أولا: واقعيات الجغرافيا والتاريخ
(1) على مستويات الجغرافيا، والتاريخ الحدثاني (أحداث التاريخ)، وتبادلات التجارة والسفارة، وكذلك على مستوى تاريخ تطور الفكر، يقـــــــــــــع المغرب، كقطر وكدولة، في صلب محور «العالم الغربي»، وذلك بمقتضى الجغرافيا أوّلاً، وكما يدل على ذلك اسمه بالعربيّة ثانيا («المغرب الأقصى»، أي ما يقابل مفهوم «الفار-ويست» في امتداد «العالم الغربي» نحو أمريكا). فبمفاهيم/مصطلحات خارطة الجغرافيا الطبيعية، أي بصلابة معطيات توزيع التشكّل التاكطوني لرُقع اليابسة بما لا مجال فيه لرياح بعض أهواء تعاقب الأيديولوجيات، تقع العواصم التاريخية لمجرّد مغرب العهود الإسلامية (فاس، مكناس، مراكش، الرباط) باعتبار إحداثيات خطوط الطول لجهة الغـــــــــرب (5.د، 5،5.د، 7.د، و 6.د غـــــــرب خطّ الصفر-كًرينيتش، على الترتيب) بالقياس إلى أقصى عاصمتين في غرب «العالم الغربي» القديم، أي باريس ولندن (2 شرق خطّ الصفر، و0-خط الصفر، على الترتيب).
(2) أمّا على مستوى التاريخ الحدثاني، فقد ظلّت بعض فراسخ «مضيق جبل طارق»، الحائل دون تماسّ قارتين، جســـــــــرا مائيا يربط بين يابستين شبه متماسّتين لتبادل المصالح و/أو التناوب على النفــــــــوذ عموديا ما بين المغرب وشبه جزيرة أيبيريا (التي قال عنها الفيلسوف هيجل في كتاب العقل في التاريخ: «إذا تعدّيتَ جبال البرانس نحو إيبيريا، فقد أصبحت في شمال إفريقيا؛ وإذا وضعت قدمك في شمال إفريقيا، فأنت ما تزال في أوروبا»). كان ذلك منذ عصر الفيزيقوط إلى عهد الحركة الاستعمارية الأوروبية في القرن العشرين، مرورا بـ»فتح الأندلس» ثم المدّ المرابطي ثم الموحّدي، ثم «حروب الاسترداد» وإجلاء الموريسكيين واليهود، إلى احتلال الشواطئ المغربية على شريطي البحرين في الشمال والغرب ثم الاستعمارين الفرنسي والإسباني.
فحركة التاريخ الحدثاني، بمنافعها ومضارّها، ظلت إذن عمـــــــــــودية (باعتبار تمثيل الخارطة الجغرافية) عبر المضيق؛ ولم تكن أفقية سوى لفترة قصيرة أثناء الفتوحات الإسلامية. فالأمبراطوريتان، المرابطية والموحّدية، لم تتعديا بعض الرقع من شمال إفريقيا ممّا هو خارج المغرب (بينما شكلت إيبيريا شمالا وإفريقيا جنوب الصحراء مجالين للتبادل وللتدافع الجيوستراتيجي على تولي هتين الدولتين وكل من السعديين والعلويين بعد ذلك). أما امتداد نفوذ الأمبراطورية العثمانية المشرقية من جهة أخرى، التي كانت قد حوّطت المشرق بدون حدود في شبه بحيرة، من أبواب فيينّا إلى وهران، قد توقّف في وهران، وظلت تلمسان موضوع تجاذب وتدافع في عهد السعديين.
(3) بهذا الاعتبار – اعتبارِ واقعِ كون المغرب محكوما عليه – بمقتضى الحتمية الجغرافية، مع انعكاس تلك الحتمية على مستوى حتمية التاريخ، وكما تجسدت تانك الحتميتان بشكل ملموس في محور تبادلات المصالح الاقتصادية والعلاقات الديبلوماسية بعد تطوّرها في القرون الخمسة الماضية – ظــــــــــل هذا المحور محورا عمـــــــــوديا باعتبار الخريطة الجغرافية، موزَّع الاتجاه انطلاقا من المغرب، بين اتجاهي إفريقيا-جنوب الصحراء من جهة، وأوروبا في عمومها من جهة ثانية (من الدول الاسكندنافية والجرمانية إلى الدول اللاتينية والأنجلوساكسونية). وإذ في الأعمال الكثيرة التي خصّصها الراحل عبد الهادي التازي مثلا للتاريخ الدبلوماسي تشكّل شبهُ استقصاء للسفارات والمعاهدات المغربية مع دول «العالم الغربي»، كما صورتها كذلك كثير من آثار أدبيات «الرحلة» للسفراء المغاربة القدامى، فإن كثيرا من الدرسات قد تناولت حلقة الوصل التجارية التي شكلها المغرب ما بين أوروبا وإفريقيا عامة في فترة لم يكن فيها لأوروبا معرفة وصفية، جغرافية ولا بشرية/سياسية بإفريقيا جنوب-الصحراء قبل انتشار كتاب «وصف إفريقيا» للموسوعي المغربي حسن الوزان/Léon l’Africain. ومن بين تلك الدراسات دراسة للمؤرخ ميشال أبيطبول المتخصص في الأنشطة التجارية للمغرب القديم وعلى الأخص منها دور الجماعات اليهودية المغربية فيها (وهو من بين أسباب نكبة يهود توات بناء على فتوى محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني الذي استقر ببلاد «توات» (توفي 1505) المشهورة بــ»رسالة في اليهود»). وهذا رابط نحو نصّ تلك الدراسة: Le Maroc et le commerce transaharéen. Michel Abitbol 1980: https://www.persee.fr/doc/remmm_0035-1474_1980_num_30_1_1887
ثم هذا مقال تيسيري آخر في نفس المضوع: «Commerce transaharien Markech Sijilmassa»
https://www.le-cartographe.net/dossiers-carto/afrique/52-le-commerce-transsaharien
(4) هذه الوظيفة التمريرية/التبليغية (fonction de passeur) بين «الغرب» و»الشرق» (بمفهومهما اللاجغرافي) لبلدٍ حَكم عليه التطوّرُ التاكطوني لتشكّل اليمّ واليابسة بأن يكون نقطة مَجْـــــــمع بحرَين، وحلقــــــــــة فصل-و-وصل في نفس الوقت بين قارتين عريقتين في تاريخ تطوّر البشرية (إفريقيا وأوروبا)، وظيفةٌ لم تقتصر، في تميّزها، على علاقات تبادل المصالح و/أو النفوذ حسب ظرفيات الحقب. لقد تمثل ذلك التميـــــــــــّز أيضا (باعتبار «الغرب» و»الشرق» اللا-جغرافيين) على مستوى المساهمة قديما وحديثا في مراكمة رصيد الفكر العقـــــــلاني في حقول الفلسفة والأخلاق وعلوم الإنسان، إنْ نقلاً/تبليغاً واجتهادا (من ابن رشد، وابن ميمون، وابن باجه، الخ. إلى عبد الله العروي محمد عابد الجابري)، وإنْ تطويراً معرفيا نظريا أصيلا (ابن خلدون خاصّة) أو وصفيا (حسن الوزان، ابن بطوطة، الخ.).
