يمسك بالإنسان عموما، هاجس خوف متأصِّل نحو خبايا المستقبل، نتيجة تخميناته بعدم الاطمئنان إلى القادم، أو بالأحرى، يحيا الراهن يقينا، إلى حد ما، بناء على تقدير مفاده؛أنَّ حقيقته ماثلة بوجه مكشوف أمام نظره،ملموسة بين يديه(طبعا ليس صحيحا؛وإدراك الوقع يبقى نسبيا).
مقابل ذلك،لايترقب الآتي على كتفي القادم بنفس الثقة، ويدرجه مبدئيا ضمن متاهات غياهب المجهول، بالتالي الانحياز أكثر بخصوص هويته إلى اللا-يقين، اللا- أمان، وكذا انعدام شكل مآل معين.
الخوف كنه الحياة، جذرها المكوِّن. يتملَّك الإنسان، يشلُّ قدراته على المبادرة والخلق و إثراء مسارات الحياة. مع ذلك، يستمر رفيقه الأوحد، رغم كل المظاهر المناوِئة.
لذلك،قيل دائما، وحدهم الشجعان يكتبون التاريخ؛أي يجدون للحياة سبيلا إلى الحياة، وجعلها تأخذ دلالاتها،فتبلور بعد ركود زخم معانيها،جراء صنيع نوعي ومغاير لكل ماسبق، أثاره متجاسر،فأدى سلوكه النوعي إلى تغيير نمطية الحياة السائدة وقد انطوت فقط على أسباب الاستهلاك العقيم، فالموت الرحيم.
حقا،الخوف اللئيم عدو الحياة.لم تتشكَّل أبدا معالم حياة خالقة وخلاَّقة تحت كنف الخشية والتقوقع،بيد أنه أراد الإنسان أو استعاذ، يجثم الخوف هنا،بالتالي يقضي حياته ملاحِقا أوهام التخلُّص من ثِقَلِ الخوف على سلاسة أنفاسه،غاية لقائه الموت الذي مَثَّل عموما خوفا عظيما ثم فزعا لايضاهى، يكشف في نهاية المطاف حقيقة،كل هذا الخوف الضمني بخصوص شيء ما.
أوضحت دائما سيرورة الحياة،بأنَّها واقعة متمرِّدة،لاقانون يحكمها،بينما تسود جميع القوانين،وتتأرجح علاقة الإنسان حسب تفاعل صنفي فريقين :
*الارتيابيون :تسكنهم نزعة شكِّية،نحو ممكنات الحياة واحتمالاتها.تختلف مستويات النزوع حسب درجات توقُّد الوعي الوجودي لدى صاحب التصور.يتأمل هذا الصنف الحياة من فوق،تاركا دوما مسافة حيال معطياتها. لذلك،لايهتم هؤلاء بالإصغاء إلى توالي نداء دعاوي الحياة،ثم يرحلون غالبا عن العالم بأقلِّ الخسائر الممكنة.
*أهل الرَّتابة الخَطِّية :يضمُّ الصنف ويحتوي تفكير الأغلبية الساحقة من البشر،بحيث ينظرون إلى مجريات الحياة وفق اطمئنان منطقي ورتابة خَطِّية.تستند الجماعة إلى رؤية تفاؤلية، بخصوص ممكنات الحياة، فالواقع عين العقل، ولايعمل سوى على بلورة فكرته الكلِّية، بتجسيده متواليات الحقيقة المطلقة.
الخوف المحيط بنفسية الإنسان،نتيجة المجهول الذي تضمره الحياة وضبابية المستقبل، تدفع البشر إلى التطلع دون توقف صوب التشبث بخيوط يمكنها حسب الاعتقاد السائد،إرشادهم بتؤدة نحو مرافئ الأمان،والوصول إلى ضفاف النجاة من أعاصير الحياة التي تتقاذفهم دون رحمة. ضمن سياق ذلك،لايدري أيّ واحد،نوعية مصيره وكذا مستويات إمساك حظه بطوق النجاة.
ملاذ آمن،يوحِّد التطلع نحوه هواجس وتطلعات أغلب البشر،باستثناء زمرة الارتيابيين الذين تبنوا منذ لبنات وعيهم الأولى موقفا رافضا،من ثمَّة لايستحق مشهد الحياة انخراطا قصد خوض صراع يراهن سدى على طمأنينة معينة.
لقد تداولت الأجيال بكيفية راسخة خلاصا، لامحيد عنه، يتمثل في إرساء معالم الأسَرِ عبر الزواج والسعي أكثر من خلاله على الإنجاب،وفق مبرِّر مفاده أن وجود الأبناء في حياة الشخص،يشكِّل جسرا أمينا نحو برِّ الأمان،والاستعداد مبكرا إلى تحصين الذات من مفاجآت غير منتظرة.
