عندما يتم الحديث عن السياسات الكونية، يتبادر إلى الذهن مباشرة انشغال مصادر القرار العالمي (المستخلفون أرضا) بمستقبل شعوبهم بشكل خاص والإنسانية بشكل عام. في نفس الآن هذا الانشغال تتمخض عنه في كواليس السياسة مفاوضات وتوافقات في شأن المصالح الحيوية وأسس وطبيعة زعامة أو زعامات قيادة التغيير كونيا (مسألة التقاطب). الصراعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تعتبر أمرا طبيعيا وحتمية تاريخية، لكن من الصعب التكهن بتحويلها إلى مصدر لهدم ما بنته القوى العالمية من حياة مزدهرة لشعوبها (الولايات المتحدة الأمريكية، الصين الشعبية، روسيا القيصرية، والهند الديمقراطية، والمجموعة الأوروبية). هناك انطباع كون استقطاب الكفاءات والنوابغ العلمية في مختلف المجالات لا يتم بطريقة عشوائية بل يتم على أساس ميثاق توافقي غير معلن يوجه من خلالها أصحاب المادة الرمادية إلى الفضاءات التي تستجيب لتطلعاتهم واهتماماتهم. الهندسة في هذا إطار المتحكم فيه تحتل مكانة مرموقة. فضاءات علومها زاخرة بالإبداعات لربط الكشوفات العلمية بواقع حياة الشعوب والأمم. أسرار الكون في الأرض والفضاء والبحار والمحيطات زاخرة بالخيرات والثروات الطبيعبة النفيسة. الكشوفات مكثفة في الوكالات البحثية والمختبرات المقاولاتية والجامعات والمعاهد المتخصصة….
كما أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، القوى العالمية تراكم الجهود بسرعة مبهرة لتحقيق السبق في الابتكار العلمي والتكنولوجيا. قطعت البلدان المتقدمة أشواطا بعيدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وما تتيحه من تحليل للبيانات وتحسين للقرارات وتجويد للتنبؤات وتنفيذ للمهام في مختلف المجالات الإنتاجية والمعرفية، خاصة الصحة والأدوية والزراعة والتجارة والتصنيع والتكنولوجيا الحيوية والطب الجيني ومختلف شعب العلوم الإنسانية. كل الدول الرائدة علميا تسعى إلى الوصول بسرعة فائقة لاستدراك التأخر في مجال الطب والصيدلة بحثا عن تطوير علاجات جديدة وحلول طبية مبتكرة. استخدام تقنيات التعديل الجيني في البحوث الطبية والزراعية أصبح أمرا طبيعيا.
في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، شبكات الجيل الخامس تغزو فضاء عيش الشعوب جنوبا وشمالا، وقدرات حماية البيانات الشخصية وتعميم الهوية الإلكترونية وضمان الأمان السيبراني في طريقهم ليصبحوا قدرا محتوما على الجميع. في نفس الآن الجهود تتزايد في مجال الطاقة المستدامة بحثا عن تعزيز الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات تحزينها وتحسين كفاءة استخدامها. وسائل النقل تعرف بدورها تطورا ملحوظا. السيارات الكهربائية تكتسح الأسواق بوثيرة عالية. وجودها محبذ جدا لكونها تعتبر صديقة للبيئة وملاذا للحيلولة دون تدمير الحياة أرضا. داخل المدن بمختلف أحجامها، التوصيل الذكي والمشاركة في نقل وتوزيع السلع والخدمات أصبح مدبرا إلكترونيا ببرامج وتطبيقات جد متطورة يتقاسمها المستهلكون والعملاء عبر شبكة الانترنيت. في هذا الشأن، كثافة مرور الدراجات الهوائية والنارية الكهربائية تزداد ارتفاعا يوما بعد يوم داخل المدارات الحضرية. في نفس القطاع، تطور الذكاء الاصطناعي في طريقه لتعميم تحويل السياقة اليدوية للسيارات والشاحنات والقطارات والطائرات والبواخر إلى قيادة ذاتية. لقد التحمت تقنيات الاستشعارات الروبوتية المرتبطة اللاسلكيا بالرادارات والأقمار الاصطناعية بهذا القطاع محققة أهدافها في مجال السلامة الطرقية والفضائية والبحرية. الطائرات بدون طيار ستتحول إلى وسيلة سريعة لنقل البضائع بأقل التكاليف والرفع من مستوى الكفاءة في الشحن والوصول حتى إلى المناطق النائية والوعرة.
