الحاضنة التاريخية والأيديولوجي  للفلسفة الوضعية :

     لقد كان المناخ التاريخي والأيديولوجي الحاضن للفلسفة الوضعيّة, هو مناخ فرنسا القرن لتاسع عشر, وهو القرن الذي سادت فيه الاضطرابات المجتمعيّة والسياسيّة في أعقاب الثورة الفرنسيّة الكبرى. حيث كان للصراع الدائر بين القوى الاجتماعيّة التقليديّة ( النبلاء ورجال الكنسية والملك ), الساعية إلى فرض استمراريّة قوانين استبدادها وتسلطها, وبين القوى الاجتماعيّة (الثوريّة) الجديدة التي أنتجتها التحولات التاريخيّة للثورة الصناعيّة, ممثلة بالطبقة البرجوازيّة والعماليّة, التي كانت تسعى بدورها إلى إعادة بناء المجتمع ( اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً) بصورة جديدة يكون لها فيه دورها الفاعل… أي بناء مجتمع الحريّة والعدالة والمساواة.

     أما على المستوى الفكري / المعرفي, فقد كان لتطور العلوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء, دور هام في دفع بعض المفكرين للتنظير فكريّاً حول مسألة إعادة تفسير العلاقات الاجتماعيّة تفسيراً علميّاً بغية تكملة سلسلة العلوم المكونة للفلسفة (الوضعيّة). فكان الفيلسوف الفرنسي ” أوغست كونت”, على رأس قائمة هؤلاء المفكرين اللذين اشتغلوا على هذا الاتجاه, حيث أعطى للفلسفة صفتها العلميّة, وجعلها تستجيب لشروط التخصص العلمي, وبذلك نالت صفة الفلسفة الوضعيّة . (1)

     اعتبر الفيلسوف الفرنسي ” أوغست كونت” المؤسس الحقيقي للفلسفة الوضعيّة في القرن التاسع عشر, وفلسفته هذه تنطلق بداية من تقسيم الفكر الإنساني عبر مسيرته التاريخيّة إلى ثلاثة أقسام أو مراحل عنونها ” كونت” بـ ( مسار الفلسفة الوضعيّة) وهي:

     1- المرحلة اللاهوتيّة: حيث يفسر فيها الناس حسب اعتقاده الوجود وآليّة عمله بتصرفات ورغبات الكائنات المقدسة.

     2- المرحلة الميتافيزيقيّة: ويفسر فيها الناس الوجود بناءً على معارف ثابتة ومطلقة وتأملية غير مرتبطة بالواقع ومتعالية عليه. فالميتافيزيقيا برأيهم تحمل الكثير من الرؤى والجمل اللا منطقيّة حسب وجهة النظر العلميّة, خاصة وأن الفلسفة المثاليّة حملت الكثير من هذه الجمل أو العبارات مثل : ( إله مطلق القدرة, العدم ينعدم .. الخ). بينما المنطق العلمي يقوم حسب رأيهم على الحقائق والمعطيات أو الظروف المرافقة لها آو المكونة لها, ففي الرياضيات مثلاً 2+2 = 4 . وفي الطبيعة المطر إما أنه يهطل أو لا يهطل, فالتجربة والمعاينة هي التي تثبت ذلك.   

     3- المرحلة الوضعيّة: حيث يستخدم فيه الناس المنهج الوضعي في تفسير الوجود, ويقوم هذا المنهج على الاستقراء والاستنتاج الذين تعتبر الملاحظة منطلقهما الرئيس كما بينا في مثالي مسألة الرياضيات وهطول المطر. هذا ويؤكدون على أن الوقائع الصوريّة بديهيات, لكنها قامت على تجربة وملاحظة طويلتين. 

     يقول كونت هنا: بأنه, عند دراستنا للطبيعة البشريّة يتعين علينا دراستها من خلال علمي الأحياء والاجتماع. كما نادى بضرورة أن يهدف التقدم إلى السلطة الاجتماعيّة, وهي حالة اجتماعيّة ترتكز على العلم, وهو دين الإنسانيّة الجديد.(2) لذي سيحقق للإنسان تحسين حياته المعيشيّة من خلال تطوير علم الطب, والقضاء على الأمراض, وغير ذلك من الحاجات التي ستحوّل حياة الإنسان إلى جنة, تسودها الطمأنينة والرفاه.

