التشريع هو ركيزة الدولة والمجتمع معا لتحقيق دولة الحق والقانون. قوة هذا الأخير تتجلى كونه فوق الجميع. في نفس الوقت التطورات المجتمعية وطنيا ودوليا، والتداخل والتفاعل بين القواعد القانونية في الداخل والخارج تستوجب تكيف الترسانة القانونية القطرية (لكل بلد) مع المتغيرات المجتمعية، منتصرة بذلك لمبدأ المصلحة الوطنية العليا. في هذا الصدد، المملكة المغربية تعتبر من البلدان الرائدة في تطوير ترسانتها القانونية لجعلها في خدمة المصالح العليا للوطن ومصالح المرتفقين المشروعة.
في هذا السياق، تتوصل الإدارة المغربية ببعض الطلبات المشروعة إذا ما تم استحضار طابع المصلحة الشخصية، لكنها تسعى في العمق لتطويع أو تغيير قاعدة قانونية سارية المفعول. تقع الاجتهادات في بعض المؤسسات ويبقى إنصاف القاعدة القانونية بدلالاتها النبيلة وتقديسها أمانة يتحملها الممارس المسؤول في كل الدواليب المؤسساتية المعنية.
وهنا أطرح ظاهرة “الابن مجهول الأب” الباحث عن إثبات نسبه. عند ولادته تصرح به أمه لدى مكتب الحالة المدنية المختص داخل المملكة أو خارجها، فتختار له اسم أب وجد من أسماء العبودية واسم عائلي يجسد الخصوصية المغربية، مع التمتع بحقها في تمكينه من اسمها العائلي. تتطور وضعية ومصالح الوليد وأمه، وتتلاقى في بعض الأحيان مع مصالح الأب البيولوجي، فتنضج الفكرة عند هذا الأخير بدافع وضغط مصلحة الأطراف الثلاث (الوليد، الأم والأب البيولوجيان)، فيقبل منح نسبه لابنه أو ابنته بمقتضى إقرار ببنوة مكتوب. يتقدم إلى السلطة القضائية، ويستصدر حكما باسم جلالة الملك يتوج بتضمين بيان هامشي في رسم ولادة الطفل المعني. تستكمل مقومات هويته على هامش رسم ولادته الذي يعكس في شكله ومضمونه أنه كان قبل صدور الحكم طفلا مجهول الأب.
ومع تطور قانون نظام الحالة المدنية المغربي نتيجة حرص الدولة على إنجاح رقمنته، طرح عدد من الآباء والأمهات البيولوجيين ومواليدهم من هذه الفئة مطلب حق الطفل على هوية خالية من أثار الماضي السلبية بتمتيعه برسم ولادة طبيعي لا يعكس الأوضاع السابقة للأطراف الثلاث، ويمتع الطفل بهوية عادية. يتطلعون إلى أن يتغير القانون مرة أخرى لصالحهم بإتاحة إمكانية نقل رسم ولادة الطفل الرافض لصفة “مجهول الأب” التي التصقت به منذ ولادته إلى السجل الإلكتروني للسنة الجارية مع تضمين بيانين هامشيين (النقل على أساس حكم قضائي بإقرار بنوة)، الأول يحرر على هامش رسم الولادة الأصلي بمثابة إلغاء، والثاني (الجديد بمثابة ترسيم) يشار على هامشه كونه ناتج عن نقل رسم ولادة (رقم/السنة/المكتب) بمقتضى حكم قضائي (رقم، ملف، تاريخ، المحكمة المختصة).
أما بالنسبة للمواليد من هذه الفئة الذين سبق تسجيلهم خارج أرض الوطن، فقد أتاح القانون لأوليائهم الحق بنقل ولاداتهم من بلد الإقامة إلى القنصلية العامة للمملكة المغربية المختصة وفي أجل غير محدد، ورفع دعوى قضائية لإثبات نسبهم بمقتضى إقرار ببنوة. كما يبقى من حقهم كذلك، رفع نفس الدعوى لدى السلطة القضائية ببلد الإقامة لإضافة بيانات الأب البيولوجي في رسم الولادة الأجنبي، ومن تم نقله بهوية متكاملة إلى القنصلية المغربية السالفة الذكر. أكثر من ذلك، فقبل يوم 6 يوليوز 2023، كان متاحا لنفس الأولياء رفع دعوتين قضائتين في مكان السكن بالمغرب، الأولى لنقل الرسم الأجنبي ببياناته الكاملة إلى مكتب الحالة المدنية المختص داخل المملكة، والثانية لإقرار النسب بمقتضى إقرار ببنوة. تتوج العملية بترسيم ولادة الطفل في السجلات المغربية في رسم ولادة يجسد وضعيته منذ ولادته إلى أن تم الإقرار بنسبه (نقل الرسم الأجنبي بياناته الكاملة وإضافة بيان هامشي لإثبات النسب). بنفس الدوافع، هذه الفئة من الأولياء والأطفال يطمعون في رسم ولادة جديد يتضمن بيانات المولود وأبيه وأمه ومراجع الأحكام القضائية بدون أن يعكس أي عبارة متعلقة بوضعية السابقة خاصة ما يفيد أنه كان مجهول الأب.
وأختم هذا المقال بالقول أن هناك اجتهادات قضائية جريئة في هذا الصدد. منطوقها يأمر ضابط الحالة المدنية بنقل ولادة أجنبية مجهولة الأب إلى السجلات المغربية المفتوحة مع تحديد هوية الوالدين بمقتضى إقرار ببنوة أثناء تحرير رسم الولادة إلكترونيا. على المستوى العملي، هذا النوع من الأحكام يطرح صعوبة في التنفيذ محليا، ويحتاج إلى استشارة مركزية. النقل نقل لرسم أجنبي، والإقرار ببنوة إثبات لنسب بمقتضى اعتراف مكتوب وحدث لاحق زمنيا (الواقعتان مرتبطتان بزمنين مختلفين)، ليبقى إدماج القضيتين في حكم واحد يحتاج إلى صيغة واضحة لمنطوقه (نقل ثم إثبات نسب بإقرار بنوة).