أما المجالات العذراء التي تزخر بالثروات والخيرات فتتعلق بأعماق البحار والمحيطات والفضاء وكواكبه. لقد قطعت الإنسانية خطوات هامة في مجال تعميق المعرفة بالتنوع الحيوي في البحار والمحيطات، وفي فهم العمليات البيئية داخلها بما في ذلك دراسة أنواعها المائية وأنماط الحياة بها وتكيف الكائنات بيولوجيا في أعماقها. كما تشتد الأبحاث لاكتشاف مدى تأثير التغيرات المناخية على بيئة البحار والمحيطات وتياراتها وحرارة وحموضة مياهها وعلاقتها بالارتفاعات عن سطح الأرض. إن المتتبعين والمختصين يعتبرون أن ما تختزنه هذه الفضاءات من ثروات لا يعد ولا يحصى. لا يزال هناك الكثير من الكائنات البحرية غير معروفة بالكامل. تحتوي المحيطات على مواد غنية مثل الأسماك والمعادن والمركبات الكيماوية الثمينة. والحالة هاته، يعتبر اكتشاف الأعماق رهان البحث العلمي في الحاضر والمستقبل. أعماق الأنهار في الفضاء الأزرق والهوتسبوت والخنادق العميقة لا زالت مجهولة. الأبحاث في هذا القطاع تتواصل لاختراع التقنيات والروبوتات والغواصات ذات الأشعة تحت الحمراء لرصد كل صغيرة وكبيرة في هذه المناطق.
على مستوى الفضاء، الدول الرائدة تجاوزت الاهتمام بالقمر لتهتم كذلك بكوكب المريخ. في هذا الباب، تطوير الوكالات والمؤسسات الفضائية أصبح من الانشغالات الأساسية للدول القوية عالميا. كل الدول المتقدمة مشتركة اليوم في محطة الفضاء الدولية (ISS)التي تنخرط فيها ناسا بشكل فعال، وتساهم بشكل متواصل في تشغيلها وتمكين روادها في الفضاء من القيام بمهمات تطوير الأبحاث العلمية. تمويل الوكالات والمؤسسات الفضائية المعروفة يخضع بدوره لهاجس المنافسة والتسابق. الإدارة الوطنية للفضاء في الصين (التي تأسست سنة 1993) لا تدخر جهدا في تمويل تطوير تكنولوجيتها واكتشافاتها الفضائية والعلوم التطبيقية الهندسية المرتبطة بها. هذه المؤسسة تقود تنفيذ برنامج الفضاء المأهول، وتكثف عمليات اكتشافاتها الكوكبية، بحيث نجحت في جمع عينات من سطح القمر، ونجحت في إطلاق وتشغيل عدد كبير من الأقمار الصناعية لتطوير مجالات الاتصال والمراقبة البيئية والملاحية والتنقلات المختلفة.
