هناك ما يشبه الإجماع على تراجع الكفايات اللغوية في بلادنا لصالح أنظمة تواصلية تهدد في الكثير من الأحيان النمط السليم في التفكير والتواصل وتشكك في أشكال التبادل الاجتماعي نفسِه. ( خصص المجلس الأعلى للتعليم ورشات لدراسة هذه القضية خرجت بمجموعة من الخلاصات قدمت في الندوة التي نظمها المجلس في 20 أكتوبر 2009 )
ولا يبدو أن هذا التراجع من طبيعة تقنية، فهو ليس كميا يحيل على تقلص في حجم المخزون اللغوي أو الانزياح عن القواعد الأصلية للسان العربي، فهذا لا يشكل سوى وجه من وجوه الظاهرة، أما جوهرها فيمتد عميقا فيما هو أبعد من ذلك، إنه يلامس نمطا من أنماط الوجود في المجتمع، بل يحيل على ما يتعلق بخصوصية حضور الماهية الإنسانية وطرق التعبير عنها، فهذه الماهية ليست في نهاية الأمر وبدايته سوى ما يمكن أن يأتي من اللغة وينتهي عندها، استنادا إلى التحولات التي تلحق بنيتها في التسمية والتصنيف وكل أشكال التقطيع المفهومي.
وهذا أمر جلي، فالأشياء تتشكل داخل اللغة لا خارجها، ولا تتسلل إلى الذهن من خلال خلق معادلات بين أصل واقعي مطلق الوجود وبين بديل رمزي عارض، كما يمكن أن نتوهم ذلك. فنحن لا نسمي فقط ولا نكتفي بوصف القابل للمعاينة المباشرة، إننا نهذب الطبيعة والأشياء والأعضاء من خلال تسمية لا تكتفي بنقل الحسي إلى معادله المفهومي، بل ندرج الاستعاري باعتباره المضاف الحضاري الذي يمنح عالم الأشياء غطاء “راقيا”، فخارج هذا الغطاء تتساوى الأشياء في القيمة والوجود. لذلك، فالمعنى لا يوجد خارج اللغة، إنها الوجود المرئي له.
وهذا أمر لا يصنف ضمن بداهات التفكير النظري المفصول عن خصوصيات التجربة المشتركة، بل هو جزء مركزي في تعلم اللغة واعتمادِها أداة لاستيطان عالم الأشياء بعيدا عن ماديتها. فاللغة هي العنصر الأساس في تشكل الثقافة. فالطفل لا يكتشف العالم من خلال لغة محايدة تقيه شر الأشياء، بل تسرب إليه المدرسة من خلال هذه اللغة شحنة حضارية، إنه يتعلم من خلالها كيف ينتمي إلى ثقافة محيطه، ويتعلم أيضا كيف يستبطن المحظور باعتباره انتماء عفويا إلى نظام اجتماعي يستوعب المحرم والمباح باعتبارهما جزءا من بنائه، لا باعتبارهما حالة من حالات إكراه مفروض من خارج الوعي. نحن أسرى لغاتنا نفكر داخلها ومن خلال ممكناتها.
إن هذا التعلم لا يمكن أن يتحقق على الوجه اللائق إلا من خلال لغة تعرف كيف تصنف معارفها على مستويات عدة تبدأ، بتنظيم الشأن اليومي وتنتهي بالتحكم في أكثر الحدود إيغالا في التجريد، وذاك هو جوهر اللغة وذاك مدخلها نحو إنتاج المعرفة وتغطية حاجات التواصل اليومي، وسبيلها أيضا وربما في المقام الأول نحو الإسهام في تهذيب الوجدان : ليست اللغة العربية وحدها ما يمنح الشيء اسمين : اسما سوقيا لصيقا بالشيء من حيث وظيفته المباشر أو شكله ، وآخر “متحضرا” يمنح الشيء بعدا جديدا يمكن تداوله دون المس بالذوق، فالفرنسية مثلا لها سوقيتها وكلماتها النابية التي تتقزز منها الأذن.
فاللغة شديدة الارتباط بالطابع التأليفي للأحكام الأولى عند الطفل، فلا يمكن عنده فصل الفكرة المجردة عن الكلمة، فهذه الكلمة مرتبطة في تصوره بشكل مباشر بمرجع يجب أن “تحيل عليه حرفيا”، بل إن لقاءه مع العالم يتم دون وسائط، فهو يتعرف على المرجع قبل المفهوم الدال عليه. وعلى هذا الأساس، فإن بناء الكون ذاته يتزامن مع تشكل اللغة، فهذه تقود إلى ذاك ضمن ضرورة مطلقة لا يمكن استبدالها بضرورة أخرى. فلا شيء يمكن أن يستقيم خارج اللغة وخارج إرادتها في تصريف الفكر والانفعالات وفق ما يتوفر لديها من مفاهيم ومصطلحات.
لذلك، فإن أي تراجع للغة هو تقليص لمساحات التواصل ومساس بآليات التفكير وتشويش على الوجدان. والأمر يتعلق بمبدأ عام يصدق على كل اللغات وليس مقصورا على العربية وحدها. فنحن نعرف العالم من خلال الكلمات لا من خلال الأشياء التي تؤثثه. إن اللغةَ أطولُ عمرا من العالم الذي تقوم بتمثيله ( بيير غيرو)، وهي بذلك أغنى منه من حيث الاستعمالات الرمزية، وأقل منه شأنا من حيث الامتداد المادي.
استنادا إلى هذه الحقائق ( أو هي كذلك في تصورنا على الأقل) يجب التفكير في حالة الانكماش التي تعرفها العربية في القول والكتابة، وفي الاستجابة لحاجات العلم وتغطية أشياء المعيش اليومي. فقيمة اللغة لا تكمن في “قدسية” مزعومة أو جمال متوهم، بل مستمدة من موقعها الحقيقي في تفاصيل الحياة. ويبدو أن “الازدواجية” في التسمية والتصنيف هي إحدى أبرز المعضلات التي تقف في وجه تعلم سليم للعربية. بل إن هذه الازدواجية قد تصبح ثلاثية أو رباعية إذا أخذنا بالاعتبار ما توفره الأمازيغية من مفاهيم لها موقع حقيقي عند جزء كبير من أبناء هذا الوطن، وأيضا ما يتسرب من اللغات الأخرى كالإسبانية والفرنسية والانجليزية إلى عمليات تدبير الشأن اليومي.
فنحن نعيش في مجتمع “مهزوز”، فهو لا يحتكم إلى ثوابت حقيقية إلا في الظاهر، ولم يحسم في اختياراته الثقافية والسياسية والاقتصادية واللغوية. فالثوابت موجودة خارج تفاصيل اليومي، إنها في الكتب أو في الطقوس الاستئناسية، لا في ردود أفعال الناس وسلوكهم.
ولهذا الأمر نتائج وخيمة على عملية التعلم وعلى آليات استضمار ما يمكن أن تأتي به باعتبارها الأداة الأولى للاندماج الاجتماعي والثقافي. فالطفل يعيش هذه الازدواجية في شكل مفارقة غريبة قد لا يعي مبكرا مضمونها، ولكنه يصطدم بها باعتبارها حاملة لتفاوت صريح بين “فصاحة” المدرسة و”عامية” المحيط. وهذا التفاوت لا تختص به بالعربية في ذاتها من حيث هي لغة خالقة، كما يجب في كل لغة، لمستويات هي الدليل على قدرتها على إنتاج المعرفة في قطاعات متنوعة دون أن تتخلى مع ذلك عن مهمتها في تدبير شؤون اليومي وتلبية حاجاته، بل مرتبطة بمجموعة من العوامل، منها ما له علاقة بالمحيط ومنها ما له علاقة بطرق التعلم ذاتها.
وفي جميع الحالات، فإن هذا التفاوت وثيق الصلة بحالة مجتمع تنخره الأمية ويشكو من بعض الخصاص الحضاري، ولا يكترث كثيرا لأهمية ما يمكن أن يلتقطه وعي الطفل ويتسلل إلى ذاكرته باعتباره جزءا من العربية، وهو ما ستكذبه الأيام الأولى للمدرسة. لذلك لا يمكن اعتباره،كما يدعي البعض، حاصل اختلاف بين لغة أم هي الدارجة، ولغة ثانية هي العربية الفصحى التي نتعلمها كما نتعلم كل اللغات الأجنبية.
والحالة هذه، فإن الطفل لا يتعلم فقط، بل عليه أن “ينسى” أيضا، وهو أمر يحتوي على إحراج كبير، ذلك أن التعلم ليس مرتبطا بتنشيط لذاكرة تخزن، بل أيضا بنسيان ما تم تخزينه. لذلك ، فإنه لا يمكن أن يتخلى عن ذاكرته الأولى إلا إذا استطاعت الكلمات الجديدة، بنفس قوة الأولى، احتلال موقع ثابت في لسانه ووجدانه، أي قدرتها على التحول إلى أداة لها مردودية : في سوق التواصل اليومي و في سوق إنتاج المعرفة وتداولها وفي سوق العمل. وهو أمر لا يساعد عليه المحيط، فالمحيط بلا هوية.
لذلك، فإن التخلص من هذه الازدواجية، يمر عبر تقليص الفجوة الفاصلة بين لغة المدرسة ولغة الشارع إلى حدودها القصوى ( أتحدث عن تقليص لا عن إلغاء كلي، فمبدأ الاقتصاد الذي يتحكم في اشتغال اللغات يمنعنا من ادعاء ذلك)، وضبط الانتقال من هاته إلى تلك وفق “سلمية” موقعها في اللسان العربي لا خارجه. وهي سلمية مرتبطة بالسياقات المعرفية والإخبارية للتداول وإنتاج المعرفة، لا برغبة المتكلم أو هواه. وفي جميع الحالات، فإن الأمر لا يتعلق بتحولات فجائية يستحيل تحققها، بل دال على سيرورة طويلة ومعقدة ومركبة وتستدعي انخراط قطاعات واسعة من المجتمع والدولة، ولن يلعب فيها قطاع التربية والتعليم سوى دور القاطرة التي تعرف وجهتها جيدا. فالذي يعرف من أين جاء يعرف بالتأكيد إلى أين يمضي،كما يقول مثل إفريقي.
إن استمرار هذه الفجوة الكبيرة في الوجود بين “اللغتين” سيعمق بالتأكيد انفصال العربية عن محيطها الحيوي، وسيدفع بها خارج مساحات الفضاء العمومي ( بكل واجهاته الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية ) وستزداد غربتها عن الأشياء. وسيؤدي في النهاية إلى خلق مساحات موحشة داخل الذات، وهي مساحات قد تكون مرتعا لكل شيء، وقد تعوق النمو النفسي السليم وتقف حاجزا أمام تواصل اجتماعي فعال ستكون لانعدامه أو قصوره نتائج قد لا تخطر على بال أكثر المراقبين تشاؤما. إن المساحات التي تنسحب منها اللغة يستوطنها العنف، فاللغة لا تُستبدل، إنها تترك مكانها لأشكال تواصلية قريبة من “الحس”، قد تستطيع تغطية بعض الحاجات الأولية ولكنها لن تنتج بالتأكيد معرفة. فقوة اللسان ليست في التسمية بل في خلق لغات داخله.
ذلك أن المناطق التي لا تغطيها اللغة هي مناطق عارية، عارية بالمفهوم الذي يجعل الحسي يحل محل المفهومي. إن الأمر يتعلق بتماس مباشر يتم خارج حدود التوسط. وهذا التماس ( الإثيسيا كما كان يقول علماء اليونان، أي اللقاء المباشر بين الحس وبين موجودات العالم الخارجي) حيوي وانفعالي، إنه بؤرة للهوى من حيث هو حس أدنى، بتعبير كريماس، يشير إلى علاقة مباشرة مع الحدوس الجوفاء، تتم خارج ممكنات العقل، أو يقوي من حضور المركب اللساني في التقاط الكون عوض مفهوم ينوب عنه.
وهذا أمر بالغ الأهمية، ويرد في الوقت ذاته على الداعين إلى العودة إلى العامية واستعمالها أداة في التدريس نفسه، وهي دعوة تكشف إما عن جهل بنمط اشتغال اللغات، أو هي حالة مرضية عند أشخاص بلا هوية لا يعرفون لغتهم ولا لغة الآخر، والراجح أنهما معها. فما يتسرب إلى الذهن ليس أشياء، بل صورة عنها، أي مفاهيم تضم الصفات والأسماء قادرة على الفصل بين الوصف “الحافي” للأشياء كما يتم ذلك في الكثير من حالات اللسان العامي، وبين حالات ” تهذيب” تخلص الشيء من إحالاته المباشرة خارج التوسط التي توفره ضوابط السلوك الثقافي (صفات الممكن الحسي الذي لا يحضر في الذهن إلا من خلال مثيرات فسيولوجية )، وتقدمه إلى الوعي في صيغة ثقافية راقية “تخفف” من وقعه أو “تصوغه” كما يريده التحضر لا كما يشتهيه الحس.
