مدخل:

     يشكل الفكر أو الخطاب الدينيّ بكل اتجاهاته, من فقه وحديث وعقائد وتفسير وتأويل للنص الدينيّ, ومن تصوف وسيرة وقصص وحكايات للصحابة والتابعين وتابعي التابعين, مساحة واسعة من وعي المواطن المؤمن وغير المؤمن, وخاصة في الخطاب الإسلاميّ, الذي ساد وانتشر في مناطق واسعة لم تتم فيها تلك التحولات الموضوعيّة والذاتية في الوجود الاجتماعيّ من ظهور الإسلام حتى اليوم, بل كثيراً ما نصطدم عندما نعرف أن الكثير من التحولات الموضوعيّة والذاتيّة التي ظهرت منذ بداية القرن الثالث للهجرة مع عصر المأمون والانفتاح على الحضارات الأخرى, وخاصة اليونانيّة والفارسية والهنديّة وما حملته أو أنتجته تلك الحضارات من علوم تتناسب وطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيوشة على مستوى العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة كعلم الطب أو الرياضيات أو الكيمياء او الفلسفة ودراساتها للكون والإنسان والأخلاق ومناهج البحث وغير ذلك من علوم, قد أجهضت فيما بعد منذ منتصف القرن الثالث للهجرة ذاته من قبل قوى سياسيّة ودينيّة أرادت لثقافة النقل أن تسود بدل ثقافة العقل, أو ثقافة الفم بدل ثقافة القلم.

     ما أريد تسليط الضوء عليه هنا, هو تلك المناهج الفلسفيّة في الخطاب الدينيّ الإسلاميّ, التي استخدمت ولم تزل تستخدم في البحث عن الحقيقة التي تتفق مع المقاصد الدينيّة كما فهمها الفقهاء وعلماء الكلام والمتصوفة وأهل الحديث والمنطق, والأهم ما فهمه رجال السلطة ومشايخهم ممن امتلكتهم شهوة السلطة والمصالح الأنانيّة الضيقة..

أولاً: المنهج الاخباري. (المدرسة السلفيّة الإسلاميّة أنموذجاً.):  

     السلفيّة اسم لمنهجٍ يدعو إلى فهم الكتاب، والسنة بفهم سلف الأمّة، والأخذ بنهج وعمل النبي “محمد” صاحب الدعوة الإسلاميّة, ومن سار على نهجه من صحابته والتابعين وتابعي التابعين إلى يوم الدين, باعتبارهم يمثلون هذا النهج, أي نهج الإسلام الصحيح على حد زعمهم انطلاقا من حديث للرسول يقول: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1).

 فالسلفيون هنا هم التمسكون بأخذ الأحكام من كتاب الله، وما صح من حديث للنبي محمد، وهم التاركون كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والواثقون كل الثقة بما نقل عن السلف بأنه حقيقة لا يشوبها الخطأ. وقد عبربعضهم عن هذا التمسك بأقوال وأفعال هذا السلف بقولهم: «منهجنا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.», (2). فالكتاب والسُنَّة هما النبْع الصافي لدين الإسلام عندهم، وهما المنهج الكامل للحياة السويّة، والميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأفعال، ولا يكون للمسلمين شأن وقدْر، ولا عِزٌّ ولا نصر، ولا فلاح في الدنيا، ولا نجاة في الآخرة، إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة وأثر الساف الصالح.

     إن السلفيّة في جوهرها إذاً, تقوم على التزام منهج السلف الصالح في فهم النصوص الشرعيّة، وهذا يعني أن ثمة اتفاقاً على مرجع جامع يجتمع عليه السلفيون.

      والسلفيّة أيضاً تمثل في إحدى جوانبها, أحد التيارات الإسلاميّة العقائديّة مقابلة للفرق الإسلاميّة الأخرى. وفي جانبها الآخر المعاصر تمثل مدرسة من المدارس السنيّة التي تستهدف إصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة عمومًا إلى ما يتوافق مع النظام الشرعيّ الإسلاميّ, أو ما يسمى بالحاكميّة.