بدورها الوكالة الفضائية الأوروبية تسعى للحفاظ على مكانتها الدولية بحيث تقوم بدورها بإطلاق المهمات الفضائية الخاصة بها وتشارك في المشاريع الدولية وتتعاون مع الوكالات الأخرى. روسيا، ذات الأبعاد الجغرافية الأوروبية، تتوفر على أقدم وأبرز وكالة اسمها روسكوسموس (1992). تستثمر بدورها بقوة في تطوير وإطلاق المهمات الفضائية وتنشيط البحوث لاكتشاف الكواكب والمراكب الفضائية. إلى جانب الناسا، تتوفر كندا على وكالة التي تقوم بنفس الأدوار وتهتم بنفس الانشغالات الدولية. انخرطت الهند في نفس المسار وأصبحت تتوفر على وكالة فضائية ناشئة ومتقدمة بالرغم من تأسيسها المبكر.
النجاح في اكتشاف كوكب المريخ أصبح انشغالا مؤرقا للدول العظمى. الولايات المتحدة الأمريكية أطلقت مهمة مارس بيرسيفيرانس (2020) باحثة عن أدلة وجود حياة قديمة على الكوكب الأحمر وفهم تاريخه الجيولوجي. كما أن الطموحات الدولية تجاوزت اليوم المجموعة الشمسية، بحيث أصبحت تهتم بجدية ملفتة بالكواكب الخارجة على النظام الشمسي. كما تستثمر في مشروع توجيه الكواكب الصخرية الصالحة للحياة. في مجال بذل الجهود لاكتشاف الفضاء العميق والكون البعيد ودراسة تكوين الكواكب والمجرات والثقوب السوداء تم اكتشاف تلسكوب جيمس ويب الفضائي. أكثر من ذلك أعطت الولايات المتحدة الأمريكية الانطلاقة لمهمة “باركر سولار بروب” التابعة لناسا لدراسة الشمس عن قرب وفهم الظواهر الشمسية مثل الانفجارات والرياح الشمسية.
استحضارا لما سبق يتبين أن المهندس يوجد في صلب الانشغالات المستقلبية. فهو إذن في جوهر صناعة السياسات العمومية في الحاضر والمستقبل. كلما تقدمنا في الزمان بتطوراته، تزداد مكانته أهمية في السياسة. وجوده حيوي في تصميم وتنفيذ السياسات أصبح أكثر إلحاحا. هو مصدر فوار بالنصح والاستشارات والخبرات الفنية التي ترتكز عليها السياسات والتشريعات والتوجيهات في كل دول العالم. تخصصات المهندس الحيوية والمتطورة زمنيا كانت ولازالت وستبقى الاسمنت الذي يوطد الترابط بين العلم والمجتمع والبيئة والاقتصاد والمستقبل. يشخص ويبدع ويطبق ويتأمل بنظارات الاستدامة والتكنولوجيا النظيفة. يربط في تصوراته العلمية بين التكاثر الطبيعي للشعوب والبنية التحتية والتخطيط الحضري والقروي والبيئة (الطرق، الجسور، المباني، النقل العام، الأحياء الصناعية، تدبير النفايات الصلبة والسائلة وتدويرها، الحفاظ على الثروة المائية …..). يعمل المهندسون كذلك في مجالات الأمن والدفاع على تطوير التكنولوجيا والأنظمة التي تحافظ على سلامة الدولة وتحمي المواطنين. كما يشاركون في بلورة السياسات الخاصة بالدفاع والأمن القومي.
تعتبر الديمقراطية بيئة ملائمة للمهندسين للتأثير والمساهمة في السياسات العامة، وضمان تطوير السياسات التي تعكس الاحتياجات التقنية والتكنولوجية للمجتمع وتستجيب للتحديات المستقبلية. مشاركتهم المكثفة في الأحزاب السياسية جد محبذة. تواجدهم الفاعل في العمل الحكومي للدول ضرورة ملحة للغاية. يتمثل دورهم في تقديم الخبرات والتوجيه الفني للقرارات السياسية، والإسهام في تعزيز القضايا بالغة الأهمية، وتقديم الاستشارات الضرورية في مجال تشكيل السياسات المختلفة بمنطق يراعي هاجسي التوازن والتكيف وتقوية القدرة المجتمعة على الإسهام في بناء المستقبل.