اجتمعت رسميا مع بعض المهندسين في إطار تظاهرة خاصة. لم أجد كتقديم لمداخلتي بعد إعطائي الكلمة سوى التنبيه بالغزو المتوغل المخيف للإلكترونيات والذكاء الاصطناعي للعالم ثم الحديث عن ما تعرفه المهن الهندسية التقليدية والقطاعات الحكومية الكلاسيكية من اختراق لسيادتها. كل الدول عزمت على استثمار الغالي والنفيس من ثرواتها الوطنية واضعة نصب عينيها حاجتها الملحة لرفع التحديات المفروضة لتجنب المخاطر المستقبلية متشبثة بالاستماتة في الصمود لإعلان حضورها الوازن في المواعيد الزمنية المحددة مسبقا، وبالتالي لعب الأدوار المنتظرة منها في مجالات المنافسة والتباري والدفاع على حق وجودها المستقل، ومن تم ضمان الاعتراف المستحق بأحقية إسهامها في الدورات التفاوضية على المصالح المشتركة بمنطق “رابح – رابح”.

إن توقيت إعلان لحظة الحسم الدولي في تقييم مستوى قدرات المجتمعات ومؤسساتها على الاستمرارية في إطار الاستقرار وشيك للغاية. لقد تم فرض إجبارية تجاوز التقليد في الرؤية وبلورة السياسات العمومية وتنفيذها. الظرفيات الاقتصادية والسياسية الكونية المتعاقبة في الزمن لن تحتمل مستقبلا ككيانات تاريخية فاعلة إلا من صُنِّفَ منها ضمن لائحة الدول القادرة على تحقيق المؤشرات التنموية المتوافق في شأنها، والتي تمنحها المصداقية في مقاومتها للتقليدانية في منطق ممارسة السلطة وتجاوزها. إن سر وجودها سيرتبط بطبيعة أداء فعلها العمومي. بكل تأكيد، ترسيخ شروط الاستمرارية سيرتبط بالكفاءة في مراكمة مقومات الاستحقاق الوجودي. إنه عصر لن يتيح إمكانية التموقع الطبيعي في سوق المنافسة العالمي بشقيه السياسي والاقتصادي إلا للدول التي تبذل الجهود الحقيقية لتقوية الروابط بين المجالات السالفة الذكر (إذكاء حياة الإنسان، تقوية الروابط بشكل قار بين العلوم والهندسة الرقمية والبرامج الحكومية القطاعية والذكاء الاصطناعي). الديمقراطية في هذا السياق تحتاج إلى أحزاب وجماعات ترابية حديثة ببنيات عصرية منفتحة وأساليب عمل متطورة وأنماط تدبيرناجعة وقدرة عالية على تحمل المسؤولية في خلق التحولات المؤسساتية برهاناتها الصعبة.

التكنولوجيا الإلكترونية تتطور ماديا بسرعة فائقة. في نفس الآن، يشتد الحرص لدى المبرمجين للرفع من مستوى استغلال امكانيات مكوناتها الدقيقة الذكية. الحواسيب تحولت إلى وعاء لبلورة وتجريب التطبيقات والبرامج الجديدة. وهنا، برز ما يسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي. انتشرت تطبيقاته المتطورة بشكل كبير. يقتنيها المهندسون والمحررون والمحامون والإداريون والسياسيون وأصحاب المهن الرائدة لتسهيل مأمورياتهم ومشاريعهم وانشغالاتهم. السلط القيادية المتنافسة على المصالح الحيوية في العالم بمجتمعاتها المختلفة ثقافيا تسعى إلى تحرير شعوبها من الأشغال المضنية ليتفرغوا للتفكير والإبداع والابتكار. التطور الديمغرافي للعالم لا يسمح بتضييع الوقت في اعتماد الطرق المتجاوزة في صياغة الخطابات وتحرير التقارير والمحاضر وتركيب الفيديوهات وملصقات الإعلانات الإشهارية والتسويقية….. الذكاء الآلي يكتسح العالم بدون مقاومة تذكر. لقد أصبح أكثر انتشارا وعرفت التطبيقات المتعلقة به طفرة استثنائية مخيفة لا يمكن أن يصدقها إلا المتتبعون النبهاء.

