التراث لغة: جاء في معجم القاموس المحيط:
وَرَثَ: :: «ورث مال أباه أو مجده» : أي انتقل إليه ماله أو مجده بعد وفاته. ويشتق من ورث : يرث ، ورثا وورثا وإرثا وإرثة ورثة وتراثا.. وغير ذلك.
والتراث مجازاً:
التراث خلاصة: ما خلفته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي أو يستلهم منه الأبناء الدروس ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان.
ويتسم التراث أيضاً بالسمات، الحضاريّة، والاجتماعيّة, لواحدة من الأمم الماضية، فيعتبر موروثًا تتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل سواء كان هذا الموروث ماديًا أو معنويًا. (1).↑
تتعدد أنواع التراث :
أولاً: التراث الحضاري: وهو ما تركه الأجداد من تراث حضاري قديم، كالآثار، والمسكوكات، والأوان، والرسوم، والنقوشات.
ثانياً: التراث القومي: ويشير إلى ما خلفته القوميات من قيم ماديّة ومعنويّة, باختلاف أنواعها, التي ظهرت في تاريخ هذه الأمة أو تلك, متخذة سمات وخصائص معينًة قامت بالمحافظة عليه.
ثالثاً: التراث الشعبي: وهو مزيجًا من التراث القومي والتراث الحضاري، حيث تتشكل للأمة صفات وخصائص تميزها عن غيرها من الحضارات.
رابعاً: التراث الاجتماعي: ويشير إلى التراث المتصل والمرتبط بجميع نواحي الحياة لمجتمع ما من المجتمعات, ويدخل فيه, العادات والتقاليد والفنون الشعبية والبنى النفسيّة والأخلاقيّة التي تتوارثها الأجيال.
خامساً: التراث الثقافي: يقترن هذا التراث بشكل خاص في الكتابة وما يتفرع عنها من فقه وعلم كلام وأدب وفنون مختلفة. (2).
موقفنا نحن العرب من التراث:
إن علاقتنا مع تراثنا, علاقة إشكاليّة في طبيعتها شكلاً ومضموناً. ففي الشكل لم نزل نتمسك بطقوس تراثية, وفي مقدمتها الطقوس الدينيّة بشكل خاص, وهي التي تتمثل في إحياء مواقف تراثيّة, ليس من باب استلهام قيمها الإنسانيّة بقدر ما يعود إحيائها وإعادة ممارستها إلى تأكيد الذات المجتمعية وتمايزها عن الاخر, عرقيّة كانت أم مذهبيّة. مثل إحياء عاشوراء, وعيد النيروز على سبيل المثال لا الحصر, وتجسيدها رمزيّا في طقوس ماديّة ملموسة عند إحيائها. اما تجسيدها مضموناً, فهو التمسك بجوهرها واعتباره موقفاً حياتيّاً مقدساً للمنتمي تضحى في سبيله حياة الفرد وحتى المجتمع. عاشوراء أنموذجا. وعلى هذا الأساس أو الموقف من التراث, يأتي ضياعنا في الحقيقة ما بين النقل من التراث أو النفاق له.. فالنقل منه, يأتي انطلاقاً من إيماننا الثابت والمطلق بأن ما أنتجه أجدادنا وخاصة في مجال الفقه وعلم الكلام وسيرة وقيم الصحابة وحوادث التاريخ ورجالاته عند التابعين وتابعي التابعين في القرون الهجريّة الثلاث الأولى, أمراً مقدساً لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه. وبالتالي فكل جديد يطرأ على هذا التراث المقدس من خارجه هو بدعة وكل بدعة ضلالة. وهذا ما يجعلنا ننغلق على أنسفنا ونتخذ مواقف عدائيّة من المختلف عنا ديناً أو مذهباً أو موقفاً من الحياة, وهذا بدوره ما يساهم في خلق حالات من التناقض والصراع داخل مكونات المجتمع الواحد, غالباً ما تؤدي إلى حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس.
أما نفاقنا للتراث, فيأتي من قوة حضوره في تفكيرنا وممارستنا اليوميّة وقدسيته, لذلك نحن مأسورون ومحكومون له بجهلنا وتخلفنا وغياب الحقيقة عنا في هذا التراث, أي عدم قدرتنا على فرز الغث من السمين فيه, وهذا ما يجعلنا ننافق له ليس لإرضاء التراث بحمولته المخيمة على عقولنا المغيبة منهجياً ومعرفياً فحسب, وإنما خوفاً من حامله الاجتماعيّ المتعصب الذي لم يزل مسيطراً علينا أيضاً, ويمارس الإرهاب الفكري على كل من يخرج عن ما يفهموه هم أو يريدون الاتكاء عليه من هذا التراث, وبالتالي فكل من يستخدم العقل المعرفي التنويري, والمنهج العقلاني العلمي النقدي في قراءة وتحليل معطيات هذا التراث, والبحث عن الجوانب العقلانيّة فيه, هو ملحد وكافر وزنديق ومرتكب للكبيرة, ويجب أن يعزر, وإذا اقتضى الأمر لا مانع أن يهدر دمه. وبناءً على ذلك نقول:
1- لقد علمنا أبناءنا أو الأجيال التي أصبحنا أوصياء عليها, بأن أجدادنا فتحوا العالم لأنهم تمسكوا بقيم الدين, ولم نعلمهم بأن للفتوحات أساسها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والحضاريّ أيضاً. وأن موقفنا البراغماتي والمصلحي من الدين ساهم في تجسيد العبوديّة للآخر, إن كان من حيث تجسيد مسألة الإماء وما ملكت أيمانكم, أو من خلال أخذ أموال من فتحت أراضيه كغنائم حرب وتوزيعها على المقاتلين, وبالتالي تحويل الناس الذين لم يدخلوا الإسلام, أو حتى من دخله في البلاد التي دخلها ما سمي بالفاتحين, كموالي عليهم دفع الجزية.
