر جماعية بشرية، تفرز منهج حياة سلوكية وتنظيمية، تغني من تراكم المنتوج الحضاري للبشرية.
إن معنى أننا لن نبالغ كامنٌ في أن لحظة القلق الوجودية للعربي الآن تكاد تكون تتويجا لتراكمات محاولات النهوض منذ ما وصف ب “عصر النهضة” في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20.
معنى مكر التاريخ نتلمسه في اليقين الذي بدأ يترسخ عند كل فرد عربي،أن “الثورة” ليست بالضرورة هي إسقاط أنظمة شمولية ورؤوس استبداد وإنهاء أسلوب حكم فردي، بل إن التحدي هو في ما بعد النجاح في ذلك. حينها تبدأ المعركة الكبرى التي يكون موضوعها ذلك السؤال الرهيب:
والآن، أي طريق نتبع؟ وكيف ننتصر على غواية التسابق نحو السلطة والحكم والغنائم؟..
هاهنا في تصوري يكمن مكر التاريخ. بدليل أن ما يعيشه العربي منذ ما وصف ب “ثورة الياسمين” التونسية حتى الفظاعات التي ارتكبت في سوريا وليبيا واليمن والعراق ولبنان والسودان، إنما يعكس ملامح القلق الآخذة بنا من التحول الذي يطال القيم.
إن أبرز تلك القيم الآن قيمُ شكل تنظيم الجماعة البشرية وصناعة القرار السياسي التدبيري. لقائل أن يقول هذا أمر طبيعي في كل لحظة للتحول، كبرى، في تاريخ البشر. لكن في تجربة مثل تجربة أمتنا العربية في ما أتصور فإن التحول السوسيولوجي من مجتمع قروي إلى مجتمع مديني، هو الذي يمنح لمعنى قلق الفرد العربي على منظومة قيمه، معنى خاصا أكثر حدة.
إن العربي اليوم يريد بشكل جارف أن يحوز حق التمتع بخدمات المدينة (أمنا/ تعليما/ صحة/ سكنا/ ترفيها/ وبيئة سليمة…) لكنه في الآن نفسه خائف من الإنسلاخ من منظومة قيم سلوكية تقليدية أطرت وجوده على امتداد عقود إن لم يكن على امتداد قرون.
إن عمق التحول العربي كامن هنا بالضبط، كامن في أن “الثورة” الحقيقية (بالمعنى الذي طرحه إيمانويل كانط في سؤاله: “ما الثورة” و”ما التنوير”، زمن “الثورة الفرنسية” في نهاية القرن 18) كامنة في معنى التحول في سؤال الفرد عربيا..
لأنه كما لو انطلقت أخيرا المعركة الكبرى للجواب عن ذلك السؤال المعرفي والتاريخي الكبير:
كيف نفكر اليوم، في الفرد عربيا وإسلاميا؟ وكيف يفكر هو في نفسه؟.
إن معنى طرح سؤال الفرد هنا هو طرح لسؤال حريته في ذاته كقيمة سامية عليا، وكيف يجب علينا صناعة هذا الفرد تربية وتكوينا ومعنى وجود. هل نريد فردا منتجا، عقلانيا، محاسبا، نقديا ومسالما؟ أم نريد فردا سالبا، غوغائيا، هوائيا وعنيفا؟.
إن قراءة ممحصة لتاريخ أمة العرب منذ الدعوة المحمدية (بصفتها “ثورة تفسيرية لقلق الوجود” غيرت زمانها وأسست للحظتها التاريخية) يسمح لنا بأن نخلص إلى أن ملامح معنى “ثورة اجتماعية” في الوجود الجماعي للمنتمين للثقافة العربية والإسلامية قد بدأ في التبلور (حتى في لحظات نكوصها وعنفها). من خلال ملامح الإنتقال من آلية الوصاية إلى آلية الحرية، كممارسة للمسؤولية مع الذات ومع الجماعة. بل نكاد نجزم أن ما دخلناه كعرب لما نزل فقط عند العتبات فيه وعند أول الطريق.
إن ما سيقطعه العربي في صيرورة التحول هذه طويلٌ حتى يتبلور واضحا (ربما بعد جيل أو جيلين في أفق 2048) الشكل الجديد المتكامل الملامح لمعنى أن تكون فردا عربيا، مسلما، مدينيا، حرا، فكرا وممارسة، في زمن القرن 21 قرن “النانو تكنولوجي”.