(5) باستعراض بعض عناصر الواقعَين، الجغرافي والتاريخي، ممّا سبقت الإشارة إليه، يكون تصوير تشبيهيٌّ مأثور عن «الفيزيونير»/المستشرف، الملك الراحل الحسن الثاني، قد أُعطِي معنىً واقعيا ملموسا؛ أقصد قوله ذات مرة: «المغرب مثل شجرة باسقة، جذورها في إفريقيا، وفروعها في أوروبّا». وبناء على ذلك، فليس الآن – بعد أن استعاد المغرب عمقه الإفريقي عبر صحرائه، وبعد أن ولّى وجهَـه شطرَ بحاره سواء في الشمال أو الغرب، بعد قرون من نكبته الاقتصادية بسبب تحول الطرق التجارية إثر الاكتشافات الجغرافية مع في القرن-15 الميلادي – هو الزمن الذي يُنتظر فيه أن يتخلّى المغرب عن ذلك العمق الحيوي بالنسبة إليه كدولة. وهذا المعطى تدركه جميع الأطراف المنخرطة اليوم في جيو-استراتيجيات المنطقة وتتدافع في شأنه، بما في ذلك طرفٌ كان له موقع قدم صلبٌ منذ قرنين في بعض فضاءات تعاقب الولايات/الولاءات بالمنطقة، ولم تشكّل الستّون سنة الأخيرة بالنسبة له فيها سوى فترة انتقالية لإعادة تكييف ذلك الموقع مع معطيات تقلّبات فترة تصفية الاستعمار القديم. وعلى هذا الأساس الواقعي الأخير، يتعيّن موضوعيا التعامل مع ذلك الطرف دون تغذية أي أوهام بشأن علاقاته الجارية والمستقبلية.
(6) فكلّ ما سبقت الإشارة إليه ينطلق من الواقع الملمــــــــــــــوس، جغرافيا وتاريخيا. لكن هذه الملمــــــــــــوسية الأولى لا تنفي واقعيّةَّ ملموسيّةٍ أخرى ظلت فاعلـــــــــــة في الأذهـــــــــــــان عبر حقب من التاريخ. فثنائية «الشـــــــــرق/غـــــــرب» ثنائيّة قديمة ترسّخت في الأذهان. وكان أول تصوير أدبي لها هو «إليادة» هوميروس (الصراع بين رمز نفوذ «الغرب» حينئذ، أي بطل الإغريق «أشيل» الأشقر الشعر، ورمز «الشرق»، أي هيكطور الأسود الشعر الرامز إلى نقوذ الفرس حينئذ). يتعلق أمر هذا الأثر الأدبي، على مستوى التاريخ الحدثاني، بصدى أدبيّ لحملة «أحشيشروش» الفارسي على بلاد الإغريق، ثم الحملة المضادة بعد قرون لـ»الإسكندر المقدوني» على الشرق حتى بلاد فارس. وفي ذلك ورد في القرآن: {غلبت الروم في أقصى الأرض، وهم من بعد غلبتهم سيغلبون. سورة الروم} في قراءة ملتبسة، حسب المفسّرين باعتبار البناء للمعلوم أو للمجهول، ما بين «غَلبت/يُغلبون» و»غُلبت/يَغلبون». وما يزال ذلك الالتباس الاستشرافي/ المستقبليّاتي/ الفيتورولوجي قائما إلى اليوم حتّى بعد واقعة تخريب مركز التجارة العالمي بنيويورك (2001)؛ وذلك أصل كل المفارقات في الباب.
ثانيا: مفـــــــارقات الأهواء والأيديولوجيات
(7) بالرغم من كل ما تمّت الإشارة إليه في النقط السابقة من ملموسيات معطيات الجغرافيا وتاريخ المبادلات المغربية في عموميتها، هناك معطيات عامة كذلك وفاعلــــــة في الأذهان، ولا يصح عدم الإشارة إليها، بالنسبة للمغرب خاصة وليس على سبيل الحصر. لقد تطوّرت تلك المعطيات الذهنية الأهوائية/الهويّاتية بقوّة، منذ سبعينيات القرن-20 في العالم عامة بما في ذلك بلاد المغرب. إنها أدبيات عرفت اليوم بـ»الأدبيات الديكولونيالية»/Littérature de décolonisation، أدبيّات ما يشبه «مراثي المعذبين في الأرض» كردّ فعل مباشر على فترة الاستعمار الأوروبي. هذه الأدبيات تراوحت ما بين الأدب، والأنثروبولوجيا، والإثنوغرافيا، ودراسات/تحليلات علاقات النفوذ الجيو-استراتيجي (في المغرب مثلا، من محمد الحبابي إلى عبد الكبير خطيبي فاطمة المرنسيس و… المهدي المنجرة، وآخرين). وآخر تجليّات هذه الأدبيات اتخذ تسمية «إسلاموفوبيا الغرب».
