المفكر المتتبع لنبض الحداثة بالمغرب بتفاصيلها التاريخية وتطورها الزمني هو الدكتور والأستاذ عبد الله العروي. الوضعية الخاصة التي عاشها الكاتب بالمغرب، والتي جسدها في كتابه “الفلسفة والتاريخ”، حولته إلى مدرسة ومصدر إلهام وطنيا وإقليميا ودوليا. تراكمات مسار حياته جعلته يستنتج بالدليل والبرهان أن الدولة المغربية في تطورها تعد اليوم من كبار دول الجنوب التي أحرزت تقدما واضحا عن مجتمعاتها. إنها دولة تاريخية مُؤَسِّسَة بامتياز. كونت النويات (جمع نواة) الأساسية في المجتمع (الأسرة، الحزب، النقابة، التعاونية، البنية المؤسساتية ….)، وسعت دائما لتطويرها، مستحضرة بالقوة اللازمة الحفاظ على الخصوصية التاريخية للبلاد.
لقد مرت أكثر من ستة عقود عن ثورة الملك والشعب، ليرتقي في نهاية المطاف دور الدولة ليصبح الكيان الأقدر على التغيير، والقيادي المستنير والحكيم لمختلف المشاريع التحديثية. لقد كفل لها التاريخ دور القوة النافعة ودور المخاطب الناجع صاحب السلطة المؤثرة. طورت مع مرور العقود ريادتها في بناء الحداثة بالرغم من الصعوبات التي واجهتها مع المثقفين. المثقف، يقول العروي، لم يكن في خدمة السلطة. ورث ذلك عن تقاليد النخبة في محاربة الاستعمار، نخبة تعودت على تقليد معاداة النظام القائم. ورث المثقف ذلك كذلك من احتكاكه بالإرث الفرنسي المخالف للتراث السياسي النفعي البراغماتي الثقافي المترسخ في المجتمعين البريطاني والأمريكي.
نتيجة لتجدر النظام الملكي المغربي شعبيا، واستحضارا للأدوار المعاكسة للنخبة المثقفة، ضيع المغرب فرصا عديدة لترسيخ الحداثة مبكرا كما عاشها الغرب منذ القرن الثامن عشر على الخصوص. بذلك، فمفهوم الحداثة، كوعاء سياسي للتركيز على المنفعة والمصلحة الجماعيتين، لاقى صعوبات لتثبيت ركائزه في الواقع. الدولة مطلعة معرفيا وفكريا بكل التفاصيل عن كيف ارتبط مفهوم النفعية بالتراث الفقهي المغربي القديم، وكيف تطور عبر الأزمنة. لقد كانت (النفعية) تمثل القيمة الأولى في المجتمع. كما أبرزت الوقائع التاريخية بشكل مواز كيف نجحت النويات المؤسساتية المغربية في تحمل سلطة التفويض باقتدار، وبالتالي رعاية المصالح الجماعية للمغاربة.
بتراكماتها الهامة والجادة، تسعى الدولة في مطلع الألفية الثالثة تفنيد كل السلوكات غير المبررة التي ميزت زمن ما قبل الحداثة. إنها لا تدخر جهدا للعمل على تجاوز التعاطي المفرط مع مفهومي الولاء والتقليد. المغرب يحاول بإرادة سياسية واضحة، كما فعلت المجتمعات الحداثية قبله، وضع التقليد في مرتبة معينة، جاعلة منه مقوما ومرتكزا للخصوصية الثقافية المغربية. التقليد بالنسبة للأسرة والطفل (التنشئة) ضرورة يقول العروي. أما بالنسبة للقائد والزعيم والمشير المؤسساتي، الذي يقود الحركة الاجتماعية، فالتقليد ليس هو المطلوب. دوره كفاعل عمومي سياسي هو البحث عن فتح السبل والطرق الممكنة لتحقيق المنفعة والمصلحة. لا يهم، بالنسبة للعروي، إن أدى الأمر إلى نسيان بعض التقاليد (النسيان يعني عدم الفائدة منها)، والتعايش مع أخرى النافعة بدون أن تكون القيمة المسيطرة على كل القيم الأخرى.
