السياسة بين فن إدارة الاختلاف وجريمة التحريض على الكراهية
لمصطلح «السياسة» تعريفات كثيرة، تختلف باختلاف الرؤى والمدارس الفكرية والعلمية. وقد استخلصت من دراستى ومن تجربتى الشخصية معا أن السياسة هى «علم وفن إدارة الاختلاف». وانطلاقاً من هذا التعريف المبسط يمكن التمييز بين السياسة الجيدة والسياسة الرديئة. فالسياسة تكون جيدة أو رشيدة، من وجهة نظرى، حين تتمكن من إدارة الاختلافات المشروعة بين المواطنين بطريقة تسمح بحشد وتعبئة الموارد المادية والبشرية المتاحة للوصول بالمجتمع إلى ما يتطلع إليه من تقدم وأمن ورفاهية وعدالة، وتكون السياسة رديئة أو غير رشيدة، حين تعمل على تسخير هذه الموارد لخدمة مصالح فئة اجتماعية أو تيار فكرى محدود وتتعمد استبعاد وتهميش الآخرين.
رغم دراستى للسياسة كعلم يقوم على تحليل الوقائع الموضوعية ويحاول قدر الإمكان تنحية العوامل الذاتية والأيديولوجية، فإننى لم أستطع أن أفصل أبداً بين الأخلاق والسياسة أو أقنع نفسى، كما يفعل الكثيرون، بأن الغاية فى السياسة تبرر الوسيلة، ومن هنا ترددى الدائم فى الانخراط فى العمل السياسى المباشر.
لا أظن أننى فى حاجة إلى تذكير القراء الأعزاء بأننى كنت ومازلت شديد الاقتناع بأن مصر لن تستطيع أن تنطلق على طريق التقدم والنهضة إلا إذا نجحت فى تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى يتسع لمشاركة الجميع، بما فيه تيار الإسلام السياسى، دون تهميش أو إقصاء لأحد، وأننى كنت ومازلت شديد الاقتناع بأن أخطر ما يمكن أن تواجهه مصر هو الغرق فى مستنقع الاستقطاب السياسى القائمة حاليا، والتى قد تؤدى إلى تحولها إلى حالة من الكراهية المتبادلة والتحريض على العنف. ومن هذا المنطلق، لم أتردد فى مناقشة مبادرة الدكتور العوا والاجتهاد فى تقديم مقترحات لتطويرها، كما لم أتردد فى مناشدة المرشد العام ومكتب إرشاد الجماعة اتخاذ قرار شجاع بفض الاعتصام طواعية. غير أننى فوجئت عقب مقالتى الأخيرة بسيل من التعليقات، أعترف بأنه أزعجنى. وإن دلت هذه التعليقات على شىء فإنما تدل على أن النخبة تتجه نحو منزلق شديد الخطورة بعد أن كادت تفقد القدرة على التمييز بين الحق فى الاختلاف، وهو أمر مشروع بل مرغوب فيه، وبين شبق التحريض على كراهية الآخر المختلف، وهو مرض شديد الخطورة وقادر على الفتك بأشد المجتمعات تجانساً. وإليكم نماذج من بعض هذه التعليقات:
فى تعليق مطول تحت عنوان «كاتب الجماعة»، يقول صبرى الباجا: «كاتبنا المحترم وهو يستشعر قرب سقوط الجماعة الإرهابية ونهايتها إلى الأبد، يحاول بصفته أستاذاً يمتهن مهنة التدريس إنجاحها بـ(ملحق)، ويقوم فى ذات الوقت بتلقينها الإجابات حتى يتسنى لها الحصول على الحد الأدنى اللازم للنجاح !!! غير أن كاتبنا المحترم وهو يبذل هذه المحاولة، وبافتراض حسن النية الملازم لسيادته منذ توليه حملة الدعاية فى الانتخابات الرئاسية لإرهابى السبعينيات (يقصد تأييدى لعبدالمنعم أبوالفتوح فى الجولة الأولى للانتخابات)، ثم تحوله للترويج ومناصرة مرسى العياط، ومن بعدها ترتيب لقاء فيرمونت، وتوريط عدد من شرفاء الوطن- وبافتراض حسن النية أيضا- بالوقوف مع مرسى العياط، ومن ثم كتابات تحتاج دراستها إلى محللين نفسيين أكثر من محللين سياسيين للكشف عن حالة الحب المرضى الظاهر على سيادته، خاصة بعد الترويج لبضاعة العوا الإخوانى الفاسدة فى مقالات اليومين السابقين، إضافة إلى مقالة اليوم وما بها من ارتضاء لنفسه أن يكون مكان رجل ينعته بالمرشد(!) والسؤال: ما الفرق بين من يسميه كاتبنا المحترم المرشد والسيد نخنوخ الذى كان له تنظيم وأعضاء وأتباع ومريدون ومؤمنون برسالته كما هو الحال فى تنظيم جماعة الإخوان الإرهابية وفيها من عملوا وتعاونوا معه؟! وهل كنت سيدى الكاتب المحترم لتضع نفسك مكان السيد نخنوخ وتقدم له تصورك لإنقاذ تنظيمه، علما بأن نخنوخ لم يستعن فى نشاطه بميليشيات أجنبية، ولم يعاد الدولة المصرية، ولم يكن سادياً كما نراه فى ممارسات الجماعة، التى تنصحها بالانسحاب تكتيكيا لتضميد جراحها والاستعداد للجولة التالية، على حد قولك !!! ثم الادعاء بأن هناك تياراً متطرفاً داخل النظام الحاكم الآن فى مصر، وهو ما لم يجرؤ على قوله أعدى أعداء الوطن، ولكنك قلته بصفتك كاتب الجماعة؟».
نبهتنى إلى هذه التعليقات قارئة، لم يحل اختلافى معها فى الرأى دون إحساس عميق بالاحترام تجاهها، هى السيدة مريم المصرى محمد، التى كتبت تعليقا تقول فيه: «كقارئة تحمل التقدير والاحترام للدكتور نافعة، ومتابعة جيدة لكتاباته على مدار سنوات طويلة، لاحظت خلال الأيام القليلة الماضية انقلاب غالبية القراء عليه.. قلت لنفسى: هل غيّر أفكاره؟ هل أصبح منصفاً للإخوان مما أغضب غالبية القراء المناوئين لهم؟ هل قال اليوم ما يناقض ما قاله طوال السنوات؟.. لا شىء من ذلك حدث، فلماذا يا ترى ينقلبون عليه؟ وكيف يصفه البعض بأنه أصبح (كاتب الجماعة… والمروج لبضاعة العوا الفاسدة ومنتهية الصلاحية سياسيا وأخلاقيا، وهو ما يستوجب من أساتذة القانون أن يدلونا على عقوبة المروج للسلع الفاسدة) (الباجا)، وكأنه ليس أكاديميا وأستاذا فى السياسة، ومهموما بالعمل العام وقضايا مصر طوال حياته، وآخر يصف كتاباته بأنها (يقطر منها سم زعاف)، ثم ينصحه بأن يأخذ (إجازة سنتين أو ثلاثة ويسيب مصر فى حالها) (سلامة)، وكأنه ليس مصريا، ومن حقه أن يتناول قضايا مجتمعه كما يراها من وجهة نظره، وثالث يصف دعاء الختام فى مقاله (دعاء العاجز أو الولايا) (د. حمزة )، وكأن الدعاء لله تعالى له صيغ أو عليه قيود، ورابع يتهمه بالتأخون ويعنون تعليقه بـ(المسطول).. هل أصبحنا نضيق بمن يحاول على استحياء أن يحفظ بلده من شرور الفوضى والاحتراب الداخلى؟ هل نحن شعب يعانى من ازدواج الشخصية، يقول الشىء ونقيضه، أم أننا نقول أى كلام والسلام، ولا مبدأ ولا التزام لنا؟ أم أن كراهية الإخوان قد أعمت أبصار البعض وطمست على قلوبهم؟».
لحسن الحظ أن أصواتاً عاقلة أخرى ردت على هذه التعليقات المتطرفة والبذيئة فى آن معاً. فالأستاذ عاطف المغربى كتب يقول: «معظم قُراء د. نافعة يحاسبونه بالقطعة، فإذا كتب ضد الإخوان وأيَّد خروج الجماهير فى 30 يونيو واعتبرها ثورة شعبية فهو كاتب وطنى عظيم وحكيم، وإذا استشعر الخطر من التطورات اللاحقة وردود الأفعال التى قد تودى بالبلد إلى دائرة من العنف والعنف المضاد وكتب اقتراحات جديدة أو طوَّر من مبادرات مخلصة لإنهاء الأزمة، تُكال له الاتهامات بالأخونة وتخرج له الملفات وفى مقدمتها (اجتماع فيرمونت)، هؤلاء القراء يمثلون الحالة السلبية فى الحياة السياسية التى عمَّت البلاد منذ تولية د. مرسى رئاسة الجمهورية وبدء الاستقطاب، وهى عدم التفرقة بين ثبات المبادئ وتغير المواقف، ويظنون أن تغيير المواقف رجوع عن المبادئ، وهذا خطأ يجب التخلص منه».
وقد اخترت أن أنهى هذا المقال بما كتبه د. أحمد الجيوشى، حين وجه حديثه إلى الغلاة من المتطرفين قائلا: «أرجوكم أن تتنحوا جانباً ولو قليلاً، ففى وقت حل الأزمات لا مكان للمتطرفين، لأنهم هم من صنعوها، وهم بذلك جزء من المشكلة وليسوا أبداً جزءاً من الحل. اللغة المتطرفة العدوانية سواء من هذا الطرف أو ذاك لا يمكن أن تساهم بأى حال من الأحوال فى الخروج من المأزق، وإنما على الجميع أن يفسح المكان والوقت للعقلاء المعتدلين فى لغتهم وتصرفاتهم، فهم وحدهم القادرون على إيجاد حلول لما نحن فيه، هم وحدهم القادرون على البحث عن أى خير، ولو ضئيل، هنا أو هناك والبناء عليه.. فهل يعى المتطرفون ذلك، أم أن على قلوبهم أقفالها؟».