(8) متلازمة «إسلاموفوبيا الغرب»، ليست في حقيقة واقعها مجرّد تجلٍّ من تجلّيات أهواء «الشرق اللا-جغرافي». فكثير من مؤثّري الدول ذات النفوذ الحالية في العالم المحمول على «الغرب» (المجموعة الأوروبية خاصة، ولكن كذلك أمريكا وإسرائيل) يدرجون من جانبهم علاقات تلك الدول بـ»المغرب الأقصــــــــــــــــى» كما تمّ تحديد ماهيّته الجغرافية والتاريخية في النقط أعلاه، إدراجا منهجيا في أطار صدام «الشرق-غرب» اللا-جغرافي واللا-تاريخي (إدراج العلاقات مع المغرب الأقصى مثلا في إطار «اتفاقية أبراهام مثلا» التي تستمد مرجعيتها الجيو-استراتيجية من فضاء الشرق الأوسط).
ولا يقتصر الأمر في هذا الصدد، بالنسبة لجميع تصوّرات الهوّيات والأهواء اللا-جغرافية، اقتصارا على مجرّد مستويات السياسات الجيو-استراتيجية. فحتّى الحركة الفكرية والأدبية قد انخرطت في هذا التصور بشكل قوي في العقود الأخيرة. فقد ظهر ما يسمّى بـ»الأدبيات الديكولونيالية» (أدبيات «تصفية الاستعمار الفكري»)، أدبيات متعددة اللغات، لكن يجمع بينها منهج تصدير الأزمات التاريخية المختلفة بعيدا عن مصادرها التكوينية. وقد برزت في المغرب خاصة في هذا الحقل أسماء متميزة في مجالات مختلفة، من محمد عزيز الحبابي، إلى المهدي المنجرة وعبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي، وغيرهم ممن سكن صدام «الشرق-غرب» وعيعم ويذوّبون فيه ماهيّة وهوّية «المغرب الأقصى». ومن الجانب المقابل، ومن باب التمثيل الملموس، يجذر التذكير هنا بشكوى أحد الكتّاب الإسرائيليين، الكاتب جبرائيل بن سمحون، الصفريوي الميلاد والطفولة. كاتبٌ هو اليوم في عقد عمره الثمانين، خصّص رصيده الهائل من مسرحيات وقصص وروايات باللغة العبرية للفضاءات المغربية جغرافيا وبشريا وعادات وتقاليد وألوان وروائح ومشاهد وأطباق (من صفرو إلى فاس إلى الحسيمة إلى ايت بوكًماز إلى زاكورة…) وانتهى بنشر شكوى مشوار كاتب: شكوى من نبذ الأوساط الأدبية والمسارح الإسرائيلية لأعماله باعتبار تلك الأوساط لتلك الأعمال التي تتخذ من «المغرب الأقصى» فضاء لها مجرّد ميزراحيات/
(«شرقيّات»/des orientales) لا تعكس روح الأدب الإسرائيلي المتماهي مع «العالم الغربي» انطلاقا من عُقر الشرق (الشرق الأوسط). (من أجل الولوج إلى ترجمة مقتطف من شكوى بن سمحون بعنوان «الكاتب، وإحداثيات الفضاءين: الجغرافي والاعتباري»-2015، انقر على الرابط الآتي
https://orbinah.blog4ever.com/quest-ce-qui-determine-lidentite-dune-uvre-litteraire-lexemple-de-luvre-de-gabriel-ben-simhon
(9) وأخيرا، كنت قد خصصت الصفحات 67-145 من الفصل الثاني من كتاب «مساءلة البداهات من خلال مفاهيم وقضايا في مغرب الإصلاحات» (دار الأمان؛ الرباط-2019) لموضوع «مفاهيم الجهات الستّ» ما بين الجغرافيا واعتبارات أخرى.
——————————-
(*) الدكتور محمد المدلاوي، أستاذ جامعي وباحث مغربي مرموق في مجال اللسانيات، كان من طلبة عالم اللسانيات الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي.
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
الكاتب : محمد المدلاوي (*)
الامقال منقول عن جريدة الاتحاد الاشتراكي / الرابط