أصدر البرلمان الأوروبي قراره المتعلق بما أسماه «وضعية حقوق الإنسان» في المغرب، وهو القرار الذي يشير لطبيعة التحول الذي جرى منذ مدة داخل البرلمان الأوروبي، وكان هذا القرار بداية الإعلان عن كل التحولات التي شهدتها أوروبا وبعض مؤسساتها، وعلى رأسها هذه المؤسسة التي أصبحت رهينة «لوبيات» سياسية ومالية أوروبية، تريد أن تغطي على فشلها في تدبير الانعكاسات السلبية الاقتصادية لكورونا، ثم بعدها للحرب الروسية الأوكرانية-الغربية، ثم قبلهما صدمة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي مع ما يعني ذلك من فقدانها لخزان مالي واقتصادي هام كانت أوروبا تستفيد منه.
كل هذه العوامل الذاتية المرتبطة بترهل أوروبا وحالة الانقسام التي أبانت عنها زمن تدبير الجائحة، دفعت بعض «اللوبيات» إلى التحرك ضد المغرب لاعتبارات عديدة، منها أن هذا الأخير اختار ألا يكون «سوط» أوروبا على إفريقيا بقدر ما اختار أن يكون صوت هذه الأخيرة أمام العالم، وأن تخدم تحركاته القارة السمراء ورهاناتها الكبيرة في التقدم، التنمية والديموقراطية، وقد تعزز هذا الخط بعودة المغرب للاتحاد الإفريقي واسترجاع مقعده فيه، وعمله على أن يكون هذا التكتل الإفريقي في خدمة شعوب القارة لا أداة من أدوات الاستعمار الجديد وتعبيراته السياسية والاقتصادية.
كل هذه العوامل ساهمت في شحن مختلف هذه «اللوبيات»، التي باتت ترى مصلحتها في قربها من دوائر معادية للمغرب وفي التقارب مع أنظمة غير ديموقراطية، بهدف الدفع بالشراكة المغربية الأوروبية للباب المسدود بافتعال أزمة سياسية بين المؤسسات الأوروبية والمغربية نتيجة ارتهان بعض البرلمانيين الأوروبيين
من تكتلات يسراوية، والتي أصبحت تشكل التعبير السياسي بالبرلمان الأوروبي، لقوى المحافظة والنكوص الأوروبية، للأسف، بدل أن تكون داعمة لقضايا حقوق الإنسان الحقيقية.
القرار في عمومه يرتبط بتوجس «اللوبيات» المعادية داخل أوروبا للمغرب من التقارب الإسباني المغربي، هذا التوجس مرده أن إسبانيا وحزبها الاشتراكي، الذي يترأس حكومتها، هو من سيقود أوروبا، ويريد أن يكون هذا الملف المفتعل أداة لدفع المغرب وإسبانيا بشكل خاص للاصطدام، خاصة وأن التقارب بين الجانبين شمل قضايا سياسية كبرى واقتصادية، ثم ما يرتبط بقضية الصحراء ودعم إسبانيا للمبادرة المغربية لطي هذا الملف، وهناك داخل أوروبا من لم ينظر بعين الرضا لنتائج التفاوض الذي جرى بين المغرب وإسبانيا، وكانت الملكيتان المغربية والإسبانية فاعلتين فيه وحققتا معاً إلى جانب رئيس الحكومة الإسبانية نتائج سياسية أعطت دفعة كبيرة لشراكة البلدين، مما خلق رد فعل سلبي داخل أوروبا وجعلها تستغل كل الآليات الأوروبية والمناسبات لدفع هذه العلاقة للاضطراب باختلاق كل عناصر التوتر لإسبانيا، لأن هذا الملف سيكون مطروحا عليها مباشرة بعد توليها للرئاسة الأوروبية، بالتالي يجب أن نتوقع لحين توليها لمنصبها بالاتحاد الأوروبي أن تكون هناك تحركات سياسية أخرى، قوية، ضاغطة على أوروبا ومؤسساتها من أجل معاداة المغرب، ومحاولة جره لأي استفزاز على مستوى ملف الصحراء لمعرفتهم ويقينهم أن المغرب لن يبقى مكتوف الأيدي أمام أي مس محتمل بوحدته الترابية.
إن هذا التقارب المغربي الإسباني معني بهذا الاستفزاز الجديد للبرلمان الأوروبي، خاصة أن الكتلة البرلمانية الأوروبية المنضوية تحت حزب العمال الاشتراكي الإسباني قاطعت الجلسة لكي لا تتورط في أي مناورة لاستغلال البرلمان الأوروبي نحو جره لقضايا سياسوية أكثر منها حقوقية.
