بعدما خصصت كتابا كاملا تحت عنوان “عبد الرحمان اليوسفي، زعيم سياسي بحجم وطن”، الصادر عن مطبعة القلم بالرباط في شهر أبريل 2023، للوقوف على أهم المحطات السياسية التي ميزت مسار المغرب المستقبل، والتي لعب فيها زعيم حزب الوردة أدوارا ريادية من الصبا إلى النهاية المحتومة، أعود هذه المرة لإبراز انشغال هذا الرجل الاستثنائي بمصير الطفولة المغربية وهو يقود الجهاز التنفيذي المغربي. فقبل مغادرته كرسي الوزير الأول، وقع بالعطف عن الظهير الشريف رقم 1.02.172 الصادر في فاتح ربيع الآخر 1423 الموافق ليوم 13 يونيو لسنة 2002 بتنفيذ القانون رقم 15.01 المتعلق بكفالة الأطفال المهملين. لقد جعل من تقنين الكفالة آلية قانونية لتوسيع مفهوم الأسرة ليشمل، إضافة إلى الوالدين والأبناء الشرعيين، الأطفال المكفولين. حماية للحمة الاجتماعية وتقوية التحامها بالوطن والعرش، تمت صياغة هذا القانون بمنظور امتداد الحماية الاجتماعية والنفسية لتشمل كل الأطفال من يوم ولادتهم إلى بلوغهم سن ثمان عشرة سنة شمسية كاملة. أكثر من ذلك، لقد ربط هذا القانون الحق في الكفالة بالالتزام برعاية طفل مهمل وتربيته وحمايته والنفقة عليه كما يفعل الأب مع ولده الشرعي.
لقد استحضر اليوسفي بقانونه هذا كل فئات الطفولة في وضعية صعبة بدءا من مجهولي الأبوين أو المولودين من أب مجهول وأم معلومة تخلت عنه بمحض إرادتها، والأيتام، وأبناء الأسر الشرعية العاجزة عن رعاية أبنائهم بسبب عوزهم وجهلهم وفقرهم المدقع، وحتى أبناء الأبوين المنحرفين اللذين لا يقومان بواجبهما في الرعاية والتوجيه من أجل اكتساب سلوك حسن. لقد فكرت حكومة التناوب التوافقي حتى في ظاهرة سقوط الولاية الشرعية، وإخلال أحد الأبوين بواجبه بعد فقد الآخر.
تعبيرا على ضمان الدقة في الإجراءات الحامية لهذه الفئة من الأطفال مع الأخذ بعين الاعتبار لمصلحتهم الفضلى، ربطت حكومة التناوب التوافقي بين العثور على الطفل وتأكيد حالة إهماله ورعايته مؤقتا من جهة أولى، وتفصيل شروط الكفالة ومسطرة إقرارها وتتبعها والتأكد من بداية الرعاية واستمرارها من جهة ثانية، وتسجيل بيان الكفالة في رسم ولادة المكفول(ة) والتدخل القضائي السريع لإنهاء وضعية الكفالة في حالة انتفاء شروط استمرارها من جهة ثالثة.
الإثبات القضائي للإهمال والولاية وحماية الطفل صحيا واجتماعيا
لقد ألزم المشرع كل مغربي عثر على طفل مهمل بأن يقدم له المساعدة والعناية التي تتطلبها حالته، وأن يبلغ على الفور مصالح الشرطة أو الدرك أو السلطات المحلية لمكان العثور عليه. كما أقر نفس القانون معاقبة كل من امتنع عن أن يقدم لطفل وليد مهمل المساعدة أو العناية السالفة الذكر أو عن إخبار الجهات المختصة. مباشرة بعد هذا الإبلاغ، يتدخل وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية الواقع بدائرة نفوذها مقر إقامة الطفل، أو مكان العثور عليه، بإيداع الطفل مؤقتا بإحدى المؤسسات أو المراكز الرسمية المختصة. تعمق هذه المؤسسة القضائية المحورية في النسق المؤسساتي المغربي البحث خلال فترة زمنية محددة، وتعجل بتقديم طلب التصريح بأن الطفل مهمل إلى المحكمة المعنية مدلية بعناصر البحث الذي أجرته، ثم تقوم بالإجراءات الرامية لتسجيله بنظام الحالة المدنية.
لإتمام مسطرة إثبات حالة الإهمال، خاصة في حالة الأطفال مجهولي الأبوين، يتم استصدار حكم تمهيدي يتضمن كافة البيانات اللازمة للتعريف بالطفل وكذا أوصافه ومكان العثور عليه. يعلق الحكم في كل الأماكن الهامة لمدة ثلاث أشهر لإتاحة الفرصة لأبوي الطفل، في حالة ندمهما أو تفاهمهما أو ضياعه منهما لسبب من الأسباب، أن يتعرفا بنفسهما عليه ويطالبا باسترداده. الحكم بالإهمال لا يتم إلا بعد انصرام المدة السالفة الذكر. عندئذ، توجه نسخة من الحكم، بطلب من وكيل الملك أو من الشخص الذي يطلب كفالة الطفل، إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين. هذا الأخير يباشر على الفور مهام الولاية طبقا لأحكام النيابة الشرعية والنيابة القانونية المنصوص عليهما في مدونة الأسرة وفي قانون المسطرة المدنية. إنها الإجراءات التي تخول لوكيل الملك من إيداع الطفل مؤقتا بإحدى المؤسسات الصحية أو بأحد مراكز أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية الرسمية المهتمة بالطفولة أو لدى أسرة أو امرأة تتوفر فيها شروط المطلوبة وترغب في كفالته أو في رعايته فقط.
تفصيل شروط الكفالة ومسطرة إقرارها وتتبعها والتأكد من بداية الرعاية واستمرارها
بعد إثبات حالة الإهمال لا يمكن تسليم الطفل بمقتضى كفالة قانونية إلا للزوجين المسلمين البالغين سن الرشد والصالحين للكفالة أخلاقيا واجتماعيا وماديا، ولم يسبق الحكم عليهما معا أو على أحدهما من أجل جريمة ماسة بالأخلاق أو جريمة مرتكبة ضد الأطفال، وأن يكونا سليمين من كل مرض معد أو مانع لتحمل مسؤوليتهما، وأن لا يكون بينهما وبين الطفل الذي يرغبان في كفالته أو بينهما وبين والديه نزاع قضائي أو خلاف عائلي. كما يحق للمرأة المسلمة التي توفرت فيها الشروط الأربعة أعلاه أن تكون كافلة.
رعاية الطفولة إلى حين استصدار أحكام الكفالة من مسؤولية الدولة. يسلم الطفل في حالة التنافس على كفالته للزوجين اللذين ليس لهما أطفال، أو للقادرين على توفير أفضل ظروف الحياة له (توفر الزوجان على أطفال تحت شرط تحقيق المساواة لا يصنف في خانة الموانع). درءا لتشرد الأطفال ومنعا لتحويلهم إلى أطفال شوارع، ممارسة الطفل لحقه في الموافقة على كفالته بعد تجاوزه اثنى عشرة سنة شمسية كاملة تلغى إذا كان طالب الكفالة مؤسسة عمومية مكلفة برعاية الأطفال، أو هيئة أو منظمة أو جمعية ذات طابع اجتماعي معترف لها بصفة المنفعة العامة.
هكذا، إسناد الكفالة لا يتم إلا بعد أن يجري القاضي المكلف بشؤون القاصرين المختص بحثا مفصلا مدعما بالوثائق المثبتة لاستيفاء الشروط المبينة في المادة التاسعة من القانون أعلاه، وبنسخة من رسم ولادة الطفل المراد كفالته. باستصدار حكم قضائي في هذا الشأن يعين الكافل مقدما عن المكفول.
مزيدا من الحرص على ضمان حقوق الطفل، أقر المشرع إمكانية استئناف حكم كفالة. لقد حدد مهلة خمسة عشر يوما قبل وضع طابع الصيغة التنفيذية عليه والأمر بتسليم الطفل رسميا إلى الكافل. يحرر محضر بهذا الشأن ويسلم الطفل بحضور ممثل النيابة العامة والسلطة المحلية والمساعدة الاجتماعية المعنية عند الاقتضاء. يحرر المحضر في ثلاث نظائر، يوجه أحدهما إلى القاضي المكلف بشؤون القاصرين، ويسلم الثاني إلى الكافل، ويحتفظ بالثالث في ملف التنفيذ.
تسجيل بيان الكفالة في رسم ولادة المكفول(ة) والتدخل القضائي السريع لإنهاء وضعية الكفالة في حالة انتفاء شروط استمرارها
بعد التأكد من عملية التسلم النهائي، يسهر القاضي المكلف بشؤون القاصرين، بعد انقضاء أجل شهر من تاريخ إصدار حكم الكفالة، على ترسيم الوضعية الجديدة للطفل في رسم ولادته. يرسل وجوبا الأمر بإسناد الكفالة أو بإلغائها أو باستمرارها إلى ضابط الحالة المدنية الماسك لرسم ولادته. يقوم هذا الأخير بتنفيذ الأمر الوارد عليه عبر القنوات الرسمية المعروفة بتحرير البيان الهامشي في طرته طبقا للمقتضيات المتعلقة بالحالة المدنية. ابتداء من تاريخ التسليم الرسمي، يسهر القاضي المختص على تتبع أوضاع الطفل وظروف تنشئته طبقا للمقتضيات القانونية الواردة بمدونة الأسرة المتعلقة بحضانة ونفقة الأولاد. تستمر الرعاية إلى أن يبلغ الذكر سن الرشد وإلى أن تتزوج الأنثى. يستفيد الكافل من التعويضات والمساعدات الاجتماعية المخولة للوالدين عن أولادهم من طرف الدولة أو المؤسسات العمومية أو الخصوصية أو الجماعات المحلية وهيئاتها. بالموازاة أتاح المشرع للكافل إمكانية تخصيص هبة أو وصيه أو تنزيل أو صدقة للمكفول(ة) بعقد قانوني يسهر على إعداده القاضي المختص.
أكثر من ذلك، أحاطت حكومة عبد الرحمان اليوسفي تنفيذ هذا القانون بكل الضمانات الممكنة الحامية للطفولة المهملة، بحيث تطرقت إلى كل الجوانب والخيارات الممكنة المتعلقة بهذا الموضوع، والتي نذكر منها:
- التتبع يستمر داخل المغرب وخارجه: لقد ربط المشرع إمكانية السفر بالطفل المكفول للإقامة الدائمة خارج المملكة المغربية بالحصول على إذن يسلمه القاضي المكلف بشؤون القاصرين. ترسل نسخة منه بعد صدوره إلى المصالح القنصلية المغربية لمحل إقامة الكافل للقيام بدور تتبع وضعية الطفل المعني ومراقبة مدى وفاء كافله بالالتزامات القانونية مع ضمان التواصل بين المؤسسات القضائية المختصة داخل البلاد والهيئات القنصلية المعنية في شأن الحفاظ على مصلحة الطفل. يمكن للقاضي، بتنسيق مع القنصلية المختصة، اتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإلغاء الكفالة وحماية الطفل من أي ضرر محتمل.
- لا تلغى الكفالة بأمر قضائي إلا بشروط : عدم التزام الكافل بمسؤولياته المتعلقة بالرعاية، بلوغ المكفول سن الرشد وزواج البنت المكفولة (لا تسري هذه المقتضيات على الولد المعاق أو العاجز عن الكسب أو البنت غير المتزوجة)، موت المكفول، موت الزوجين الكافلين مع أو المرأة الكافلة، فقدان الزوجين الكافلين لأهليتهما معا، فقدان المرأة الكافلة لأهليتها، حل المؤسسة أو الهيئة أو المنظمة أو الجمعية الكافلة.
- في حالة انفصام عرى الزوجية بين الزوجين الكافلين، يتدخل القاضي المختص رسميا إما بالأمر باستمرار الكفالة لأحدهما أو باتخاذ ما يراه مناسبا من إجراءات في صالح الطفل المعني. لقد نظم هذا القانون حق الزيارة بالاستماع إلى الطفل إذا أدرك سن التمييز. إذا ارتفعت أسباب الإهمال، يمكن لأحد الوالدين أو كليهما استرجاع الولاية على طفليهما بمقتضى حكم.
- كل ممارسة تمس مبادئ التربية والرعاية والكرامة تعرض المعتدي لعقوبات زجرية (الحفاظ على حقوق وواجبات الوالدين والأولاد).
بالعودة إلى تفاصيل هذا القانون يتضح للقارئ بجلاء سعة رؤية حكومة التناوب التوافقي ونظرتها الشمولية المنهجية والمعرفية لتفصيل كل الحالات المفترضة وطرق معالجتها. لقد أحاط هذا القانون بكل الجوانب المتعقلة بموضوع الكفالة وحماية الطفولة المهملة. عبد الرحمان اليوسفي كان على بينة كون إهمال الأطفال وتحويلهم إلى أطفال شوارع يشكل خطرا كبيرا على أمن واستقرار المجتمع والدولة. البالغون يغضون الطرف ويعطفون على أطفال الشوارع، لكنهم يستاؤون من وجودهم كمنحرفين بعد بلوغهم سن الرشد. والحالة هاته، ونتيجة لتراكمات المصاعب في حياتهم الطفولية والشبابية، يصبح الأطفال المهملون بعد تجاوز سن الرشد عرضة للاستقطاب من طرف عصابات الإجرام والسرقة والمخدرات. الإهمال ظاهرة خطيرة ومستشرية في المجتمع المغربي وتشمل حتى الأسر الشرعية بأبوين متزوجين. تشديد المراقبة وتتبع أحوال الأطفال يتطلب يقظة عالية وموارد هامة وأرضية مؤسساتية وقانونية لإعادة الإدماج ومنظومة تربوية واضحة المعالم والمرامي.