التأسيس النظري والعملي للمنهج السلفي:  

     بداية، نستطيع القول إن المنهج السلفيّ تأسّس فقهياً على يد الشافعي في الرسالة, وتبنى جوهره وأصله فقهيّاً أحمد بن حنبل, وفلسفياً (كلامياً) أبو حسن الأشعري, وفلسفياً وفقهياً وصوفياً أبو حامد الغزالي, وتابع تأصيله فقهياً وبلورته ابن تيمية وابن قيم الجوزية, ووضعه موضع التطبيق العمليّ في تاريخنا الحديث والمعاصر محمد بن عبدالوهاب في منطقة نجد في القرن الثاني عشر الهجري. ثم تبناه فكراً (سياسياً) وتطبيقاً في تاريخنا الحديث والمعاصر قادة السلفيّة المتأخرين أمثال حسن البنى وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب ونظرائهم. ولعل السرّ في هذا التلازم بين تبنّي الفكر السلفيّ وظاهرة التكفير, أن هذا الفكر خلق الجو المناسب لاعتناق فكرة قداسة الماضي ومثاليته, مما يحول دون كشف عيوب التراث أو التجرؤ على نقد رموزه وأسانيده، بل واعتبار جل مفرداته مسلمات ومعطيات قطعية مقدسة, وأي خروج عنها أو نقدها يُعدّ خروجًا عن الإسلام نفسه. كما أنها السلفيّة بموقفها الامتثالي الاستسلامي هذا تخلق جوًا خانقا للعلم والفكر الدينيّ بداعي تلك القداسة المفتعلة للماضي.

أسس المنهج النقليّ, أو منهج المدرسة الاخباريّة أو السلفيّة:

     يقوم هذا المنهج باتباع الطرق التالية للوصل إلى تحقيق أهداف الشرع:

1 – اجماع الامة. 2 – اجماع الصحابة. 3 – سيرة الصحابة.

4 – إجماع السلف – وهم مسلمو القرن الاول الهجري. 5 – الخبر المتواتر. 6 – خبر الواحد المتلقى بالقبول، وعند بعضهم، خبر الواحد مطلقاً. كالأخذ بالحديث الضعيف على حساب الرأي كما هو عند ابن حنبل وأتباعه, 7- الأخذ بالنص الشرعي – قرآناً أو حديثاً  – بحمله على ظاهره الحقيقي من غير تأويل. 8 – عدم جواز الحمل على المجاز. 9 – التوقف في إعطاء الرأي, ويكون هذا التوقف في الحالات التالية :

     أ – عند عدم وجود نص شرعي في المسألة.

     ب – عند تعارض النصين الشرعيين وعدم وجود مرجح شرعي لاحدهما على الآخر.

     ج – عند إجمال النص لأنه متشابه أو لانغلاق فهم معناه أو لغيرهما. (3).

     ومن ميزات هذه المدرسة أن حملتها ينهون السؤال عن أية مسألة لم يوضحها النص الديني المقدس (القرآن والحديث والاجماع). ويعتبر قياس الفرد, أو الجزء على الجزء الأساس الذي تقرر فيه شرعيّة الأحكام الصادرة على مستجدات الحياة.

      هذا مع تأكيدنا هنا: بأن ما سال إلينا من أحاديث وقصص ومرويات وآثار وأخبار وكتابات، هي من صنع بشر، من صحابة وتابعين وتابعين التابعين وفقهاء ومحدثين ومفسرين ومؤرخين. أي هم من صنعوا هذا الإرث الضخم, والكم الهائل من الآثار والأخبار والروايات التي تحوّلت إلى نصوص مقدسة كما اشرنا قبل قليل، في الوقت الذي اختلفوا وتقاتلوا فيه على أشياء كثيرة, وتركوا من ورائهم إرثا، لا نعرف من أين تدخل إليه ولا كيف نخرج منه.

     من الأمثلة على موقف أهل السلف من الرأي المختلف: قال سفيان بن عيينة : سأل رجل مالكاً عن (الرحمن على العرش استوى), كيف يكون الاستواء؟. فسكت مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: (الاستواء منه معلوم, والكيف منه غير معقول, والسؤال عن هذا بدعة, والايمان به واجب, وإني لأضنك ضالاً, أخرجوه. فناداه الرجل يا أبا عبد الله, والله لقد سألت عنها أهل البصرة والكوفة والعراق, فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.). (4). –

ملاك القول:

     إن المنهج السلفي, او منهج أهل الحديث,  منهج يرفض الحركة والتبدل والتطور في الواقع المعيوش, وبالتالي كل جديد بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. هذا في الوقت الذي يتجاهلون فيه حديث الرسول القائل: ((إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).(5).

كاتب وباحث من سوريّة.

d.owaid333d@gmail.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- هذا الحديث رواه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله” (895) وابن حزم في “الإحكام” (6/244) من طريق سلام بن سليم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).

2- موقع إسلام ويب.

3- المؤلف : الدكتور عبد الهادي الفضلي – الكتاب أو المصدر : خلاصة علم الكلام- الجزء والصفحة : ص17ـــ21 راجع موقع: ttps://almerja.net.

4- رواية سفيان بن عيينة). عن كتاب 🙁 كتاب الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء – [عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر].

5- رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599).

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …