في المفهوم:
عصر التنوير المعروف أيضًا باسم «عصر المنطق». هو حركة فكريّة وفلسفيّة هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبيّة خلال القرن الثامن عشر. واعتقد المشاركون في الحركة أنّ من شأنها أن تنير ذكاء الإنسان وثقافته إثر عصور الظلام الوسطى. حيث سيطر على عقول الناس التفكير اللاهوتيّ المشبع بالخرافة والأسطورة, والعقل الميتافيزيقيّ, والذاتيّة. وتشمل خصائص التنوير بزوغ مفاهيم أساسيّة مثل الإيمان بالعقل والحريّة والمساواة والمنهج العلميّ في التفكير. وقد كانت فلسفة التنوير تنتقد الممارسات الدينيّة السائد في عصر الاقطاع, وخاصة ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة, وتدين الأنظمة الملكيّة والأرستقراطيّة الوراثيّة المستبدة. وبالتالي كان لفلسفة التنوير الأثر الكبير في التبشير بتشكيل الدولة المدنيّة ومضامينها كالمواطنة والمؤسسات وحرية الرأي والعقيدة وبصياغة الدساتير النابعة من مصالح الشعب بكل مكوناته وخاصة الطبقيّة منها, مثلما كان لها التأثير الكبير على قيام الثورات الشعبيّة في أوربا وعلى نخب العالم الثالث, وكان في مقدمة أسباب هذا التأثير المنطلقات النظريّة للثورة الفرنسيّة المشبعة بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والعلمانية والدولة المدنيّة. (1).
لقد ساهمت الثورة الصناعيّة على امتداد القرنين السابع عشرة والثامن عشرة, ممثلة بحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة المالكة ومساندة الطبقة العماليّة المنتجة, في تطوير القوى المنتجة في المجتمع, وخلق حالات جديدة من التناقضات بين أسلوب الإنتاج الرأسماليّ الذي أخذ يشق طريقه داخل العلاقات الاجتماعيّة السائدة, ممثلة بأسلوب الإنتاج الإقطاعيّ وحوامله الاجتماعيّة الرئيسة وهم الملك والكنيسة والنبلاء, وبخلق علاقات وتحولات عميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة, ظهر للطبقة الرأسماليّة والعماليّة الدور الكبير في وجودها, وخلق بنيّة سياسيّة جديدة تقودها بشكل فعليّ الطبقة الرأسماليّة بشكل خاص. ومن أهم التجليات العمليّة لأفكار عصر التنوير كانت الثورة الفرنسية عام (1789) التي تعمقت مفاعيلها داخل فرنسة حتى عام (1799)، من جهة, وكان لأفكارها الفلسفيّة وقيمها الثوريّة تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي عموما، والنخب المثقفة في العالم الثالث ومنها عالمنا العربي على وجه الخصوص من جهة ثانية, هذه الثورة التي انتهت بسيطرة البورجوازية خلال التحالف مع نابليون على السلطة. وتشكيل المرحلة الاستعماريّة معلنة بداية المرحلة الامبرياليّة للطبقة الرأسماليّة ذاتها التي راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن قيم ومبادئ هذه الثورة التقدميّة بعد وصولها غلى السلطة.
لا شك أن أسلوب الإنتاج الرأسماليّ قد ساهم في تطوير العلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة والتكنولوجيّة والبيولوجيّة والرياضيات والعلوم الإنسانيّة بشكل عام وفي مقدمتها الفلسفة وعلم الاجتماع.. الخ. ومع سياق هذا التطور العلمي بدأت الأفكار الفلسفيّة الماديّة تشق طريقها في عالم الفكر بشكل أكثر وضوحاً مما كانت عليه مع بداية الثورة الصناعيّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر, لتلامس ليس عقول الفلاسفة والمفكرين فحسب, بل وقوى الشعب التي عانت من قهر وظلم النظام الاقطاعيّ والكنيسة. بيد أن هذا التقدم الفلسفيّ جوبه من قبل القوى الرجعيّة آنذاك, وفي مقدمتها الكنيسة وسدنتها من رجال العلم والأدب الذين عملوا مروجين لأفكار الكنيسة وحلفائها من النبلاء.
وعلى الرغم من أن الفكر التنويريّ في بريطانيا كان سباقاً على الفكر التنويريّ في فرنسا, إلا أن الفكر التنويريّ في فرنسا كان له تأثيره الكبير على الفكر التنويريّ للغرب عموما, خاصة بعد قيام الثورة الفرنسيّة وكومونة باريز, (1871). وتأثير أفكارها ومبادئها التي أسس لها مفكرو التنوير الفرنسي أمثال فولتير وروسو وريكاردو ومنتسيكيو. ومع ذلك لم يخبو الفكر التنويريّ في بريطانيا, حيث “ظهر جان لوك” كمفكر تنويريّ ساهم مساهمة فعالة بحركة التنوير الفرنسيّة, فمع فولتير ومنتسيكيو بدا المثقفون التنويريون الفرنسيون يتعرفون على إنكلترا الجديدة وثقافتها وخاصة أفكار جان لوك. (2).
جان لوك والتنوير:
لقد طورت أفكار “جان لوك” -1632 – 1704. أفكار فلسفة التنوير, حيث دعا هذا الفيلسوف أنصار تيار التنوير الواسع إلى مناهضة الأيديولوجية الاقطاعيّة السكولائيّة/ المدرسيّة. أي (الدينيّة الوثوقيّة) التي جعلت الإيمان بديلاً عن العقل, والفضيلة بديلاً عن حل التناقضات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة القائمة, وراحوا يؤكدون على العقل أولاً وتوظيفه لصالح العلم, واعتبار نور العقل وسيلة أساسيّة لإسعاد المجتمع, كما نادوا بضرورة تحرير الأخلاق من الوصاية الدينيّة, ونشر الثقافة والعلم بين الجماهير باعتبارها القوة المحركة للتطور التاريخ, والشرط الأساس لسلطة العقل. (3).
الدور التاريخي لفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر:
1- محاربة وفضح ركائز الأيديولوجيا الاقطاعيّة والحياة الفكريّة المدرسيّة /السكولائية التي توطت في المجتمع الاقطاعيّ, وكانت عائقاً كبيراً أمام تقدم العلم والمعتقدات العلميّة. ووطدت سيطرة الكنيسة الروحيّة على المواطنين, ودعمت استمرار السلطة السياسيّة للقوى الرجعيّة السائدة, ممثلة بالملك والكنيسة والنبلاء.
2- ضرورة محاربة هذه السيطرة بشقيها الدينيّ والسياسيّ, والدعوة لتحرير عقول الناس فكريّاً وسياسيّاً.
3- النظر إلى علاقة المعرفة بالإيمان. أي توضيح الرؤية العلميّة الحديثة بأحداث الكون, أمام المواقف الفكريّة للأساطير والخرافات التي شكلت عقول الناس بسبب توجهات الكتب الدينيّة اللاعقلانيّة في النظر إلى الكون وتشكله, وخلق الإنسان وغير ذلك. فرجال الدين يعتبرون كل ما ورد في الكتب المقدسة, حقائق جرت في التاريخ, لا تقبل النقد والتعديل ولا حتى المراجعة, وهي قوانين سنها الله وحدد مثلها القواعد الأخلاقيّة والتنظيم السياسيّ والقانونيّ للمجتمع. أو بتعبير آخر قام التنوير بالدعوة إلى إعلاء شأن العقل والعلم أمام الغيبيات والأساطير والخضوع المطلق لسلطة السلف. أي الانتصار لعقليّة كوبريك وهارفي وسبينوزا, وكل المفكرين والفلاسفة العقلانيين الذين حاربتهم الكنيسة.
4- العمل على إشاعة روح التسامح الدينيّ.
5- الدعوة إلى حريّة البحث العلميّ والفكر والفلسفة. (4).
نقد أفكار فلاسفة التنوير:
إن مشكلة فلاسفة عصر التنوير تكمن أساساً في كونهم لم يعتبروا التناقضات الاجتماعيّة وما تولده من صراعات بين اَلْمُسْتَغِلْ واَلْمُسْتَغَلْ هي أساس الصراع مع السلطات السياسيّة والدينيّة المتحالفة مع بعضها ضد مصالح الجماهير, بقدر ما اعتبروه صراعاً مع كنائس دينيّة ورجال الكهنوت الذين وقفوا إلى جانب الملك والنبلاء, كما جرى سابقاً للإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر وزنغلي. إن نظرة التنوير للدين ظلت نظرة إيمانيّة إلى حد كبير, فهم يريدون القول بضرورة الاعتراف بالله علة أولى للعالم, وهذا ما قال به معظم فلاسفة التنوير, فهم لم ينكرون الإله والوحي والآخرة, وغيرها من المعطيات الدينيّة التي تنافي العقل أو تناقضه. ولكنهم رفضوا الاعتراف بأن كل شيء مخلوق لله, وكانوا يسخرون كثيراً من رجال الدين كما فعل فولتير في كتابه (قاموس الفلسفة), وقدموا الكثير من رجالاتهم للمقاصل أثناء قيام الثورة الفرنسية.
لقد حمل التنوير دلالتين ثوريتين, الأولى: كينونة الإنسان العابرة للهويات الوطنيّة والقوميّة والدينيّة, أي وجوده الكونيّ. والثانية: قدرة العقل الإنسانيّ على بناء عالم مضيئ ومتنور, وبالتالي فالإنسان مشروع التنوير وهدفه, ففي الدلالة الأولى أطاح التنوير بالقوالب الدينيّة والطبقيّة والفلسفيّة السائدة في عصر الإقطاع, التي قزم فيها الإنسان, وأعلن القطيعة الجدليّة ولا أقول السكونيّة مع التراث القديم, على اعتبار أن هناك في التراث محطات ايجابيّة وجوهريّة في قيمها الإنسانيّة ولا بد من تبنيها واستلهامها وبالتالي توظيفها لخدمة الإنسان. وفي الدلالة الثانيّة أيقظ التنوير القدرة الفكريّة للفرد لمعارضة دور الدين الإرشادي لرجال الكنيسة في الفكر والعمل. وربطه بالفرد دون وساطة بين الله والناس, مثلما ركز على دور الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على تحقيق مصيره بذاته. (5).
ملاحظة:
أأكد هنا على أن فلسفة عصر التنوير وكل تجلياتها, لم تكن موجودة في الأصل على أرض الواقع لولا قيام الثورة الصناعيّة, وتشكل الطبقة البرجوازيّة والطبقة العماليّة وشريحة الفلاسفة والمفكرين المعبرين عن مصالح هاتين الطبقتين وطموحاتهما. لذلك إن كل دعوة للتنوير في أي مجتمع من المجتمعات لم تتوفر فيها التحولات الموضوعيّة ممثلة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج في الوجود الاجتماعيّ, ولم تتوفر فيها أيضاً التحولات الذاتيّة وفي مقدمتها تشكل طبقة اجتماعيّة واعية لذاتها ولمصالح شعبها, سيظل الفكر التنويري فكراً تبشيرياً رسولياً, تبشر به نخب مثقفة مرتبطة بقضايا شعبها, في الوقت الذي يلاقي فيه هذا الفكر والمبشرون به, الكثير من المعوقات من قبل القوى الحاكمة المستبدة ومشايخها من تنابل السلطان, وجهل الشعوب وتخلفها وسيطرة الفكر الجبريّ والأسطوريّ على عقولها.
كاتب وباحث من سوريّة
المراجع:
1- موسوعة ستانفورد للفلسفة.
2- (موجز تاريخ الفلسفة – مجموعة من الباحثين السوفييت 0 دارالأهالي – دمشق – 1971). ص 266, وما بعد).
3- المرجع نفسه. 266 وما بعد.
4- – للاستزادة أكثر عن أفكار عصر التنوير يراجع: كتاب (فلسفة الأنوار- تأليف ف. فولغين دار الطليعة بيروت 1981 طبعة اولى. ترجمة هنريت عبودي.).
5- موقع مجتمع الأكاديميّة بوست – فلسفة التنوير وتفكيك المقدس.