علاقة الفلسفة بالدين قضية إشكاليّة وخلافيّة أيضاً عاشها المشتغلون على الاتجاهين معاً في تاريخ الدولة العربية الإسلاميّة. ربما تجلى هذا الخلاف أو الصراع الفكري في كتابي أبي حامد الغزالي وابن رشد وهما (التهافت, وتهافت التهافت), مثلما تجلت عملياً في محاربة من اشتغل على الفكر الفلسفي في تاريخ الخلافة الاسلامية كالفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير.
وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب كانوا أكثر جرأة منا اليوم في النظر بقضايا القديم والمحدث والتحسين والتقبيح, وخلق القرآن وقدمه, والبحث في صفات الله والجنة والنار وغيرها من القضايا التي تتعلق في الخالق نفسه وعقيدته, إلا أنهم ظلوا محكومين بـ (بالخوف), من السلطة ورجال الدين السلفين الموالين لها والقادرين على تحريض السلطة والناس عليهم, وهذا ما كان يجري تاريخيّاً. أو بسبب غياب الشروط العلميّة للمعرفة ونقصها وخاصة التطور العلمي والتكنولوجي الذي عايشه مفكرو أوربا مع قيام الثورة العلميّة والصناعيّة التي ساعدتهم على طرح قضايا تجاوزت نطاق الايمان المطلق كما جرى لكبررنيك وهارفي وغيرهما.
لنأخذ الفارابي أنموذجاُ فلسفيّا من هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة حيث عرف الفلسفة بقوله:
(هي العلم بالموجودات بما هي موجودة, لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات, من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها, أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى).
فالفلسفة عنده تقوم في تعريفه هذا لها, على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع, من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, بهدف معرفة سر وجودها والقوانين الموضوعيّة المتحكمة بها. فالفارابي هنا إذاً تجاوز حدود الاستسلام المطلق لمعرفة وجود الظواهر وفقاً للرؤى الدينية التي تقول بأن كل شيء مخلوق لله, ويأتي في مقدمة هذا الرفض هو أنها لا تسير وفق إرادة عليا تطلب من الناس أو المؤمنين الخضوع لها أو الاستسلام لها. بل لها قوانين سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين كما بين في تعريفه لها, وعلينا اكتشاف آليّة هذه السيرورة والصيرورة معاً.
إن الفلسفة في سياقها المعرفي العام, هي نسق من الثقافة الروحيّة للبشريّة, وشكل من أشكال الوعي البشري (الاجتماعي), تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظريّة قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وهي تقدم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة, و تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله, وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ومعرفته, وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروط بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.
إن المهمة الأساس في الفلسفة إذاً, تكمن في العمل على جعل الوعي الثورة العقلاني (النقدي), على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعي عن طريق توجيه الفكر العقلاني النقدي لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي.
أما الدين فهو مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المتعالية على الواقع, التي يؤمن بها الناس ويعملون على تطبيقها فكراً وممارسة, على اعتبارها تتضمن المقدس والثابت والمطلق حيث تكمن فيها حلول مشاكل الناس وسعادتهم.
أما الأسس التي يقوم عليها الدين فهي: الحس والخيال والايمان والامتثال والاستسلام, لما يقره أو جاء به هذا الدين أو ذلك, وما دور العقل هنا إلا أداة أوسيلة من وسائل السعي لتأكيد ما تقره هذه الأديان أو تثبيته. وبالتالي, فالإيمان بما تقره الأديان يظل في الحقيقة خارج نطاق العقل النقدي القائم على الشك والتجربة.
إن الدين يقوم في سياقه العام على الوحي, والايمان بما ينزله هذا الوحي على الأنبياء والرسل الذين لم يكن دورهم أكثر من تبليغ حقائق للناس, وضرورة التزام بها رغبة في ثواب يتمثل برضا صاحب الدين الذي هيأ جنة لمن يطيعه ويطيع رسوله, أو عقاب يتمثل في نار حامية تكوى بها جباههم ووجوههم خالدين فيها.
هكذا نرى أن الدين يقوم على التبشير والوعد والوعيد, وعلى اعتبار ما هو قائم في هذا الوجود من ظواهر, ليس أكثر من أدلة على الإنسان تدفعه ليفكر من خلالها بعظمة خالقها من خارج عالم الإنسان ذاته ودون مقدمات موضوعيّة, وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن.. فالزمن هنا ليس له سيرورته وصيرورته التاريخيتين, بل هو آنات متفرقة تحدث في الزمان والمكان المتقطعين دون مسببات أو ظروف موضوعيّة.
ملاك القول: إن العقل النقدي يظل حجة, له منزلته العالية, وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة. وهو عقل يقوم على الحس والاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب والتجربة وبالتالي البرهان.
وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غير دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يشتغل عليها العقل النقدي.
إن العقل النقدي عقل شكاك, يؤمن بالحركة والتطور والتبدل, وبالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته, يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبية, والزمان والمكان عنده تاريخيان لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخي, والحقيقة الممثلة بالظواهر تقوم على حقيقة ناقصة. أما الإنسان فهو سيد مصيره حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقليّة وجوارح ناشطة في هذا الكون من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض, على اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم يكتشف كينونتها بعد, فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل, في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتية والحدسية والتخيل والضن والايمان والاستسلام.
كاتب وباحث من سورية