     بيد أن ” كونت” يقر بأنه, رغم تقدم العلم في عصرنا, إلا أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الإيمان بالله, أو بالكائن الأعظم. لذلك ينبغي أن لا يغترّ الإنسان كثيراً بنفسه, لأنه حقق كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي في عصر الحداثة. ومن هنا عليه أن يتواضع ويعترف بوجود قيم أخرى في الحياة, وهي قيم متعالية على كل البشر. ولكنه في الوقت ذاته حارب دين العصور الوسطى, دين محاكم التفتيش التي وقفت ضد حريّة الفكر وتطور العلوم, وراحت تدعم وتقف إلى جانب قشور وشكليات الدين على حساب مواقفه الجوهريّة الإنسانيّة الداعمة للعلم والمعرفة, وبالتالي تحقيق سعادة وحريّة الإنسان. (3)

     على العموم لقد نقل ” كونت” المنهج التجريبي من ساحة العلوم الفيزيائيّة إلى الساحة الاجتماعيّة وكل ما تفرزه من ظواهر إنسانيّة, وهنا تكمن إحدى الميزات الأساسيّة للفلسفة الوضعيّة, وهي كونها فلسفة علميّة دقيقة لا تؤمن إلا بالحسابات والمعادلات الرياضيّة والقوانين الفيزيائيّة, كما كان لها الدور الكبير في دراسة علم المنطق الشكلي الأرسطوطاليسي, هذا إضافة لتقديمها خدمة كبيرة لتطور الفلسفة, وذلك بجلبها الاهتمام إلى دراسة اللغة ومهمتها في أداء المعاني والأوجه اللغويّة في  العلم, فأصبحت فلسفة ( تحليل اللغة) أسلوباً للنقد والإيضاح. وساهمت أيضاً مع الفلسفة البراغماتيّة ( النفعيّة) في التأكيد على الصلة بين النظريّة والتطبيق, وفي تطوير تكنيك منطقي لتوضيح الرأي, حيث ضمنت إمكانيّة اختبار الأقوال عبر التجربة والتطبيق واستخدام التعريف والمصطلحات المستندة بدورها على التجربة أيضاً. إن الفلسفة الوضعيّة كما قدمها كونت, هي فلسفة مهووسة باكتشاف القوانين بكل صفاتها ومجالات نشاطها عبر الطبيعة والمجتمع.

الفلسفة الوضعيّة المنطقيّة:

      تعتبر الفلسفة الوضعيّة المنطقيّة امتداداً للفلسفة الوضعيّة (الشكليّة) التي أسسها ” أوغست كونت”. وهي فلسفة ظهرت في القرن العشرين, أسسها ” موريس شليك” عام /1929/, وتبناها عدد من المفكرين والفلاسفة من أبرزهم “رودولف كارتاب”, و”برتراند رسل”.

     حملت هذه الفلسفة أسماءً عدة منها: التجريبيّة العلميّة, التجريبيّة المنطقيّة, حركة وحدة العلم والتجريبيّة الحديثة, الفلسفة التحليليّة.(4).

     إن أبرز ما يطرحه دعاة هذا التيار الوضعي الحديث أو المنطقي, هو التأكيد على أن معرفتنا عن العالم تأتي عن طريق ( التجربة) وحدها, وأن الفلسفة تقوم بالتحليل المنطقي شأنها شأن بقية العلوم, معتمدين في ذلك على المنطق الرياضي المعاصر آنذاك, (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ), حيث ظهر في تلك الفترة ما سمي (بالمنطق الرياضي أو الرمزي). (5).

     يقول ” برتراند رسل : بإمكانية إرجاع كافة المفاهيم الرياضيّة إلى علاقات تقوم بين الأعداد الطبيعيّة, وأن هذه العلاقات ذات طبيعة منطقيّة بحتة. ونتيجة لذلك افترض” راسل” أنه يمكن استنباط الرياضيات كلها من المنطق .

     أمام هذه التصورات ,( فعاليّة المنهج التحليلي المنطقي ), راح “رسل” بعيداً ليقول أيضاً بإمكانية حل المسائل الفلسفيّة, وأن المنطق هو لب الفلسفة. بينما أعلن تلميذه ” فيتجنشتين” أن الفلسفة ليست نظريّة, وإنما هي فعاليّة, وهذه الفعالية تكمن في نقد اللغة, أي التحليل المنطقي لها. فالفلسفة التقليديّة برأيه تقود إلى الاستعمال غير الصحيح للغة, لذلك قال بضرورة وضع لغة كاملة تنص عباراتها إما على أحكام بخصوص الوقائع, ( العلوم التجريبيّة), أو على تحصيل حاصل كما في الرياضيات والمنطق. (6).     

     إن ما يجمع أصحاب التيار الوضعي, هو :

    1 – إيمانهم بأن مهمة الفلسفة هي تحليل لما يقوله العلماء, لا التفكير التأملي الذي ينتهي بالفيلسوف إلى نتائج يصف بها الكون ونتائجه.

    2- ضرورة حذف الميتافيزيقيا من مجال الكلام المشروع, لأن تحليل عباراتها الرئيسيّة تحليلاً منطقيّاً قد بين أن عبارات مثل ( الضرورة – الجوهر – الضمير..الخ) لا معنى لها, وبالتالي لا يمكن وصفها بالصواب .

    3- ضرورة الاتفاق على أن العلاقة بين السبب والمسبب هي علاقة ارتباط في التجربة, لا علاقة ضرورة عقليّة.

    4- ضرورة اعتبار القضايا الرياضيّة وقضايا المنطق الصوري, تحصيل حاصل لا تضيف للعلم الخارجي علماً جديداً. فالقضية الرياضية مثل: 2=2=4, ما هي إلا تكرار لحقيقة واحدة, أو لرمزين مختلفين .

    5- كل شيء لا يخضع للتجربة والتحليل غير مفكر به.

    6- ضرورة التأكيد على أن وظيفة الفلسفة وعملها هو تحليل المعرفة, وبخاصة المتعلقة بالعلم, وأن المنهج المتبع هو تحليل لغة العلم .

نقد الفلسفة الوضعيّة :

     بالرغم من تبني هذه الفلسفة للعلم والتجربة واعتبارهما هما المنطلق الأساس وربما الوحيد عند بعض مفكري هذا التيار في تفسير حركة الواقع بشقيه الطبيعي والاجتماعي, وكذلك هما المنطلق في إعادة بناء المجتمع من جديد بصورة تخدم تطور الإنسان وتحقيق سعادته ورفاه, غير أنها – أي الفلسفة الوضعية – ظلت تدور في نطاق الفلسفات التجريبيّة المثاليّة لعلم الاجتماع البرجوازي, حيث أن دارسة الكثير من الوقائع المحدودة الزمان والمكان, لم تضع في حسبانها استنتاجات عامة تتعلق بالنواحي الرئيسة لقوانين حياة المجتمع, ويأتي على رأسها قوانين الصراع الطبقي, والتناقضات الاجتماعيّة الرئيسة, بل ظلت تدور في نطاق إجراءات خاصة وتكنيك البحث التجريبي الذي يشمل: الملاحظة, المعالجة الإحصائيّة للمواد المجمعة, ووضع المدارج والخطوط البيانيّة . الخ. هذا ويرى الوضعيون أن المفاهيم العامة مثل: ( قانون التطور الاجتماعي, الطبقة, الأمّة, الرأسماليّة, الاشتراكيّة, الفاشيّة, الديمقراطيّة, وغيرها من المفاهيم لا تخضع للاختبار التجريبي, ولا تحس بها الذات بشكل مباشر, لذلك لا يمكنك التثبت من صحتها أو بطلانها, ومن الواجب حسب رأيهم إدخالها في نطاق ما يسمى (المفقودة المعاني).(7)

     إن الفلاسفة الوضعيين لا يأخذون الوقائع بصلاتها العامة, ولا يعملون على إبراز طبيعة حياة المجتمع وسير عملياته العميقة, بل كمجموعة منضدة بشكل آلي, أو مجموعة من الأوضاع المسجلة والمنضدة للمادة المدروسة, لهذا لا يعطي المنهج الوضعي أكثر من وصف, أو تقرير مبسط عن الوقائع والحوادث المنفصلة والمدروسة بالملاحظة بشكل مباشر.

     على العموم إن الفلاسفة الوضعيين يعلنون بأن فلسفتهم ليست ماديّة أو مثاليّة, وإنما هي اتجاه ثالث, لكنها معادية بالضرورة للفلسفة الماديّة التي تقر بالوجود الموضوعي للعالم المادي وانعكاسه في وعي الإنسان. فالوجود الموضوعي عندهم ليس إلا إحساسات ومسألة ظاهرة, وبذلك فإن عملية التحقق لا يمكن أن توجد خارج تجربة الذات, وهذا يقود بالضرورة إلى مواقع الانفراديّة, أو التفسير الذاتي الفردي ( الأنوي أو الواحدي). والواحدية هنا ألغت الكثير من القضايا المنطقيّة القائمة على الملاحظة والتجربة ­­( كالبديهيات) مثل مقولة ( كل إنسان فان), وهذا تناقض في نظريتهم, أو إشكاليّة معرفيّة. (8)

     لقد قال الوضعيون الجدد التجريبيون بـ “حياديّة” الوقائع, وأن تصنيفها يأتي فيزيائيّاً أو نفسيّاً .. الخ , كما أنه لم يأت وصفاً للوقائع الملموسة, وإنما إنشاءً منطقيّاً لها.  

كاتب وباحث من سوريّة

الهوامش:

1- د. ابراهيم علي جمول. الوضعية والوضعية المنطقية. موقع نيا الرأي. تاريخ النشر . /19/5/2008 

2- الفلسفة الوضعية . الموسعة المعرفية الشاملة.

3- هشام صالح . الفلسفة الوضعية ومفهوم التقدم . موقع أوان. تاريخ النشر . 5/52007

4- للاستزادة في معرفة شخصيات هذا التيار يراجع موقع المعرفة – الوضعية المنطقية –  

5- المرجع نفسه.

6- حول آراء برتراند رسل راجع موقع: https://ar.cultureoeuvre.com/10825603-bertrand-russell-philosophy.

7–  راجع . س.ي. بوفوف. نقد علم الاجتماع البرجوازي المعاصر. دمشق دار دمشق. ط2 1974.

8– مجموعة من الكتاب السوفيت, موجز تاريخ الفلسفة, طبعة ثالثة, دار الفكر , دمشق , 1979

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…