2- قلنا لهم بأننا علميون, ولكننا لم نعلمهم ولم نتعلم نحن معنى العلميّة, التي أساسها الاقرار, بأن هناك قوانين موضوعيّة مستقلة عن إرادة الإنسان تتحكم في آليّة سير الطبيعة والمجتمع, ودورنا هنا لكي نكون علميين, هو اكتشاف هذه القوانين والتسلح بها, وتسخيرها لمصلحتنا. بل قمنا بفتح أبواب الجبر على مصراعيها كي تركن هذه الأجيال إلى الاستسلام والامتثال لأقدارنا المكتوبة على جباهنا, انطلاقاً من الفكر الدينيّ الجبريّ الوثوقيّ الاستسلاميّ. وحتى عند استخدمنا للعقل في تعاملنا مع التراث فقد استخدمناه لتثبيت النص التراثي المقدس وليس للحكم عليه كما يقول الأشاعرة.
3- وفي الوقت الذي نقول فيه للأجيال أيضاً بأننا تقدميون وعلمانيون, ونتفاخر بثورات تراثنا وقيمها الإنسانيّة ضد الظلم, كثورة القرامطة والزنج والخرميّة وغيرها, نجد هناك من يقوم بالعمل ضد هذه الحركات الإنسانيّة وفكرها, معتبرها حركات زندقة وكفر ومقاومة للإسلام الحنيف والخلفاء الصالحين في تاريخ الدولة العباسيّة. وبفتح مئات الألاف من الجوامع والتكايا ودور تعليم وتحفيظ القرآن والحديث, والمدارس والمعاهد والجامعات الشرعيّة ومئات القنوات الدينيّة التكفيريّة التي تغذي الفكر السلفي الجمودي الامتثالي الاستسلامي التكفيري المعادي للإنسان وعقله, مؤكدين على اعتبار أصحاب المذاهب والفرق الدينيّة والطرق الصوفيّة, هم مراجعنا الفكريّة والسلوكيّة, بينما أهملنا فيه الفلاسفة والمفكرين التنويريين العقلانيين في تراثنا, كابن رشد والفارابي والكندي وابن سينا وابن خلدون وغيرهم .
4- قلنا لهم نحن اشتراكيين وطبقيين… تعلمنا الاشتراكيّة من تراثنا, إن كان من نصنا الديني المقدس: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (سورة القصص. الآية (5)), أم من قيم أجدادنا (القرامطة). ثم رحنا نلمس كيف مورست عمليّة الانسلاخ الطبقيّ عند قيادة أحزابنا الثوريّة, وكيف تمت عملية نهب ثروات الدولة والمجتمع, وتشيكل البرجوازيات البيروقراطيّة والطفيليّة.
5- قلنا لهم بأن أحزابنا ثوريّة وديمقراطيّة, ونحن ندعوا إلى صيانة الروح الوطنيّة ودولة القانون والحفاظ عليهما, في الوقت الذي حولنا فيه دولنا إلى دول طائفيّة وقبليّة وحزبيّة شموليّة, يسيطر على شعوبها الخوف, وما يولده هذا الخوف من انتشار للكذب والنميمة والتزلف والتزمير والتطبيل.
6- قلنا لهم بأننا نسعى لتحقيق الوحدة العربيّة, في الوقت الذي جعلنا فيه الوطن العربي محكوماً بالقطريّة من الناحيّة السياسيّة والجغرافيّة, ويعيش تحت مظلة بنى عرقيّة وطائفيّة وعشائريّة وقبليّة ومذهبيّة. أي ساهمنا وبقصد في جعل عالمنا العربي كتلاً بشريّة هي أقرب إلى حزمة من القش لا يربط أعوادها بعضها بعضاً إلا وهم وشعارات وطنية وقوميّة فضفاضة. فعاشت أمتنا العربية في مثل هذه الحالة في جزر جغرافيّة متفرقة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً.
ملاك القول:
التراث يشكل في الحقيقة الجذر التاريخي لأي أمة من الأمم, بيد أن هذا الجذر عندما أفرع وأثمر, أخذت تحيط به نباتات ضارة, منها من يعتاش على وجوده, ومنها من يعمل على يباسه وإلغاء وجوده. ولكن قوة الثراث وصموده تظل مرتبطة بنوعيّة التربة التي لم يزل مغروساً فيها, أي الشعب أو الأمة الحاملة لهذا التراث, فكلما كانت هذه الأمّة قويّة ومتماسكة وعقلانيّة وقادرة على التعامل مع تراثها بروح عقلانية نقديّة من خلال استلهام المواقف العقلانية والإنسانية فيه, وإقصاء كل ما يساعد على تفتيت هذه الأمّة وتهميش دورها في التاريخ, كلما استطاعت هذه الأمّة أن تجعل من تراثها جذوة حيّة لا تنطفئ, هذه الجذوة التي تعمل دائماً على تنمية الإحساس بالهويّة الوطنيّة والقوميّة والشعور باستمراريتها لدى الفرد الجماعات. هذا إلى جانب دور التراث في تعزيز التماسك الاجتماعي واحترام التنوع الثقافي والإبداع البشري، وكذلك تعزيز قدرة الجماعات على بناء مجتمعات مرنة وسلميّة ويسود تكوينا الإيمان بالآخر والاعتراف به.
كاتب وباحث من سوريّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (محمود زكي (30/8/2009)، “التراث العربي: هوية الماضي وزاد المستقبل”، موقع الألوكة، 5/2/2022. بتصرّف.).
2- موقع موضوع. بتصرف.