و دائما في دوائر وجهة النظر القابلة للصواب و للخطأ أقول : و أنا أكتب ، لا تحضرُني البتّةُ فكرة أنني أبدعُ الخارقَ و آتي المدهشَ و أنجزُ اللاممكن . فهذه حالة نرجسية تؤطر فعل الكتابة في سياق السيكولوجية المرضية القابلة للتحول من فعلٍ سويٍّ إلى فعلٍ منحرف و متغوّلٍ يقضي على إشراقةِ الكتابة الملتفتة للغير ، و يفتك بالفعل القيمي المشهود في شفراتِ القيمِ المراد نشرُها أو نثرُها ، و يقدّم المشروع الفني كيفما كان جنسه تقديماً أعرجَ و أعوج لا يستوي فيه الخطوُ مادامَ يرُومُ تأكيداً معيباً لسلطة الذات و سلطانها .
بعضنا يكتبُ و في يده شيءٌ من حتّى ، لا يستطيع منها خلاصاً ، و لا يقدر على توجيه بوصلة الإبحار إلى مقاصد الجزرِ حيثُ الخضرة و الضوء و المغامرة و المباغتة و العجائبيّ … يكتبُ و لا يسافر إلا بقدر المسافة التي يُتيحها بصره إلى أرنبة أنفه ، و هي الأرنبة التي لو وُسِمتْ بشيءٍ من الحجمِ لظنّ صاحبنا نفسهُ تنقّلَ بعيداً بعيداً ، و نأى شديداً شديدا ، و كأنه رحّالَةُ عصرِهِ ، و فريدُ دهرِهِ ، و وحيدُ زمانِهِ . و أنّه الفلتةُ المُبْهِرَة التي لمْ يأتِ بها دهْرٌ من قبلُ و لا من بعدُ … فلا نستطيعُ معهُ حواراً و لا خُوارا ، لأنه صنع من ذاتِهِ ذاتاً فوقَ الذواتِ ، و اعتلى عرشاً أدبياً موهوما لن نقدرَ على إقناعِهِ بأنه مجرد كرسيٍّ من خشب ، أو حتّى من قشٍّ … فيما هو لم يُراوِحْ مكانَهُ و لمْ يتزحزحْ عن محيطِ أرنبته .
إنّ ما يلفتُ البصرَ و البصيرة في مثل هؤلاء شرْذِمَةٌ من الكتَبَة المشبّهين بملفوظنا الشعبي ( الشّنّاقَة ) و الفاتحين حوانيتهم لاستقبالِ مثل صاحبنا . يقدّمون له السّاحة الثقافية خاويةً إلا منهُ و بالتالي ، يكتبون عنهُ و يصنعون منه فقّاعَةً عجيبة المظهرِ خاويةَ المخبَرِ . فيصدّق المسكين انتفاخَهُ و يؤمن به و يقتنع أنه المبدعُ الذي لا يشقّ له غبار .
أن أكتبَ معناهُ أنني أمّحي ، أنا و أندثر و أنقرض لأثبت غيري . أن أكتُبَ ، معناهُ أنني أصل رحم الكتابة بوصْلي لا بقطعي لحمتها اللاحمة بيني و بين الآخر … ففي هذه الصلة أكونُ و في عدمها لا أكون . و النتيجةُ أننا إذا عكسنا الصورةَ ، يصبح من يكتُبُ و يمّحي مبدِعاً يكتبنِي و يُثبِتني و يدعمني . هكذا تتحول الكتابة إلى فعل تبادلي تذوب فيه الأنواتُ و تموتُ لِتُبْعثَ من جديد داخل سديم المفاعلة و التفاعل لا داخل الدوائر الضيقة .
أنْ أكتبَ ، معناهُ أنني أمارس فعلا حضارِياً يلغيني كفكرة مفردة يتيمة و يثبتني كإنجاز حضاري مشترك ، لا يهمّ أن يكونَ توقيعي ناراً على جبل بقدر ما يهمّني توقِيعُنا و وسمُنا و أثَرُنا . و الحضارةُ في آخر المطاف ليست إنجازَ فلان أو فلان ، و لا إنجاز ثقافة دون أخرى ، و لا إنجاز جيل دون جيل بل هي فعل تراكمي لا نعرف فيهِ من بدأ و لكننا نعرف أنه بدأ . و من ثمّة فلا قِبلَ لنا بالقول إنّ فعل الكتابَةِ فعل شخصيٌّ محض مئة في المئة ، و على الاقلّ هي كتابة لا تخلو من حضور الآخر و لو على مستوى التناص . و الكتابة الوحيدة التي يمتلكها صاحبها امتلاكاً صِرفاً هي كتابةُ ( آدم عليه السلام ) لأنه الكائن الوحيدُ الذي لم يتناصّ مع أحد .
ما نرجوه من هذه المقالة العابرة هو إثبات أن فعل الكتابة ليس ذاتاً محضة ، و أن المحضَ منها هو البصمةُ فقط … و بالتالي أدندنُ في أذنك أيها الواهمُ بالكتابة العصماء المُعجزة ، أنكَ لا تكتبُ إلا إذا تواضعتَ و ركبْتَ مطايا الْقِيَم ، و علمتَ أنّكَ كاتبٌ لا مصداقية لك إلا إذا آمنتَ أنك حلقةٌ في مشروعٍ كبير هو كتابةُ هذا الوطن السعيد . غير ذلك فأنت طائر مهيض الجناحين تغرّد خارج السّرب ، و تحلق تحليقا نازلاً لا معنى له و لا جمال .