الداء الفتاك، كما فهمته من مشروع العروي، والذي يمكن أن يشكل حاجزا منيعا منتصبا في سبيل العبور إلى الحداثة، يتجلى في توفير ظروف تسلط نزعة تعميم التقليد وصد الأبواب أمام تراكمات الحضارات البشرية (الانغلاق). القيم التراثية النافعة هامة جدا في ترسيخ الخصوصية الحضارية المغربية (الأسرة والعائلية والجماعة)، لكن تعميمها على الاقتصاد والمالية والتكنولوجيات الحديثة والمكننة الإلكترونية غير مقبول نهائيا. إنها مجالات حضارية مشتركة كونيا تتطلب اليقظة الدائمة، وترسيخ النزعة الإبتكارية، وانتعاش الغريزة التجديدية عند الإنسان، والمراهنة على التجربة كأساس لربط الفكرة النظرية بالواقع. إنها الحرية بالمفهوم الإنساني التي خصص لها العروي كتابا خاصا إلى جانب كتب أخرى تناولت أربع مفاهيم متكاملة: مفهوم الإيديوبوجيا، ومفهوم الدولة، ومفهوم التاريخ، ومفهوم العقل.
خاتمة
يعد المغرب، بالنسبة للعروي، من البلدان العربية والإفريقية الرائدة والمؤهلة للتقدم بسرعة في المسار التحديثي. الحرية، وإن غابت عن الدولة الإسلامية أو في المجتمع الإسلامي التقليدي، فإنها في المغرب استطاعت أن تترعرع وتتغذى من مكوناته الثقافية الحضارية العربية والأمازيغية والصحراوية والأندلسية…. إنه البلد الأشد تقدما واستعدادا لقبول الحرية والحداثة والسعي لتطويرهما بالوثيرة المطلوبة.
لقد قام المغرب بعدد من الإصلاحات في العديد من المجالات موسعا بحكمة هامش نطاق الدولة على حساب العديد من الجماعات والبنيات التقليدية التي كان يحتمي وينغلق فيها الفرد كالأسرة والحرفة والعشيرة والزاوية. إنه المعطى التاريخي الذي ساهم في تداول مفهوم الحرية في المجتمع المغربي بمنطق حداثي. شاع المفهوم وترسخ بدعم الدولة المتواصل، وتنشيطها للنضالات المجتمعية المدافعة باستماتة على حرية الفرد كحق بديهي و طبيعي رافعة الشعار الدائم: “الحريات الفردية لا تقبل التفويت”. والحالة هاته، استطاع المغرب بتجربته الخاصة وحنكة نظامه السياسي من الابتعاد عن نزعات التزمت في كل المجالات الأخلاقية والعقائدية والقانونية. التفوق المغربي وتميزه جعله يتجاوز بشكل ملموس العتبة التاريخية للدخول إلى زمن الحداثة. لقد تحرر الفرد المغربي اليوم بمستويات متقدمة، وأصبحت إرادته إلى حد ما تتطابق مع أهداف الدولة.
اقتباسا من مضمون الفصل الأخير من كتاب الحرية لعبد الله العروي، يمكن القول أن المغرب تَشَرَّب معنى الفائدة من العلوم الطبيعية وما تزخر به من قيم معرفية في خدمة حرية الأفراد. المؤشرات الحضارية المعروفة كونيا لقياس مستويات الحداثة تتحقق، وترتفع نسبها بوعي تام بالتحديات المستقبلية: مؤشر النمو الاقتصادي وتقدم علم الاقتصاد، ومؤشر استنباط نتائج علوم الاجتماع، ومؤشر انتشار نمط الفكر العلمي والعملي، ومؤشر الإيمان بالتجربة والمنافسة، ومؤشر الإبداع التكنولوجي، ومؤشر المشاركة السياسية الديمقراطية وجهود توطين علم السياسة…. لقد أصبح المغرب بالفعل مؤهلا لدخول مجال الأنشطة الصناعية الرئيسة (مجال الاختراع والإبداع)، وتقوية ميول الشباب إلى احتراف الدَّرَابَة اليدوية والتكنولوجية.
الحسين بوخرطة : مهندس ومهيئ معماري