إن إنتاجات التطبيقات الذكية (Outputs) تقتات من أجمل الإبداعات البشرية وتقدم عروضا تحاكي أفضل الموجودات تفكيرا وتعبيرا وجمالية. عندما يصل التفكير المجرد والتطبيقي الهندسي إلى نقطة النهاية في موضوع ما، لا يجد رواده أدنى صعوبة في عرض وإبراز قيمة إبداعاته المكتملة على العملاء والمهتمين. هؤلاء الرواد أصبحوا يتقنون التحرير الآلي للكتابات المهنية وتصميم الصور والفيديوهات التسويقية والمصادقة على صياغتها النهائية. المهنيون تحرروا إلى حد بعيد من جل الصعوبات المادية والمعنوية التي كانت تعترضهم في جمع المعلومات والتكوين والتسويق والتدبير الإداري والمالي.

التطبيقات المتطورة اليوم تتفاعل بقوة مع المُستخدِم مُكَثفَة التواصل معه. إن ما يصدر عنها يوازي أجود ما أنتجته البشرية لغويا وفنيا. ارتقى المنتوج الإبداعي وأصبح يتوفر على بنيات جذابة شكلا ومضمونا. اُمْتُزِج في تشكيلهما الحرف والصورة والصوت والألوان المغرية. أكثر من ذلك، لقد أصبح بمقدور هذه التطبيقات فهم مقصود المُستخدِمين. تجيب عن أسئلتهم، فتحقق في النهاية ما يصبون إليه بإتقان مبهر. المنتوج المستخلص يشعرهم بالرهبة، فتتاح بذلك فرص اتخاذ القرارات الصائبة ذات الجودة العالية. هذا التفاعل يمكن كذلك من تحليل ما يصدر عن عصفهم الذّهني من أفكار وانفعالات، فتنبعث على إثره على الشاشات الكبرى الأفكار الراقية والموضوعات النصية الاحترافية، واللوحات التسويقية الجذابة ذات القدرات الهائلة لاستقطاب العملاء التجاريين والمستهلكين. بهذه البرامج لم يعد عسيرا أمام المهنيين كتابة النصوص المهنية ولا ترجمتها بإتقان. حتى نصوص البرامج المعلوماتية الشخصية  (Codes)يتم تصحيحها واقتراح حلول لتحسينها.

في هذا العصر المخيف بعالمه الافتراضي المغمور بالنصوص والصور والفيديوهات، يجد المستهلكون أنفسهم أمام مخاطبين آليين. يستقبلون محادثات وتعليمات صوتيَّة، يتحدثون مع حواسيبهم وسياراتهم …. يختارون المخاطبين، ويُجْرُون مُكالَمات، ويرسلون رسائل نصيَّة، ويجيبون على الأسئلة المطروحة ويقدمون التّوصيَات المناسبة. إنها برامج ذكية تحاكي الكلام الطبيعي وتجيب بالدقة المتناهية على الاستفسارات والتساؤلات.

من الناحية الأمنية، تم إعداد التصاميم لضمان حماية سرية المحادثات بين المستعملين. كل التطبيقات تتمتع بخاصيَة التشفير التام لما يصدر بين الأطراف المتفاعلة. البيانات الحرفية والصوتية والفيديوهات والصور لا يمكن الاطلاع على مضمونها حتى وإن تمت قرصنتها. تحولت الترجمة الآلية إلى دعامة للسياحة عبر العالم. لم يعد هناك ما يستدعي التردد في السفر إلى الخارج بسبب عدم الإلمام بلغة شعوب الأقطار التي يراد زيارتها. بهذا الذكاء كذلك، أصبح يسيرا تذكر الأمكنة والتوجه إليها بسهولة والعثور على الحاجيات المسروقة أو الضائعة والولوج إلى مرافق الإيواء والتغذية.

