ما نقصده بالثقافة في موضوع بحثنا هذا, هي تلك الأنساق النظريّة في المعرفة, التي اكتسبها الإنسان عبر تاريخ علاقته مع الطبيعة والمجتمع, والثقافة في هذا الاتجاه, هي ثقافة شعوب, وبالتالي هي ثقافات متعددة, تختص بشعوب وحضارات قديمة وحديثة, وكل ثقافة منها لها سماتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها. وهذا ما يجعلنا نؤكد, بأن الثقافة اليونانيّة هي تختلف من حيث بنيتها عن الثقافة العربيّة, أو الثقافة العربيّة الإسلاميّة, وهي تختلف بالضرورة عن الثقافة الصينيّة أو الهنديّة أو الفارسيّة أو الأوربيّة. مع تأكيدنا بأن كل ثقافة من هذه الثقافات ليست منعزلة عن غيرها, بل هناك تلاقح ثقافي تم عبر تاريخ الشعوب وعلاقاتها مع بعضها, فالثقافة اليونانيّة تأثرت بالثقافة الشرقيّة ثقافة مصر (الاسكندريّة) وسوريا وبلاد النهرين. والثقافة الأوربيّة تأثرت بالثقافة اليونانيّة والعربيّة الإسلاميّة, والثقافة العربيّة الإسلاميّة تأثرت بالثقافة الهنديّة والفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة. وهكذا.
بنية الثقافة العربيّة:
هي في سياقها العام, وخاصة في نسقها العربي “ثقافة عالمة”, حيّة في لغتها وأدبها ودينها وفكرها.(1). وهي متغلغلة في العقل واللاشعور, وفي الفكر والسلوك معاً. وهي بالحتم كانت ولم تزل ثقافة الماضي المجيد الحاضر دائماً في الذاكرة مع كل فخر واعتزاز, وهي من يشكل الملجأ والحصن ضد كل عدو خارجي يحاول النيل من حملتها العرب. وكل ذلك كما يقول “محمد عابد الجابري” يجعل منها في وعينا تراثاً وليس مجرد إرث. وبالتالي هي عنوان حضور السلف في الخلف.
سمات وميزات خطابنا الثقافي العربي في تاريخنا المعاصر:
أولاً: إن البنيّة الثقافيّة العربيّة السائد الان, هي في مجملها اجترار وتكرا للماضي, وإعادة إنتاج للتاريخ الثقافي العربي نفسه بشكل رديئ, وخاصة التاريخ الثقافي الذي ساهمت السلطة بإنتاجه, وليس التاريخ الثقافي المسكوت عنه, وهو التاريخ الثقافي المشبع بالعقلانيّة والتنوير والدعوة إلى العدالة والمساواة وحرية الرأي والموقف. أي الثقافة التي أنتجها التناقض والصراع داخل بنية المجتمع وعلاقات إنتاجه, ومع طبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطات الحاكمة المستبدّة التي ولدت بالضرورة نشاط وتوجه فكري مناهض لثقافة الاستبداد والاستلاب وتشيئ الإنسان وتغريبه.
إنه تاريخ الثقافة نفسه الذي كتبه أجدادنا تحت ضغط الصراعات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة التي عاشوها, وفي حدود الإمكانات العلميّة وخاصة المنهجيّة منها التي كانت متوفرة عندهم. لذلك كانت ثقافة السلطة والطائفة والمذهب, أكثر من منها ثقافة الشعب الحر المبدع, والعقل النقدي, والمنطق العقلاني والبرهان. من هذا المنطلق نقول: نحن مازلنا في الحقيقة سجناء الروئ والمفاهيم والمناهج التي اشتغل عليها أجدادنا في الماضي, مما يجرنا دون أن نشعر إلى الانخراط في صراعاتهم ومشاكلهم ومذاهبهم وطوائفهم ومناهج تفكيرهم, وإلى جعل حاضرنا ومستقبلنا مشغولاً بمشاكلهم. فالصراع السني الشيعي لم يزل قائما, وسب عمر وأبو بكر وعثمان لم يزل موجودا, وقصص وأساطير آل البيت في صيغتها الصفويّة لم يزل يتداولها من ينتمي لها مذهبياً أو طائفياً, وكذلك لم تزل أساطير أهل السنة وكراماتهم التي أنتجها العصر المملوكي والعثماني وتكفير المختلف وإخراجه من الفرقة الناجية قائما, وكثيراً ما يمارس عليه حد السيف. والاختلاف بين المذاهب السنيّة لم يزل فاعلاً فهذا شافعي وهذا حنبلي وذاك مالكي أو حنفي أو جعفري.
بتعبير آخر : إن تاريخنا الذي نقرأه اليوم هو تاريخ فرق ومذاهب وطبقات ومقالات وفتن وصراعات دموية, فكتاب: الفرق بين الفرق للبغدادي, والملل والنحل للشهرستاني , ومقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري وغيرها الكثير, لازالت تملأ مكتباتنا ونتحاجج بها اليوم لإثبات إيمان أو تكفير المختلف من الأفراد والجماعات.
نعم إن تاريخنا هو تاريخ الاختلاف في الرأي والموقف, وليس تاريخ البناء والتوافق في الرأي والموقف. وإذا كانت حياة القدماء وطريقة تفكيرهم مبررة لهم في عصرهم, ولا مجال للومهم أو انتقادهم اليوم, ولكن اللوم كل اللوم والانتقاد وبأشد صوره يوجه لأبناء عصرنا الذين يتمثلون أو ينقادون بشكل أعمى لثقافة وسلوك سلفنا باستسلام تام, على أن الحقيقة المطلقة قد أعطيت لهم وحدهم, وبالتالي اعتبار كل خروج عن ثقافتهم وطريقة تفكيرهم وسلوكهم, هو بدعة وضلالة.
لا شك أن تاريخ ثقافتنا المعاصرة هو تاريخ فنون وآداب وعلوم طبيعية وفلسفة… الخ. بيد أنها علوم منفصلة عن بعضها. وكل علم منها لا يتفق مع ما قررته ثقافة الماضي من حيث توافقه مع الشرع أو مخالفته, لا مكان له, وهو ليس أكثر من محاولات فرديّة, غالباً ما يكفر حملة هذه الثقافة, إن كان على مستوى الفن أو الفلسفة. لذلك تغيب قضايانا المعاصرة ومشاكلنا في ثقافتنا الراهنة, وتظل ثقافة الماضي ومشاكل عصرها هي من يسطر على السوق الثقافيّة الراهنة. والنتيجة تداخل الأزمنة في وعينا التاريخي الثقافي, مما يفقدنا الحس التاريخي بالزمن وقضاياه التاريخيّة, وجعل ثقافة الماضي تتري أمامنا متزامنة وليس كمراحل متعاقبة.
ثانياً: إن ترابط الأزمنة في ثقافتنا الراهنة, سيؤدي بالضرورة إلى تداخل الأمكنة. أي نستطيع القول: إن تاريخنا الثقافي يرتبط داخل وعينا بالمكان أكثر من ارتباطه بالزمان, فتاريخنا كما يقول الجابري وهو محق في ذلك, هو تاريخ الكوفة والبصرة والحجاز ودمشق وبغداد وقرطبة وفاس والقاهرة والقيروان, مثلما هو تاريخ شخصيات, فقهاء ومتكلمين وخلفاء وسلاطين.. وغيرهم. وهنا يتداخل تماماً الزمان والمكان والشخصيات, وهذا ما يجعل وعينا وثقافتنا تقوم على التراكم وليس على التعاقب, تقوم على الفوضى وليس على النظام.
كاتب وباحث من سوريّة.
1- الثقافة العالمة: هي برأيي ثقافة تحمل في مضمونها ثقافة النخبة والثقافة الشعبيّة معاً, فثقافة النخبة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو تحتها, والثقافة الشعبيّة التي تحول قسم كبير منها إلى حكم وأمثال وقصص وحكايات وسير ومواقف ذهنيّة وشرعيّة نعيد إنتاجها والتعامل معها في شقيها من باب النقل لا العقل. أي هي ثقافة حازت على الحقيقة المقدسة, وغير قابلة للمراجعة والتعديل أو الإلغاء.