يثار من حين لآخر، في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، موضوع الفتنة في العلاقة المتأزمة بين المغرب والجزائر، وكأن الأزمة طارئة وتحتاج إلى مبادرات مستعجلة، يقوم بها إخوة وأصدقاء من أجل تطويقها ومنعها من التطور والاستفحال؛ بينما يسجل التاريخ أن عمر هذه الأزمة يقارب خمسة عقود؛ كما يسجل أن اليد المغربية الممدودة لم تجد من النظام الجزائري إلا الصدود والممانعة.
لذا، نعتقد أن الخوض في هذا الموضوع (أي الفتنة)، لم يعد له من مبرر، ولا معنى له إلا إذا وضعناه في سياقه التاريخي وتطرقنا لأسبابه الحقيقية مع الحرص على التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه؛ وإلا فإن الحديث عن الفتنة يصبح موضع الشك والريبة، والخائض فيه لن يكون إلا مخادعا أو مخدوعا.
ولهذا، يتعين التمييز بين الخائضين فيه وتصنيفهم إلى مخادع ومخدوع. وهكذا، نضع في صنف المخادعين كل المفروض فيهم أنهم عارفون بأصل المشكل ويتغاضون عن الحقيقة، نفاقا أو خُبثا؛ بينما نضع في صنف المخدوعين من نعتقد أنهم يطرحون الموضوع بحسن نية إما لجهلهم لأسباب الأزمة أو لسذاجتهم وعدم قدرتهم على إدراك هذه الأسباب وتمثلها. وقد يتفرع كل صنف من هذين الصنفين إلى فئات متنوعة حسب الوضع الاجتماعي والمستوى الثقافي والوعي السياسي، وكذا حسب الحالة النفسية والعاطفية، سواء منها الفردية أو الجماعية.
فمثلا، حينما يتهم جزائريون مغاربة، في وسائل التواصل الاجتماعي، بزرع الفتنة بين الشعبين الجزائري والمغربي، ويكون السبب هو انتقاد المغاربة للنظام الجزائري على عدائه للمغرب وحقده وافتراءاته وتهجماته وإساءاته المتكررة، فإن هؤلاء الجزائريين لا يمكن تصنيفهم إلا في خانة المخادعين والمضللين، ما لم يكونوا من المخبولين الفاقدين للتمييز والغارقين في الجهل، المغيبين عن الواقع بفعل التْبَرْديع الذي يمارسه عليهم النظام وأبواقه منذ عقود.
فكيف للجزائري أن يجرؤ على اتهام جاره المغربي بإثارة الفتنة، وهو يعلم أن نظام بلاده جعل من معاداة المغرب عقيدة بنى عليها كل سياسته الداخلية والخارجية؟ وحتى لو قبلنا الحوار والنقاش في هذا الموضوع، فهل يجوز أن نساوي بين المعتدي والمعتدى عليه؟ ألا يحق لنا أن نتساءل إن كان في الأمر غباء أم تغابي؟ وقد نتساءل، أيضا، إن كان الجزائري يعي ما يقوله، أم يردد فقط ما لُقِّن له أو يسمعه في محيطه كما يفعل الببغاء…
وقبل أن نتناول موضوع المخادعين والمخدوعين من خارج الجزائر، لا بد من الإشارة إلى أن إعلام النظام الجزائري، الرسمي منه وشبه الرسمي، يجعل من الإساءة للمغرب (دولة وشعبا، ثقافة وحضارة) خطه التحريري الثابت؛ بينما الإعلام الرسمي المغربي يتجاهل تجاهلا تاما ما يصدر عن هذا الإعلام من إساءات وافتراءات؛ فلا يرد ولا يعير أي اهتمام للتجاوزات الأخلاقية والمهنية لهذا الإعلام؛ فقط رواد التواصل الاجتماعي، غيرة منهم على وطنهم وثقافته وحضارته ومؤسساته، هم من يتكلفون، تلقائيا، بالرد على ترهات وحماقات إعلام النظام العسكري الجزائري الفاشل وأبواقه.
هناك، إذن، فرق شاسع بين نظام البلدين. فنظام الجزائر، الذي يعادي مصالح المغرب الوطنية والترابية بشكل مباشر منذ ما يقرب من نصف قرن، تحول لديه جاره الغربي إلى العدو الكلاسيكي، وتحول هذا العداء لديه ولدى الكثير من أفراد الشعب الجزائري، بفعل “البروباكاندا” و”البَرْدَعة”، إلى عقيدة وعقدة. وهذه العقيدة يعتنقها الكثير من البسطاء ومن النخب، لا فرق في ذلك بين الوزير والغفير أو الخبير، ولا بين الباحث وعامل النظافة، ولا بين المحلل والمُطبل، ولا بين الإعلامي والسياسي، ولا بين الرياضي والمتسكع، ولا… ولا…وهكذا تحولت هذه العقيدة إلى عقدة مزمنة، اسمها متلازمة “المروك”.
لكن إثارة موضوع الفتنة، لا يقتصر على الجزائريين فقط؛ بل هناك بعض المغاربة البسطاء، حتى لا أقول السُّذج، الذين يغترون بشعار “خاوة، خاوة”، وينسون أو يتناسون ما فعله ويفعله النظام الجزائري وأبواقه من إساءة في حق الشعب المغربي ونسائه ومؤسساته وتراثه. وقد أصبح هؤلاء، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، يتناقصون تدريجيا بفعل ما يرونه من حماقات وقذارات في الإعلام الجزائري، مع العلم أن المغاربة، بصفة عامة، لا يضمرون أي عداء للشعب الجزائري؛ بل يستغربون لما يرونه من مظاهر الفقر والعوز في بلاد البترول والغاز، ويتألمون لما يعانيه هذا الشعب من أجل الحصول على كيس حليب أو قارورة زيت أو قارورة غاز أو كيس دقيق أو كيلو بطاطا أو بصل وغير ذلك من المواد الأساسية الضرورية لسد الرمق ومحاربة الجوع؛ ومع حلول الصيف، ازدادت معاناة الجزائريين بفعل العطش، نظرا لندرة المياه. ويحدث كل هذا في القوة الضاربة، الدولة القارة، القوة العدمى (عفوا العظمى)، حظيرة الكبار، الغنية بثرواتها الطبيعية وأراضيها الفلاحية الشاسعة…
فإثارة موضوع الفتنة بين المغرب والجزائر، لن تكون، إذن، إلا من مخادع أو مخدوع، سواء كان المثير لهذا الموضوع جزائريا أو مغربيا. أما حين يُثار من قبل بعض المشارقة أو بعض المنظمات العربية ذات الطابع الديني أو الثقافي أو الاجتماعي أو غيره، فلن يخرج أصحابه عن نفس التصنيف؛ فإما مخادعون أو مخدوعون.
فالإعلامي أو المسؤول السياسي الذي يثير هذا الموضوع دون التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه، لن نضعه إلا في خانة المخادعين؛ ذلك أن الإعلامي والسياسي مفروض فيه الإلمام بطبيعة الصراع وتاريخه وأسبابه وأهدافه. لذلك، يعتبر تناوله للفتنة دون التمييز بين الطرفين (الجلاد والضحية)، تحيزا ونصرة للظالم. ولا نعتقد أنه يفعل ذلك عن جهل؛ بل عن سبق إصرار. وحين يُثار هذا الموضوع من قبل شخص عادي، فسوف نضعه في خانة المخدوعين، عملا، من جهة، بقرينة البراءة؛ ومن جهة أخرى، عملا بمبدأِ الحفظ لفائدة الشك (حسب لغة المحاكم).
ولما تخوض في هذا الموضوع منظمة ذات طابع روحي وسياسي، فلا يمكن وضعها إلا في خانة المخادِعين؛ ذلك أنها تتجاهل تاريخ الأزمة وتساوي بين الظالم (بينما البادئ أظلم) والمظلوم (المعتدى عليه في أرضه وتاريخه وحضارته ومؤسساته). فكيف لمثل هذه المنظمات وبمثل هذه المواقف، أن تدعي إسداء النصح أو القيام بالوساطة لتقريب وجهتي نظر الطرفين؟ إن تجاهل الأسباب وغض الطرف عن المسببات، لهو إعلان، بوعي أو بدونه، عن التحيز لجانب المعتدي والاصطفاف وراءه.
خلاصة القول، الخوض في موضوع الفتنة بين المغرب والجزائر، لا يحتمل لا الطرح الساذج ولا الطرح المخادع؛ فكلاهما مضللان، وإن بدرجات متفاوتة. فإن كان من الممكن أن نجد بعض العذر للطرح الساذج (طرح المخدوعين)، فلا عذر للمخادعين الذين يتخذون من الكذب على التاريخ نهجا لهم ومن المساواة بين الجلاد والضحية وسيلة للتضليل والخداع.
طنجة في 25 يوليوز 2023