المكونات الإلكترونية الصغيرة أصبحت تتلقّي الأوامر الصوتيَّة وتحللها ثم تقوم بتنفيذها بدقة عالية. كما يمكن استغلالها في البحث عبر الإنترنت وفحص البريد الإلكتروني وإعداد وتنفيذ مخططات البرامج اليومية …. كما تمكن من ربط أجهزة الكمبيوتر بالهواتف الذكية، وبالتالي تبادل التنبيهات الضرورية والاطلاع عن بعد على الملفات ومعالجتها. بهذا الذكاء الخارق للعادة، توفرت فضاءات الكترونية للتمتع بالموسيقى وإمكانيات التحكم عبر الهاتف في تجهيزات المنازل الذكيَّة (جهاز التلفزيون والتكييف والسيارة وكاميرات المراقبة ….). كما أصبح بإمكان المستعملين الاستفادة من برامج التنبيه والتذكير بالمواعيد المُستقبليَة وطلب الحاجيات عن بعد، وتسجيل المكالمات الهاتفيَّة.

الإبداع في هذا المجال يتيح اليوم إمكانية المحادثة الشخصية مع مُساعِد افتراضيّ مُبرمج بلغة وأسلوب راقيين. لقد أصبح في متناول مستخدمي التكنولوجيا توطيد علاقة صداقة مع كائن آلي تُشبه الصداقات الحقيقيَّة. يتدرب التَّطبيق على أنواع الحوار ويراكم ويبلور منطقا يتقن الإجابات والمحادثات، وكأننا أمام روبوت يترعرع وينمو إدراكه كالإنسان. يراكم وينضج ويتمكن من الاحترافية في تصنيف الردود واختيار الكلمات والعبارات المناسبة. تربية الروبوت، بالرغم ما يحمله هذا التطور من مخاطر في السلوكات النفسية للإنسان أصبحت أمرا ممكنا. يقوم المربي البشري في البداية بتوجيه مجموعة من الأوامر السَّريعة المعروفة إلى الروبوت فيقوم بتنفيذها على الفور.

فكر رواد قيادة العالم أكثر في تسويق وترويج جودة الخاصيات الذاتية للإنسان ومراكز جودة خدماته وسلعه. صناعة المحتوى المرئي باحترافية أصبحت أمرا شائعا ونافعا. هناك تطبيقات لجمع المعلومات وتحليلها وتقديم إجابات على الأسئلة المُختلفة وتحليل الإشكاليات المعقدة. الروبوتات بالتطبيقات الحالية تعلم نفسها بنفسها وتقدم مع مرور الوقت إجابات مثلى على أعقد الأسئلة وتنجز الحسابات الرقمية المعقدة. أما تعلم اللغات، فأصبح يتم بطريقة منهجية عالية الجودة. التطبيقات تساعد اليوم المستعمل على تجويد نطقه اللغوي وتتابع تطور مستواه وتقيمه باستمرار. أما أجيال السيارات الجديدة فأصبحت ذاتية التحكّم ومجالات عبورها يمكن أن تتجاوز الطرقات لتطفو فوق الماء وتخترق الفضاء بسرعة متزايدة.

لقد نحج الإنسان في مساعيه البحثية لخلق وسائل تمكّن الآلة من محاكاة جوانب الذكاء البشري. سنة 2016 كانت محورية في هذا الشأن. تشعّبت بعد ذلك التطبيقات المعلوماتية في الحياة العملية. الكل يعترف اليوم بالضجة الإعلامية التي خلقها الآلي الذكي “صوفيا” وقدراته على بناء علاقات شبه حقيقية مع البشر.  تتفرع اليوم أنواع الذكاء الاصطناعي إلى أقسام. مرت من أبسط أنواعه المركزة على الوظائف الأساسية فقط ثم شملت الأنواع الأكثر تقدّمًا. هي اليوم بمثابة كيان واعٍ تمامًا بذاته وبما يدور حوله، ويشبه إلى حدّ كبير الوعي البشري. لقد تم تجاوز الآلات التفاعلية محدودة الذاكرة. هناك طموح لاعتماد نظرية العقل في تقوية الوعي الذاتي، ليصل عالم اليوم إلى ممارسات بجاذبية قصوى وبإمكانيات برنامجية جديدة لا تتيح الفرصة بضغوطاتها للتفكير في مخاطرها. لقد اكتسحت الآلات التفاعلية حياة الإنسان كونيا. لقد تمكن برنامج ذكي من هزم بطل العالم في لعبة الشطرنج.

