أثبتت أحداث خلق القوانين في التاريخ المغربي أن المشرع يفكر بمنطق العصر والتطورات البشرية في احترام تام لثوابت الأمة الحضارية. وبذلك يكون منطق الدولة القانوني متقدما إلى حد ما على المجتمع بعاداته وتعوداته، خاصة تلك التي أصبحت غير صالحة زمانيا وجغرافيا. زمن ترسيخ القيم والسلوكات الجديدة قد يطول أو يقصر في الماضي، لكن سرعة التحولات التي ميزت العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين فرضت متغير السرعة بضغوطاته الجبارة على حياة الإنسان. في هذا الصدد، منعرجات ومنحدرات سنة 2023 أصبحت صعبة إلى حد الخطورة، إلى درجة حل التهديد متسلطا عن الفضاءات الترابية ضعيفة اليقظة المتميزة بردود أفعال تفتقد للدقة المدروسة والسرعة. لقد سيطرت الإلكترونيات والرقمنة على حياة الأمم والمجتمعات، وبرزت مسألة الهوية على رأس الأولويات. المستجدات تتراكم بسرعة بطابع المباغتة والفجائية. تقوية سلطة الدولة في هذا السياق تحولت إلى أبرز انشغال لدى الفاعلين، وأصبح تفعيل تطوير القوانين مسؤولية كل القطاعات. فربط رسوم سجلات الحالة المدنية المحينة إلكترونيا ببصمات اليدين أو العينين لأصحابها (لكل مواطن رسم واحد وهوية واحدة) يستلزم تكثيف التنسيق والتضامن والتعاون بين كل المؤسسات المعنية.

رقمنة الحالة المدنية تعد من أصعب الأوراش المفتوحة مغربيا نظرا لتطور شكل ومضمون رسومها وبياناتها الهامشية ونوعية سجلاتها. بفضل الجهود المضنية وحصائلها المتراكمة، أصبحت المملكة المغربية تتوفر على منظومة رقمية وطنية وسجل وطني أعطيا القوة اللازمة لأدوار المؤسسة في مجال ارتباط الهوية الدقيقة بالمواطنة وبالحاجة إلى الترسيخ النهائي لمقومات وركائز الأمن العام (المقاربة الأمنية)، والرفع من جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين (المقاربة الحقوقية)، وتقوية سلطة الدولة ونموها المستدام (التوفر الآني على الإحصائيات الديمغرافية). لقد تم تعميم إجبارية التصريح الأولي المؤسساتي بكل الأحداث الديمغرافية وبما يترتب عن الأحكام القضائية والأذون الإدارية من تغييرات قانونية لبيانات رسومها. لقد اعتبرت الدولة، بهذا المشروع الوطني الرائد، تسجيل كل الولادات والوفيات، وما يرتبط بهما من مصالح ذاتية وعمومية، بمثابة ركيزة أساسية في العمل العمومي والخاص. الوليد والمتوفى هما من سلالة الأسر والوطن في نفس الوقت. وبذلك يكون التسجيل الشمولي لأحداث ووقائع الحالة المدنية من مسؤولية الدولة بامتياز.

بهذه الأرضية المعلوماتية، كنظام مركزي مندمج، تيسر فعليا وإجرائيا لمختلف السلط الرسمية بالبلاد تسجيل كل الوقائع المدنية الأساسية للأفراد من ولادة ووفاة وزواج وانحلال ميثاق الزوجية، وضبط جميع البيانات المتعلقة بها من حيث نوعها وتاريخ ومكان حدوثها. لقد اتخذت كل الإجراءات المطلوبة قانونيا لتطوير عملية سيولة تبادل وتضمين البيانات والمعلومات الهوياتية والتخطيطية بين المؤسسات المعنية بها. من خلال مقتضيات القانون رقم 36.21 ومرسومه التطبيقي 2.22.04 يتبين بجلاء أن الدولة قد رسمت كأولوية الأولويات في نموذجها التنموي الجديد تحقيق الاندماج الكلي للمقاربات الأمنية والحقوقية والتنموية وتعمل على ارتقائه ليصبح وعاء قانونيا واقتصاديا وثقافيا في خدمة المستقبل. فبتحقيق الالتحام المثمر الدائم والمؤمن (الحرص على ضمان الطابع الفوري للتصاريح الأولية وتأمين قاعدة المعطيات الشخصية) بين المنظومة الرقمية الوطنية وبوابة الحالة المدنية، سيتحول هذا النظام في الآجال القريبة إلى وعاء متطور لترسيخ الضبط الأوتوماتيكي لتفعيل البرامج التنموية والقوانين المؤطرة في مختلف المجالات الحيوية للوطن (الهوية الإلكترونية وتسهيل المعاملات القطاعية وتطوير العلاقات الدولية).

إننا بصدد بناء نسق رقمي جامع للإرادات والأهداف، ومحدد بطبيعته للمسؤوليات في كل الميادين. الآنية كصفة أصبحت ملتصقة بالالتزام بالمسؤولية والشفافية تحولت إلى أمر واقعي معتاد . لقد مكن هذا النسق من تفعيل المقاربة التشاركية بالحس الوطني المطلوب. كل أفعال ومبادرات الإدارات والمؤسسات والهيئات العمومية والجماعات الترابية والهيئات الخاصة المؤهلة سيتم التعبير عنها بكامل المسؤولية في إطار حماية سلطة الدولة وخدمة الوطن.

الدولة المغربية اليوم تبذل أقصى الجهود لتغطية التراب الوطني بشبكتين رقميتين، الأولى داخلية خاصة (Intranet) لربط كل مكاتب الحالة المدنية الترابية بالمنظومة الرقمية الوطنية، والثانية عمومية تتعلق بتعميم ربط المجالات الترابية بشبكة الانترنيت (internet). لقد استحضر القانون الجديد في مضمونه وبنيته وأهدافه تقريب الإدارة من المواطنين. فإضافة إلى عقلنة وتسهيل مسطرة إحداث مكاتب جديدة للحالة المدنية، والحفاظ على الأدوار الريادية التي يلعبها رؤساء مجالس الجماعات وطنيا بصفتهم ضباط الحالة المدنية الأصليين، سيصبح ممكنا لأصحاب المصلحة القانونيين الاستفادة من جيل جديد من الخدمات عن بعد ومن أي مكتب للحالة المدنية داخل المملكة أو خارجها.

خطاب العرش لسنة 2023 هام للغاية. الجدية خاصية مغربية تاريخية. ناقوس زمن التحولات العميقة قد دق بقوة هذه المرة في إطار التراكم. السجلات الإلكترونية المختلفة، بما في ذلك سجل التصريح بالممتلكات على أساس الهويات المضبوطة بأصولها وفروعها، ستتم تعبئتها والمصادقة عليها في الآجال القريبة. الشفافية والمسؤولية بالإلكترونيات وبنخب تدبيرية جديدة ستتحول إلى أساس دائم  للتخليق والتنمية المستدامة.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…