علينا الإنتباه هنا عاليا لمعنى اشتداد الخوف على “الهوية” الذي نعايشه عربيا وإسلاميا في محطات عمومية هنا وهناك، من قبيل التداعيات الكبرى القوية التي استتبعت تسريب ملخص لفيلم تافه، بئيس فنيا، وساقط أخلاقيا وحقوقيا، على موقع يوتوب منذ مدة (الفيلم المسيئ لشخص الرسول الكريم). وبدليل أيضا النقاشات الحامية التي صاحبت الوثيقة الدستورية في كل من تونس ومصر وليبيا والعراق والجزائر وغدا قريب في سوريا، الذي يطرح شكل وآلية الحكم، مثلما يطرح سؤال المرجعية.. هل هي مرجعية كونية حقوقية أم مرجعية دينية؟.
إن معنى اشتداد الخوف على الهوية عربيا إنما هو ترجمان لبداية تلمس الجواب التاريخي حول معنى الفرد الذي يريده العربي والمسلم (ذكرا وأنثى) لذاتيهما. وحين نقول “العربي والعربية” فلأن من علامات التحول أن أصبح للمرأة دور في رسم ملامح التغيير عندنا، بل هي موضوعه وعنوانه أيضا.
إن بروز أسئلة قيمية وسلوكية مرتبطة بالمرأة (يحصر بعضها في اللباس كعلامة ثقافية سلوكية) أو مرتبطة باللغة، أو مرتبطة بأشكال التعبير الفنية، أو مرتبطة بأنماط السلوك العمومية، إنما يطرح الدليل على القلق الذي يحدثه التحول في الفرد العربي وجوديا، بسبب انتقاله من شكل تنظيمي فلاحي بدوي تقليداني إلى شكل تنظيمي مديني جديد غير مسبوق.
علينا التسطير أنه شكلٌ مطلوبٌ ومرغوبٌ يفرضه التقدم، لكنه مصاحبٌ بذلك الخوف الطبيعي من الإنسلاخ من الهوية البدوية، الجماعية، التي تكونت وتربت على العصبة والعائلة الممتدة والقبيلة والطائفة، والإنتقال إلى هوية مدينية جديدة، تتشكل بمنطق حاجة التحول المؤسساتي للدولة، التي تصبح (أي الدولة) هي عنوان العصبة الجديدة الأكبر والعائلة الجديدة الأكبر للفرد العربي المواطن، اليوم وغدا.
كم سيدوم هذا الصراع بين العربي وذاته قيميا في لحظة تحوله التاريخية هذه؟.. وهل مضمونٌ أساسا أنه سيكون تحولا حداثيا، أم إنه على العكس من ذلك قد ينتهي تحولا نكوصيا؟.
بمعنى آخر هل سيذهب العربي من الدارالبيضاء حتى بغداد صوب جواب طالبان الأفغاني، المتشدد، المنغلق، الإقصائي بمنطق الوصاية، الذي انتصرت فيه البداوة بقيمها على المدينة، أم صوب دولة المؤسسات الديمقراطية العلمانية كجواب متحقق في تركيا وماليزيا؟..
للتاريخ مكره أكيد وسنرى من سيسود على الآخر، هل قيم البداوة الشمولية، النكوصية، الإنغلاقية، الخائفة، أم قيم التمدن التعددية، المنفتحة، الحرة اقتصاديا؟
إن مكر التاريخ لا يتعب في أن يعلمنا دوما أن “الثورة” ليست مجرد إسقاط أنظمة استبداد، بل إن الثورة تغيير سلوكي مجتمعي شامل.
إن هذا ما يقودنا إلى التوقف عند معطى سوسيولوجي بكامل الخريطة الممتدة ل “البلاد الشرقية” (بالمعنى الذي تحدده الرؤية الإستراتيجية الغربية بخصوصنا منذ سنة 1900 ميلادية) يعكس أزمة في التحول التاريخي المأمول هو معطى غلبة البداوة على التمدن.
كيف تأكل البداوة التمدن ببلاد العرب والمسلمين؟
لنتفق أن المدن بخدماتها، أي بما توفره من أسباب الرفاه لساكنتها.. وأغلب مدننا العربية تحقق إجماعا مثيرا في استقالتها عن توفير الأسباب الواجبة للتمدن (عدا ما يتم تراكمه في التجربة الخليجية خاصة الإماراتية والقطرية التي تستحق دراسة مستقلة أكاديميا، لأنها تقدم ملامح جواب خاصة ومتمايزة قد تكون مادة خصبة لمعنى تجريب التمدن ضمن أفقنا الحضاري العربي والمسلم يكاد يتقاطع في مفاصل معينة منه مع التجربة الصينية والسنغافورية).
علينا الإقرار أن مما لا ننتبه له ربما أن ما يوسم ب “الحراك العربي” هو من نتائج العطب الذي نغرق فيه كعرب على مستوى تمثل “روح المدينة ” على مستوى خدماتها في الصحة والتعليم والعمران والأمن والشغل والبيئة والمساحات الخضراء والنقل، وكل أسباب الرضى الثقافي والرياضي والترفيهي للفرد المواطن..
يكفي تأمل حال مدننا العربية الكبرى مثل الدارالبيضاء، الجزائر، تونس، القاهرة، بغداد، دمشق، بيروت، الخرطوم وغيرها من باقي كبريات مدن العرب، لنتساءل عن الكيفية التي ندبر بها إعداد التراب واستغلال الأرض وفلسفة تطويع الطبيعة لتكون في خدمة الإنسان المواطن الفرد.
إن مستشفياتنا العمومية في خصومة مع قسم أبوقراط التي لم تعد سوى ثلاجات كبيرة للموت البطئ، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.. نُظُمُنَا التعليمية تنتج أفرادا سالبين، غيبيين، مسطحي التفكير، ليست لهم شخصية مستقلة تتأسس على دربة التحليل والعقل والمحاسبة وتنسيب الحقائق.. أحياؤنا السكنية عبارة عن صناديق إسمنتية ومربعات تُعَلِّبُ الحياة في أعين الناس وتجعلهم يُنتجون عُنفا مركَّباً في كل مجالات التعايش العمومية (مما وجه ضربة قاضية لمفهوم الجيرة والجار وحميميتها).. بل ثمة فشل خطير فيما يمكن وصفه ب “احترافية الأمن” بالشكل الذي خلق محمياتٍ في جغرافيات الغنى بمدننا العربية وفرَّخَ في مقابلها غيثوهات التطرف والإنحراف في باقي شساعات الفقر المتروكة لقدر منطق الغاب.. دون أن ننسى كارثة ألا تربى العين على الجمال من خلال توسيع هوامش المناطق الخضراء، وألا يجد الفرد ما يُروِّحُ به عن ذاته في مجالات الترفيه العمومية المتعددة من قاعات سينما ومسرح ومسابح عمومية وملاعب رياضية ونواد عائلية أو مهنية أو شبابية..
إن ما كان يوسم ب “الحراك” في مكان ما هو ترجمان لعطب المدينة عندنا كعرب، أي ما تنتجه أزمة “نظام المدينة” من شكل ردود فعل لذواتٍ غاضبة نعم، قلقةٌ أكيد، لكنها بدون أفق معرفي تأطيري وبدون رؤية معرفية تسمحُ ببلورة مشروع مجتمعي يستحق صفة “المشروع المجتمعي للإصلاح والتغيير” كما حدث في تجارب مجتمعية عدة في جغرافيات حضارية أخرى غير عربية وإسلامية. دون أن نغفل هنا معطى سوسيولوجيا هو أننا مجتمعاتٌ انتقلت حديثا (خلال 65 سنة فقط) من مجتمعات بداوة إلى مجتمعات حضرية، وأن أكثر من 60 بالمئة من الساكنة العربية أصبحت مستقرة في المدن. مما يُغيِّرُ بالكامل من دفتر التحملات على مستوى التنمية الذي يجد ترجمته في اتساع حجم المطالب العمومية التي غايتها التمتع بحق الحياة الكريمة التي مفروضٌ أن توفرها خدمات المدينة..
بمعنى من المعاني فإن هذا الذي كان يوسم ب “الحراك العربي” إنما يُنبهنا إلى أننا نعيش أزمةً حضارية في استحقاق معنى المدينة.. بل ويطرح علينا تحدي أن نمتلك فلسفة فن تطويع الطبيعة وإبداع جمالية استغلال الفضاء العمومي والتصالح معه كبشر..
إن باريس هي باريس ولندن هي لندن وواشنطن هي واشنطن وطوكيو هي طوكيو، بما توفره من خدمات عمومية ذات نزوع إنسانية لساكنتها. فهي تصالح الفرد مع الجماعة وتصالح الجماعة مع الجميل من معانٍ في الحياة.. أما مدننا العربية فهي تربي على اليأس والإنغلاق والإقصاء..
أذكر هنا جملة كان طبيب مغربي تطوع للعمل في أفغانستان ضمن منظمة طبية دولية قد قالها لي منذ أكثر من 25 سنة لخصت واقع حال الأفغانيين حيث قال:
” المشكلة هناك هي أن البداوة أكلت المدينة”.
أليس ذلك نفسه ما يحدث في كل الشساعة الممتدة ل “البلاد الشرقية” بالمعنى الذي حدده استراتيجيو الخارجية البريطانية منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20؟. أليس الواقع العيني هو أن البداوة تأكل المدينة عندنا ببلاد العرب وأنها ابنة شرعية للتغول في كافة أبعاده السياسية والتدبيرية والثقافية والتربوية؟. أليس فشلنا الأكبر في أننا لم نحسن أبدا الإستثمار في الإنسان حجر الزاوية الأكبر في كل تمدن.