برامج التعرّف على الصوت والصورة متعددة ومتنوعة. روبوتات المحادثة على المواقع الإلكترونية غمرت حياة الإنسان ألفة. أبحاث نظرية العقل كمرحلة مقبلة تم وضعها على طاولة القرار السياسي العالمي. الآلة ستكون مستقبلا جد ذكية في فهم الإنسان المتفاعل معها. ستعبر لا محالة عن قدرة عالية لاستيعاب احتياجات المخاطبين ومشاعرهم وحتى مبادئهم ومنطق تفكيرهم وتساعدهم على الشعور بحال أفضل. الأبحاث مستمرة ومكثفة في مجال الذكاء العاطفي الاصطناعي والوعي الذاتي، وقد يصل مستوى الابتكار إلى تطوير ذكاء اصطناعي واعٍ بنفسه وله ذكاءٌ خاصّ ومستقلّ بذاته. قد يتفاوض الإنسان مع الآلة وقد تتفاوض الآلة مع مثيلتها. لقد فسح المجال اليوم للتفكير في الكثير من الافتراضات والتوقّعات والتخيّلات. قد يتواجد إنسان إلى جانب كائن آلي تمّ تصنيعه بغاية التسويق مثلا. نفس التطور سيغزو الخدمات المصرفية. سيستفيد العملاء من الدعم الدائم، ومن إمكانية اكتشاف التلاعب والنصب وعمليات الاحتيال في التعاطي مع الحسابات البنكية (مثلا تدعيم الرقم السري للزبون بصمة اليد أو العين أو الصوت). على المستوى الصحي، تتطور التطبيقات الذكية لتحسين نظام الوقاية من السكتة الدماغية والكشف عن أمراض القلب وتتبّع أداء الأشخاص المسنّين ومساعدتهم على تطويل سن استقلاليتهم الوجودية، واختراع وتطوير أدوية جديدة واستعمالها بطريقة صحيحة … في مجال اكتشاف الفضاء (الفلك) والتعلم الآلي، لقد تمت الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لدراسة وتحليل البيانات الفضائية وتحديد واكتشاف أنظمة مجرات وأنظمة شمسية وكواكب تبعد عن الأرض بآلاف وملايين السنين الضوئية. بهذا الذكاء كذلك طورت الدول المتقدمة المسبارات والمركبات الفضائية التي تجوب كوكب المريخ وتكتشف خفاياه وكذا التقدم في الأبحاث العلمية لاختراع المركبات التي ستقل آلاف المسافرين إلى هذا الكوكب العجيب. على مستوى التعليم، قد نفترض في المستقبل القريب خلق روبوتات تلعب دور المعلّم وتقوم بإعطاء المحاضرات والدروس. الذكاء الاصطناعي يساعد اليوم المعلّمين في أداء بعض المهام الإدارية كإجراء التقييمات وإعداد الدروس والاختبارات.

وعيا بمتطلبات المستقبل، تحول الذكاء الاصطناعي إلى تخصص هندسي أكاديمي وارتبط بقوة الواقع بكل المهن الهندسية التطبيقية الأخرى. تطبيقاته ستخترق حدود سيادات الوظائف المستقبلية. على الأحزاب السياسية أن تؤسس مختبرات قارة لتعميق البحث في تقوية الروابط بين العلوم المجردة والإلكترونيات والهندسة والذكاء الاصطناعي. إنه المطلب الذي سيرفع مستقبلا من الوعي الحكومي لتعميم هذه المختبرات على مختلف القطاعات الحكومية.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…