حكايات يتردَّد صداها باستطراد أكبر،وتأخذ مناحي أكثر فأكثر،لدى ساكنة المجتمعات المقهورة التي تكابد العوز المادي، الذهني،ومختلف أشكال القهر ثم تقويض مقومات التمدن والتحضر،فتختزل رؤيتها الوجودية؛إن امتلكتها أصلا بوعي أصيل،إلى مجرد التكاثر والتوالد مجانا،من أجل هدف واحد، برغماتي خالص،يراهن غالبا على مولود والقذف به إلى العالم،كضمانة وحيدة لاستشراف أسباب النجاة من تقلُّبات الدهر ومكائد الحياة،لاسيما فترات العجز والضعف،فينتظر الآباء من أبنائهم الغوث.
إذن،مشروع التكاثر واستمرار النوع،بهدف النجاة من عَضَّات الزمان وكَمَّاشة النَّائبات.السؤال الغائب : هل توجد ضمانة مطلقة؟هل ستحترم وصلات المشهد الكيفية التي تصورها مستلهِمُها؟.
أيضا، ضمن نطاق الرغبة نفسها،يشرئب الإنسان دون تردد بغية السيطرة على حيز محيطه الواقعي قدر مايمكنه الأمر،بامتلاك الأشياء وتوسيع مدى الثراء المادي. طبعا،هذا الدرب غير متاح للجميع بنفس شيوعية ويسر المعطى السابق،لأنه يتطلب مهارات أخرى وقوى تفوق بما يكفي، مقتضيات الارتكان إلى إيروس التناسل.
ترسُّخ فكرة الظفر بالمحدِّدات المادية،يعني ضمنيا للمفارقة العجيبة حين تغيير زاوية النظر، استلابا مزمنا للمدافِعِ عن هذا التصور كطوق نجاة،مادام الإنسان يخلق بنفسه عن طيب خاطر معطيات الحيز المادي لهذا العالم،ثم ينقلب وضعه جراء تحولات هوجاء للمنظومة المجتمعية، فتزداد أو تنقص وتيرة جشعه قصد الظفر ثانية بمنظومة الأشياء،التي تمنحه الإحساس بالأمان.
التماس الثراء،وطلبه بشدَّة عطاء مختلف مايصادفه أمامه حتى يوطد سلطته على أشياء الواقع،مما يوهمه بقوة متفتحة دائما على مزيد من التوسع،تجعله حسب اعتقاده دائما،بفضل الثراء المالي أساسا؛ و ما يندرج في نوعه، نِدّا على مستوى مواجهة زلازل الحياة، وتشكيلات مزاجها الحاد بكيفية هيستيرية. السؤال الحاضر والغائب : هل توجد ضمانة مطلقة؟
قد لايهتم هذا الفريق بفكرة التوالد البيولوجي،مثلما يجري الشأن مع الأول،لأنَّ التحصين المادي بالنسبة إليه يعتبر مرجعية مثلى،قصد بلوغ مرفأ الأمان والنجاة من ترتيبات حربائية الحياة.
من بوسعه تقديم جواب يؤكد بالمطلق صواب الأطروحتين،بخصوص إتاحتهما لضمانات يقينية كفيلة بكبح جموح دورة الحياة. طبعا، وبغير تردّد يستحيل استحالة تامة، بلورة جواب يمثل حصنا حصينا.
مع ذلك،كيفما جاءت طرق النجاة التي يتبناها الإنسان سبيلا قصد بلوغ شاطئ الأمان،فلن يكون قط اختيارا صحيحا ودربا سالكا،سوى إذا انطلق من تصور هوياتي للحياة،يعتبرها أولا وأخيرا، حالة طارئة بامتياز لاتحكمها عِلل سببية أو منطقية واقعية،بل فقط تتدبر حدوثها بعشوائية منطق اللامنطق،بناء على قاعدة : قد يحدث هذا الأمر،وربما لن يحدث؟.
هذا التصور الأقرب إلى تمثيل إطار ممكن للعبة الحياة،لايعني رغم ذلك بأيِّ شكل من الأشكال الاستكانة والاستسلام،والاكتفاء بانتظار ماتجود به الأيام،لكن المطلوب اشتغال الإنسان يوميا على مشاريعه التي ابتغاها مسوغا لمروره من الحياة،شريطة عدم ترقبه بسذاجة أحادية مستقبلا، كما تخيله سلفا على وجه اليقين.
إجمالا، حياة متفائلة/ متشائمة،بكيفية ينتظر معها الإنسان كل شيء،وقد أفرغ قلبه في نفس الآن من كل شيء.