ولأمر ما نلجأ إلى العربية الفصحى لكي نتحدث عن أشياء وأعضاء تسميها الدارجة، ولكنها لا تستطيع استعمالها إلا ضمن مساحات ضيقة تحتاج إلى حميمية أو تلوذ بسياقات بالغة الخصوصية ( إن استعمالها العلني قد يصيب الذوق السليم في مقتل). وهذا أمر بالغ الأهمية في الاستعمالات اللغوية المتفاوتة، فالفكر نظام يفرضه الذهن على فوضى الحواس، لذلك تصر كل الألسنة على التمييز داخلها بين لغات العلم بكل فروعه، وبين المستوى الذي يكتفي بالاستجابة لحاجات التجربة النفعية، دون أن تخلق قطيعة بين الأولى والثانية كما هو حاصل عندنا في أغلب الحالات، ودون أن “تؤدلجها” أو “تدينها” وتربطها بغايات توجد خارجها قد تقود في نهاية الأمر إلى قلب كل المعادلات: فعوض أن نلائم اللغة مع الحاجات الجديدة، نعمل جاهدين على ملاءمة الحاجات مع اللغة ( تقديس اللغة، أو ربطها بعرق أو هوية قارة موجودة خارج التاريخ، كما يمكن أن يُفهم من العبارة ” كمال اللغة العربية”).
استنادا إلى هذا، فإن التقريب المبكر للأشياء من وجدان الطفل وعقله عبر لغة سليمة مستوحاة من حاجات الواقع، لا من استعارات الماضي وقوالبه، هو تهذيب مبكر للإحساس بالعالم الخارجي وتبين مستوياته ومظاهره. فنحن لا نمسك بالجوهر، فالجوهر كوني، أو يوجد خارج ممكنات الإدراك كما تقر بذلك أغلب التيارات الفلسفية، ولكننا نميل إلى التمثيل الرمزي ونحتفي به لأنه هو مدخلنا إلى تحديد هويات تختفي في اللباس وتأثيث المنازل وطقوس الأكل واستقبال الضيوف، ولكنها لا يمكن أن تعبر عن نفسها خارج هذه المظاهر إلا من خلال اللغة، فهذه المظاهر متغيرة وقابلة للاندثار، أما اللغة فمُراكمة بطبيعتها، وفي التراكم تذكير بواجهات الهوية ذاتها لحظة انبثاقها ولحظة ثباتها ولحظة تغيرها، ولحظة أزماتها أيضا كما نعاين ذلك اليوم.
ولئن كنا آثرنا التركيز على هذه الأبعاد دون الإشارة إلى الجوانب الديداكتيكية وفعاليتها في تعلم اللغة، فإن ذلك لا يعني أننا نستهين بما يمكن أن تقدمه الطرق الحديثة في التعليم، إننا نعتقد فقط أن هذه المبادئ الأولية تشكل الأساس الذي يجب أن يسند كل طرق التربية المعتمدة في تعلم اللغة. فمردودية الجانب “التقني” في العملية التربوية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال استيعاب هذه المعطيات وتسريبها ضمن خطة التدريس ذاتها. والدليل على ذلك أننا جربنا العديد من هذه الطرق، بل صرفت أموال طائلة دون أن يقودنا ذلك إلى الاستقرار على خطة تربوية شاملة يمكن للعربية من خلالها أن تستعيد موقعها في المدرسة وخارجها.
لذلك يجب أن يعي الاختيار البيداغوجي خصوصية الانتقال من عالم “الانطلاق الحر” إلى عالم “الإكراهات” التربوية التي تمثلها المدرسة في حياة الطفل استنادا إلى هذه التفاوتات. فتحديد حجم هذا الـمفصل المركزي وامتداده كفيل بامتصاص حالات الذهول الأولى عنده. إنها لحظة حاسمة في الإمساك “العالِم” بالأشياء وفي التبني النقدي لقيم المجتمع ورصد تحولاته وتعلم الانتماء إلى ثقافة تلعب فيها اللغة الدور الرئيس.
منقول عن موقع سعيد بنكراد : الرابط رفقته ،
http://saidbengrad.free.fr/ar/l-Arabe.htm