قرار البرلمان الأوروبي ما هو إلا هذه الغابة التي تخفي انزعاج أوساط أوروبية حقيقية من التقدم الذي يحرزه المغرب في علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت علاقة مؤسساتية مبنية على الثقة الكاملة، وما تلاها من تقارب مع إسرائيل خاصة في الجانب المتعلق بالتعاون العسكري، أضف إلى كل ذلك التعامل الندي للمغرب مع أوروبا ودولها، وقدرته على مجاراة كل التوترات المفتعلة معه، والتي انتهت بتجديد الاتفاقيات الاقتصادية المتعلقة بالتبادل الفلاحي والصيد البحري مشتملة على الأقاليم الجنوبية، وبدعم سياسي للمفوضية الأوروبية للمبادرات الجدية المغربية التي يقوم بها على مستوى ملف الصحراء، آخرها ما صرح به جوزيف بوريل بالرباط من دعم سياسي صريح للعملية السياسية، وفقا لقرارات مجلس الأمن وإشادة بمجهودات المغرب لطي ملف الصحراء.
هذا الموقف السياسي المعبر عنه الذي أتى من خارج القوى التقليدية بأوروبا،
كشف زيف هذه الأخيرة التي ظلت تقدم نفسها على أنها هي «الضامن» للدعم السياسي الإيجابي داخل أوروبا والأمم المتحدة للمغرب، وكانت تريده أن يظل مرتهنا لديها ولأجندتها السياسية بالمنطقة بإفريقيا وشمالها .
إن تصفحا بسيطا لمضامين القرار الأوروبي سيحيل إلى الخلاصات التالية:
مضامينه لا تتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان، ولم تطرح قضايا حقوقية جدية، فملف «بيغاسوس» لم تستطع «أمنستي» للآن تقديم حججها التقنية بخصوصه والتي تثبت ادعاءاتها، وقد سبق للمغرب رسمياً أن رفع أمامها هذا التحدي مما يجعله مجرد ادعاء مختلق.
كما أن الحديث عن فساد برلمانيين أوروبيين هو ملف موضوع بحث قضائي، ولم يقل القضاء الأوروبي بعد كلمته فيه، اللهم إلا إذا كان البرلمان الأوروبي يريد الضغط على التحقيقات الجارية حاليا لدفعها نحو إدانة المسؤولين المغاربة دون أي أدلة مادية، بغية خدمة أجندتها السياسوية.
القرار لا أثر سياسي أو قانوني له فهو غير ملزم، ولا يمكن أن يرتب أي أثر على الاقتصاد المغربي ومؤسساته السياسية، غير هذا التشويش الذي سيرتد على البرلمان الأوروبي، ولن يكون لهذا القرار أي مصير غير ما انتهت إليه المناوشات السابقة من رمي بعض القرارات المشابهة الصادرة عن نفس المؤسسة في سلة المهملات.
القرار معزول من حيث سياقه الأوروبي، فالمفوضية الأوروبية لن تغامر بشراكتها مع المغرب من أجل اتباع نزوعات استعمارية مغلفة بحقوق الإنسان، وهي شراكة ماضية إلى الأمام، وقد كانت زيارة جوزيف بوريل للمغرب إعلانا عن رغبة رسمية في تعزيز العلاقة المغربية الأوروبية وجعلها أكثر قوة ومتانة ووضوحا وتطلعا نحو بناء شراكة اقتصادية تكاملية.
بعض الملفات المعروضة على القضاء المغربي أو تلك التي قال فيها كلمته، طيها أو حلها لن يكون عن طريق البرلمان الأوروبي، بل من خلال مسار داخلي، وطني، وكان الأجدر بالبرلمان الأوروبي أن يدافع عن استقلالية السلطة القضائية لا محاولة الضغط على القضاء.
هذا القرار، ومن خلال ردود الفعل التي خلفها مغربيا من حيث مجابهته من مختلف القوى والمؤسسات الوطنية منها انعقاد جلسة للبرلمان المغربي وبلاغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية للرد على مضامينه وكذا المجلس الوطني للصحافة وغيرها من المواقف الرافضة له… تعكس حالة الوعي الجماعي الوطني لدى المغاربة بكل امتداداتهم وتلاوينهم ضد كل ما يحاك ضد المغرب، وأن حقوق الإنسان والإصلاح مرتبطة بالرهانات الداخلية وبالتدافع الطبيعي والعادي، الذي قد يحصل، وهو الكفيل بتطوير الممارسة وضمان الإصلاح، ومن خلال الدفاع عن استقلالية القرار الوطني عن طريق التَّراص ضد أي «عدوان» سياسي خارجي…
إن كل هذه التحركات وغيرها هي إشارة لكل القوى الأوروبية، التي راهنت، من خلال هذا القرار، على خلق حالة تشكيك داخلية في المؤسسات الوطنية والقضائية المغربية، على أن المغرب عصي على الانصياع، وقادر على التعبئة العامة لمواجهة أي تهديد محتمل، وليس أمام هذه القوى التي تمثل الاستعمار الجديد من حل غير الاستماع إلى المغرب، واحترام سيادته والحوار معه، دون ذلك ستذهب هذه القرارات أدراج الرياح، ولن يكون الخاسر سوى أوروبا.
الكاتب : نوفل البعمري – بتاريخ : 23/يناير / 2023.
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي / الرابط رفقته