تُعْرَفُ السلفيّة في سياقها الفكريّ العام, بأنها منهج فكري يدعو إلى فهم النص المقدس, (الكتاب والسنة), وفقاً لما فهمه سلف الأمّة في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى، وهم صحابة النبي الكرام، والتابعون، وتابعوا التابعين, باعتبارهم يمثلون نهج الإسلام الصحيح، وهذا الفهم لمصطلح السلفيّة, تبنته القوى الإسلاميّة السياسيّة الجهاديّة ممثلة بعدد كبير من الفصائل والأحزاب الإسلامية المعاصرة كالإخوان وداعش والنصرة وجند الشام والقاعدة وبوكو حرام, وغيرهم ممن ظهر على الساحة العربيّة والإسلاميّة, وخاصة مع ما سمي بثورات الربيع العربيّ بشكل خاص, أو قبل هذه الثورات بشكل عام.

     إن ما يهمنا في الحقيقة في هذه الدراسة هو تسليط الضوء بشكل أوليّ على الخطاب الإسلاميّ السياسيّ كما يطرحه “الإخوان المسلمون” عبر منظري دولتهم المنشودة وأخص بالذات هنا أحد المنظرين الجهاديين للحاكميّة “سعيد حوا” في كتابه “الإسلام”. الذي حدد فيه المنطلقات الأساس التي يجب على المسلمين اتباعها لتحقيق دولة الإسلام المثلى وهي:

     1- لكي يستقيم أمر الإسلام, لا بد له من حكومة تقيه وترعاه وتحميه. أي لا بد له من إطار سياسي وعملي تمثله هنا الدولة.

      فالحكومة أو الدولة, ضرورة حتميّة من أجل حفظ العقيدة وحمايتها من عبث العابثين ولهو اللاهين المارقين وشبه الكافرين. أي هي حكومة ذات توجه واحد هو الإسلام الذي لا يقبل بالمختلف, الذي يعتبر هنا كافراً أو زنديقاً أو منحرفاً أو غير ذلك  من صفات لا تليق بأنموذج المسلم الذي سيقود هذه الدولة.

     2- والحكومة ضروريّة لإقامة حكم الردة على المرتدين. أي (من بدل دينه فاقتلوه).  أخرجه البخاري. فسرير بروكست, (1) والمقصلة هي الحل أمام من يبدل دينه, فلا رأي ولا عقيدة غير رأي الإسلام وعقيدته وفق فهم الحوا.

     3- والحكومة ضرورة أيضاً من أجل إقامة العبادات, فالكسالى عن الصلاة يؤدبون. والممتنعون عن الزكاة يغرمون ويعزرون, وتاركي الصيام يعاقبون, والمقصرون عن الحج وهو باستطاعتهم يزجرون. وهي بهذا المعنى حكومة (مطاوعة), لمسنا تطبيقاتها العملية وفق هذا التصور في دولة داعش التي امتدت إلى مناطق كثيرة في سوريّة والعراق, وقبلها في السعوديّة قبل انقلاب محمد بن سلمان على الفكر الوهابي.

     4- والدولة الإسلاميّة ضرورة لحفظ الأرواح (كتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة 178. (ولكم في القصاص حياة يا ألي الألباب لعلكم تتقون.) البقرة 179. فالقصاص هنا أو الحسبة, أمر يُشرع الحكم فيه وفقاً لقيم وأخلاق ومثل القرون الهجريّة الثلاثة الأولى, دون مراعاة لخصوصيات العصر وحالات التطور والتبدل التي أصابت المجتمع.  

     وهي ضرورة لحفظ أعراض الناس (الزاني والزانيّة فاجلدوا كل واحد منهم مئة جلدة ). النور- 2. والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ). النور – 4.

     وهي ضرورة لحفظ الأموال ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). البقرة 188. وأعتقد هنا أن أكل الأموال يأتي من خلال حالات فرديّة كالسرقة وأكل مال اليتيم على سبيل المثال لا الحصر, وليس على مبدأ النظر في تناقضات المجتمع والصراعات الطبقيّة التي تدور بين استغلال المالك للمنتج.

     5- وهي ضرورة لإقامة الجهاد ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدو فيكم غلظة). التوبة – 123. وهذا الفهم في الجهاد سيشمل الذين جئنا عليهم وفقاً للبند  أعلاه.  وهم العابثون واللاهون والمارقون وشبه الكافرين. هذا إضافة إلى حمل مشروع الجهاد الذي مثلته مرحلة نشر الإسلام في مراحله الأولى أو ما سمي بالفتوحات الإسلاميّة.

     6- وهي ضرورة كي تكون كلمة الله هي العليا. فإن الإسلام مالم تكن له حكومة تحمله وتحميه يكون ذليلاً, والنفوس تجد الانطلاق والانفلات إلى كل شهوة وهوى : (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.). ( المؤمنون – 71.). فلا بد إذن من حكومة تصرف الناس عن الهوى إلى الاستقامة. وقديماً قال الخليفة عثمان: ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

     هذا ويأتي الإسلام عند “سعيد حوا” هو الصورة الوحيدة للتقدم البشري في كل زمان ومكان.  وغير المسلم لا يؤتمن على حريّة العقيدة, ولا يؤتمن على العدل, ولا قانون ولا حق ولا مصلحة. (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). المنافقين – 8. (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). 139. (2).

     إذاً بناءً على ما حدده ” سعيد حوا”  من معطيات جئنا عليها أعلاه, ترمي إلى ضرورة بناء الدولة الإسلاميّة المعاصرة, نستنتج مجموعة من السمات والخصائص التالية المتعلقة بهذه الدولة المنشودة إذا ما قامت, أهمها:

    1- انحسار العقل عند من يتبنى إقامة هذه الدولة, عما كان عليه في الحركة الاصلاحيّة الأولى التي اشتغل عليها “الأفغاني”  و”محمد عبده”, وتركيزهم على أهمية الايمان والتسليم المطلق قبل استخدام العقل والبحث عن الحقيقة, مما يجعل هذه القوى الدينيّة السياسيّة ذات توجه استسلاميّ وثوقيّ,  أكثر منه توجه عقلانيّ نقدي, كون توجهاتهم الدينيّة تبدأ من الايمان كمسلمة لا تقبل النقاش والحوار حول العقيدة المطلقة الصحة وقداستها. وهذا التوجه الفكري والسلوكي ساهم كثيراً في سيادة العاطفة والتعصب وضيق الأفق  والتصلب في الرأي, ورفض الحوار مع المختلف.

     2- تبني فكرة “الحاكميّة لله” كأساس للدولة الإسلاميّة, وهذا التبني سيعمل بالضرورة على تقوض أنظمة الحكم القائمة على التشريع الوضعي أو بعضه, من حيث عدم شرعيّة وجودها,  مع غياب فاضح عند هذه القوى لعمليّة بحث طبيعة  النظم الحاكمة بحثاً موضوعيّاً, على اعتبار أن  ليس كل ما في هذه الأنظمة هو من حكم الشيطان, وأن  كل قوانينها المطبقة هي قوانين كفر, وأن المجتمع الذي يسير وفق هذه الأنظمة وقوانينها هو مجتمع الجاهليّة, وهذا ما رسمه “سيد قطب” أيضاً في عقليّة جماعة الإخوان, وكذلك “أبو الأعلى المودودي”. علما أن في هذه الأنظمة الوضعيّة التي (كُفِّرَت) من قبل هذا التيار, فيها ما يتفق مع الشرع الإسلاميّ, وفيها ما يخالف الشرع, وهي الفكرة التي استخدمت كأهم معول في قتل أو اغتيال الكثير من القادة السياسيين المنتمين لهذه الأنظمة الوضعيّة الحاكمة على مستوى الساحة العربيّة والإسلاميّة من قبل الجناح العسكري  لهذه القوى الإسلاميّة  المتعصبة.   

     3- إقامة الدولة الإسلاميّة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة كما تفهمها نخب هذه القوى الإسلاميّة الوثوقيّة, تنفيذاً لقانون إلهيّ وطاعة للإرادة الإلهيّة, دون إبراز لمصلحة الجماعة أو العامة (أي الشعب) الذي هو أساس التشريع. ودون النظر إلى الأضرار التي قد تنجم عن هذا التطبيق في المجتمعات المعاصرة, إذا ما كان تطبيقاً فورياً صوريّاً مفروضاً دون تهيئة الظروف الملائمة له والإعداد الصحيح لذلك. وهذا ما أوقع أصحاب هذا التيار في إشكالات تطبيقيّة انعكست سلباً على حياة الناس الذين راح معظمهم يتخذ موقفاً سلبياً من الدعوات الجهاديّة بشكل عام.

     إن الشريعة الإسلاميّة وفق رؤيتهم الوثوقيّة الاستسلاميّة وتطبيقاتهم في بعض الدول التي وصلوا فيها إلى السلطة, كانت تعني (الحدود), أي الحسبة أو تطبيق العقوبات, أي المحرمات دون المباحات, ومطالبة المسلم بواجباته قبل إعطائه حقوقه الطبيعيّة التي حددها لها النص المقدس نفسه, كحق الحياة والرأي, (تجربة داعش).

     4- إحداث التغيير الاجتماعيّ من خلال إحداث انقلاب على السلطة القائمة والاستيلاء عليها عملاً بمقولة عثمان بن عفان: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). ودون الانتظار في التمهيد للدعوة والتبشير بها, وتثقيف الناس بأهدافها ومدى إيمانهم بأفكارها. لذلك جاءت الدعوة على رقاب الجماهير بدلاً من أن تأتي على اكتافهم. هذا وإن وجد حالات من التثقيف أو النشر الفكري بين من انضم لهذه لهذا التنظيم, فهو تثقيف يشتغل كثيراً على تكفير المختلف وليس البحث عن القواسم المشتركة معه. والعمود الفقري لهذه القواسم هي مقاصد الدين الخيرة التي نزل أو جاء هذا الدين من أجلها.

     5- استخدام العنف في التغيير عن طريق الأجهزة السريّة والجهاديّة للتنظيم, وهذا ما ادخلها في صراع مع الدولة القائمة الوضعيّة.

     6- الوقوع في جدل الكل أو لا شيء, فإما أن يُقبل النظام الإسلامي كله أو يرفض كله. أي رفض الدولة العمانيّة ككل.

     7- طريقة تفكيرهم هذه أو سلوكياتهم, حولت أصحاب هذا التيار إلى قوى خارجة عن القانون بنظر الدولة الحديثة, حيث راحت تتبعهم الأجهزة العسكريّة والأمنيّة وتنكل بهم وتزج دعاتهم والناشطين منهم في السجون, وهذا ما أخاف الشعب من الإخوان أو الاقتراب منهم.

     8- اتسام نظام الجماعة بالنظام الهرميّ, الذي يستخدم الطاعة المطلقة من القاعدة إلى القمة, وبذلك يكون النظام قد توجه توجها سلطوياً أوامرياً.

     9– رغم عداء الجماعة للاستعمار الغربي, وللنظام الشيوعيّ او الاشتراكي أو القومي, إلا أنها راحت في فكرها وممارساتها ضحية التصور الرأسماليّ للعالم, حيث ركزت على اقتصاد السوق والتجارة والربحيّة والملكيّة. فهو كله رزق من عند الله يعطيه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء وطبقاً للجهد. وقد اتخذوا من الصحابة قدوة في العمل التجاري كعثمان بن عفان  وغيره من أغنياء قريش قبل الإسلام وبعده. (3).

     إن كل هذه التوجهات الفكريّة للخطاب السياسي الإسلامي السياسي, عبر عنها حسن البنا في هذه النقاط الثلاثة الأساسيّة وهي:

     آ- إن الإسلام نظام شامل يطور نفسه بنفسه تلقائياً. والإسلام هو الطريق الأساس والنهائي للحياة بكل مجالاتها المختلفة.

     ب- إن الإسلام ينبثق ويرتكز على مصدرين هما : القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة.

     ج- الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومكان, أي هو أيديولوجيا شاملة يقدم نظاماً قادراً تماماً على تنظيم كافة تفاصل الحياة السياسيّة. (4).

كاتب وباحث من سورية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهومش:

1- بروكرست: شخصية من المثيلوجيا اليونانيّة، كان يعمل حداداً وقاطع طريق من أتيكا، وكان يهاجم الناس ويقوم بمط أجسداهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوال أجسامهم مع سريره حديدي. ويطلق عادة  لفظ البروكرستية, كنزعة فكرية وعمليّة على الذين «يفرضون قوالب جاهزة» على الاشياء (الاشخاص أو الافكار..) أو ليّ الحقائق وتشويه المعطيات, لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق هم رسموه. راج الويكيبيديا.

2- حوا – سعيد – (كتاب (الإسلام) – إصدار دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – ( ص 325 وما بعد.).

3- للاستزادة في هذا الاتجاه يراجع كتاب: حنفي – حسين – “الدين والثورة في مصر –  الأصولية الإسلاميّة -1952 – 1981 –”  مكتبة مدبولي- القاهرة –-ص33 وما بعد.

4- راجع دراستنا (قراءة نقدية في كتاب معالم في الطريق لسيد قطب.) نشرت في العديد من المواقع الالكترونية. منها صحيفة المثقف وساحة التحرير .

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …