تتبعت جماهير كل دول العالم دفاع المغرب دولة وشعبا عن حقه في استكمال تحريره. تابع كيف تقوت العزائم مع مرور الوقت في هذا المجال. حققت الدبلوماسية القوية في مغرب العهد الجديد انتصارات استحقاق في بداية الألفية الثالثة. أحست الشعوب العربية والمغاربية بشعور ومعاني الانتماء للأوطان والدفاع على سيادات خصوصياتها من المحيط إلى الخليج مغتبطة بانتصار فريق الأسود على أقوى الفرق الدولية في كرة القدم في مونديال قطر 2022. أجهش الأستاذ فتح الله ولعلو وهو يتحدث عن تسامح الحضارات مطالبا فرنسا واسبانيا باحترام المغرب. حقق المغاربة مقومات كافية للدفاع السلمي الموضوعي على النفس. عشنا جميعا احتفاء غير مباشر بما قام به المجاهد عبد الرحمان اليوسفي منذ صباه في كتاب مذكراته، أي منذ أن حصل على شهادة التعليم الابتدائي. لقد أبرز للعاهل المغربي الملك محمد الخامس أمله في استمرار المقاومة وجيش التحرير في أداء مهامهما الوطنية بشكل متواز مع جهود بناء الدولة المؤسساتية.
الوعي التام للمغاربة بالدفاع على تحرير بلادهم ونمائها أصبح حقيقة. تحمل اليوسفي الويلات من أجل ذلك. حلمه لم يكن سوى تحقيق وطن لجميع المغاربة. إنه عاش بذلك زعيما بحجم وطن، وزعيم إجماع وطني. تنكر بصرامة للذات، وسخر حياته للدفاع على المغاربة والمغرب باستماتة.
اعترف الملك محمد الخامس رحمه الله بالهفوة البارزة في خيارات الدولة في مطلع الاستقلال قائلا: “أخطأنا عندما أعطينا الاهتمام الأكبر لبناء الدولة قبل استكمال التحرير”.
تباهى الحسن الثاني في أوج حكمه بطاقات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. انطلق البث التلفزي بمناسبة عيد العرش يوم 3 مارس 1963. تتبع المغاربة نقاشات أول ملتمس للرقابة ضد الحكومة. لوحظ إقبال غير مسبوق على شراء أجهزة التلفاز. منع العاهل المغربي أي محاولة لإيقاف البث متحديا وزن جيوب المقاومة الضارية. تابع العاهل المغربي النقاشات بتمعن. أعجب بتدخلات فريق الاتحاد برئاسة عبد اللطيف بنجلون. أعجب بالخصوص بتدخل عبد الواحد الراضي، فقال لمجالسيه أتمنى أن يكون لدي عشرة من أمثال هذا الشباب. ثم أعاد التعبير عن نفس الإعجاب على إثر أحداث 23 مارس 1965 حيث قال:”لماذا لا تسمحون لشباب الاتحاد بالمشاركة في الحكومة فنحن في حاجة إلى عناصر من أمثال عبد الواحد الراضي”.
أما اليوسفي، الذي عبر منذ صباه عن طموح تحقيق الدولة القوية على جميع المستويات، فقد اعترف في السنوات الأخيرة من عمره بما يلي ” وبالمناسبةّ، ظل يخالجني طيلة العقود المنصرمة، تفكير عميق، ذلك، أنه لو ساعدت وسمحت الظروف ليتعرف كل من الزعيم علال الفاسي والمهدي بن بركة على بعضهما البعض، ولو تمكن كل منهما من اكتشاف الآخر، من خلال الحوار والنقاش السياسي والفكري، وبواسطة العمل اليومي والنشاط التنظيمي، لما حصل يوما الانفصال داخل حزب الاستقلال….. ويمكن تصور نفس الشيء، أو كان الحلم به على الصعيد الوطني، لو تمكن كل من الأمير الحسن وعلال الفاسي والمهدي بنبركة ومحمد البصري من بناء جسور التواصل فيما بينهم، والتفكير المشترك في تصور بناء مغرب ما بعد الاستقلال، لتمكن المغاربة من تفادي عديد المنعرجات التي أخرت مسيرتنا، ولعشنا مغربا آخر غير الذي نعيشه”.
في نفس الاتجاه، أعتبر هذا المقال وفي هذا التوقيت بالذات بمثابة تأييد لمسار دولة أصبح واضحا للعيان. لقد عاد المغرب بسلاسة إلى سكة بناء الدولة القوية. لقد تم بذل جهد محترم ومحاولات جادة لربط الماضي بالحاضر خدمة للمستقبل. إنها الدلالات التي جسدتها بموضوعية تامة من خلال هذه النبذة التاريخية في حياة المقاوم عبد الرحمان اليوسفي ومسار الدولة المغربية من ومن المقاومة إلى يومنا اليوم.
عند عودته إلى مدينة الرباط لإتمام دراسته بثانوية مولاي يوسف، تعرف اليوسفي على بنبركة. هذا الأخير كان بدوره استثنائيا في كل شيء. تحول إلى نجم “كوليج مولاي يوسف” بعدما ترأس جمعية قدماء تلامذته، منتصرا على السيد رشيد ملين الذي كان يمثل التقاليد المخزنية والبروجوازية الرباطية. بموقعه الرائد استطاع المهدي أن يرجح كفة الجيل الجديد للوطنيين في مجال العمل السياسي ومقاومة الاستعمار.
اليوسفي كشاب لم يكن عاديا أبدا. كانت له مكانة راقية عند الشهيد المهدي بن بركة. تعلق بهذا الأخير بسبب نشاطه وحركيته الدائمة. كان بارعا في الاستقطاب والتعبئة والتأطير. اليوسفي كان من ضمن الشباب الذين استدعاهم المهدي إلى بيت والدته. أسلوب عمل بنبركة كان مفعوما بالأفكار البناءة. بيت أمه يحتوي على ثلاث غرف في الطابق الأرضي وثلاث غرف في الطابق الفوقي. كل غرفة خصصها في نفس الآن لمجموعة من الشباب المغربي اليافع. بعد الانتهاء من إلقاء عرضه على مجموعة ينتقل بحيوية فائقة إلى الأخرى لإلقاء باقي مداخلاته. يتحرك بنشاط بَيِّن طوال فترة الاستضافة إلى أن ينتهي من تنفيذ فقرات برنامجه المسطر بدقة متناهية، فيودع الجميع مبتسما ومغتبطا بتحقيق أهدافه الوطنية المحددة مسبقا. عندما يتيقن من قوة درجة تأثيره واقتناع المستهدفين، كان يمر مباشرة إلى أداء اليمين على المصحف الكريم. إنه قسم الوفاء للدين والوطن وللملك.
وهو دون العشرين سنة من عمره، تعرف عبد الرحمان على هذا القائد الفذ في فترة حساسة كان فيها حزب الاستقلال يستعد لتقديم عريضة الاستقلال. لقد كان اليوسفي من النخب الشابة الرائدة التي يعدها المهدي لمرحلة ما بعد الاستقلال. أدى بدوره القسم بين يديه في دجنبر 1943. كان القسم ينص كما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه على الوفاء للدين وللوطن وللملك وعلى الاحتفاظ بأسرار الحزب وعدم كشف تنظيماته. شكل اليوسفي بسرعة، بدعم من بنبركة، خلية تابعة لحزب الاستقلال في ثانوية مولاي يوسف. عمل على امتدادها إلى المدرسة المولوية التي يدرس بها الأمير مولاي الحسن ولي العهد. بالخليتين انطلقت عملية المطالبة بالاستقلال من خلال مظاهرة في الرباط. اشتدت المقاومة. تم تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944. تم اغتيال الزعيمين الحاج أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي.
طرد اليوسفي من الثانوية وداخليتها بسبب توزيع نسخ منها داخلها وشرح مضامينها للتلاميذ. تزعم اليوسفي عملية الانضمام إلى التظاهرة التي نشبت بساحة المشور أمام القصر الملكي بالرباط كرد فعل على اعتقال القيادات الحزبية. تم دهس المراقب العام للثانوية السيد رو Roux، فأصيب بكسر في يده. عاد الجميع بعد ذلك إلى الثانوية ليجدوا أبوابها موصدة أمامهم. التحق الجميع وحتى تلاميذ الصف الابتدائي بمسجد السنة كملجأ. بنبركة كان يتابع الأحداث عن كتب. أرسل مجموعة من المناضلين الذين تكلفوا بإيواء كل التلاميذ بتوفير الأكل والشرب والمأوى لعدة أيام. تم اعتبار اليوسفي من أكبر المشاغبين وتم تصنيفه على رأس لائحة المطرودين من الثانوية. حل ضيفا على بيت السيد عبد الرحمان بن ابراهيم قبل أن تعتقل هذا الأخير السلطات الفرنسية. التقى بعد ذلك بالسيد عبد الحق القباج فنصحه بنصيحتين:
- التوجه أولا في أقرب وقت ممكن إلى المحجز “الفوريان” لمعالجة الجرب الذي داهم جسمه. وصل إلى المكان المقصود. طلب منه نزع ثيابه، فبدأت عملية رش كل جسده بمادة كريهة الرائحة وشديدة الألم. إنها مادة ترش بها الحيوانات المصابة بالجرب.
- التوجه ثانيا إلى بيت العلامة الفقيه محمد بلعربي العلوي للإقامة لديه.
استقر مؤقتا في منزل شيخ الإسلام بالرباط. رحب به هذا الأخير هو وابنه مصطفى زميل اليوسفي في الثانوية والذي سيصبح فيما بعد وزيرا للعدل. أبعد هذا الأخير عن العاصمة قسرا. اضطر عبد الرحمان للعودة مرة أخرى إلى درجة الصفر والبحث عن مخبئ جديد. آواه المناضل زين العابدين بن إبراهيم لفترة قصيرة. لجأ لمدن أخرى قبل أن يستقر بالدار البيضاء.
بالصدفة التقى السيد عباس المقري زميله في الدراسة، فعرض عليه مرافقته إلى مدينة آسفي. زار مضطرا هذه المدينة لأول مرة في حياته. رحب به وتم نصحه باتباع حمية للتخلص من الجرب. امتثل لهذه النصيحة رغم صعوبة تنفيذها في دار باشا المدينة الزاخرة بما لذ وطاب. كانت النتيجة هائلة وتحسنت صحة عبد الرحمان بشكل سريع. التقى صديقا له من طنجة كان تلميذا مناضلا بثانوية مولاي يوسف وهو يتجول مدينة أسفي. تبادلا الحديث، وحكى له عبد الرحمان ما وقع له. في المساء، التحقت سلطة الحماية بمنزل الباشا معاتبة إياه على إيواء شخص معروف بعدائه لفرنسا.
غادر اليوسفي مدينة آسفي متوجها إلى مدينة الجديدة. قضى معظم إقامته بمنزل الحاج مصدق السرغيني، وهو من أعيان المدينة وكبار فلاحيها. التقى بأصدقاء الدراسة. انسجم معهم واستأنسوا بوجوده الدافئ، فحاولوا إقناعه بالاستقرار نهائيا بالجديدة. اقترحوا عليه مساعدته على إنجاز مشروع تجاري مهم وتزويجه من امرأة “دكالية” وبناء أسرة والتفرغ لتربية الأطفال. فكر الليل كله، ولم يزده التفكير إلا تشبثا بالمسار الذي رسمه لنفسه منذ سنوات. غادر المدينة حاسما اختياره للطريق الصعب الذي يتجلى في إتمام رسالته الدراسية والنضالية.
رجع إلى الدار البيضاء ربيع 1944. كدح ليل نهار. كان يرتب لقاءاته في مقهى فرنسا. التقى عبد القادر بنبركة في شهر يونيو 1944، فأخبره أن الإخوان في حزب الاستقلال يبحثون عنه. رافقه إلى أحد التجار بطريق مديونة، وهو الحاج بوستة الجامعي أحد قادة الحركة الوطنية وحزب الاستقلال فتم ربط الاتصال مع القيادة الحزبية. استقر مؤقتا عند احميدو الوطني. من داخل معمل كوزيمار ابتداء من يوليوز 1944، تمكن اليوسفي من بصم الحركة النضالية والنقابية وقواها بالعاصمة الاقتصادية. برهن على قدرة كبيرة في التنظيم الحزبي. تدخل له وفد من العمال لدى مدير المعمل الفرنسي، فأصبح عبد الرحمان أستاذا لمحو الأمية والدعم التربوي للأطفال داخل حي العمال. كان ينتقل كل يوم من منزل حميدو الوطني بالحي اليهودي بدراجة عجلاتها مطاطية ثقيلة السير. كان في غالب الأحيان يحمل الدراجة أكثر ما تحمله. حتى وهو يركبها، كانت الجلابة تلعب دور المظلة في مواجهة الهواء والرياح، مما كان يزيد من صعوبة تقدمها. نجحت المهمة في كوزيمار وامتدت إلى معامل أخرى. قوة التعبئة ساهمت في تيسير تنفيذ قرار إحياء مناسبة عيد العرش في جو عمالي بديع ساهم في ترديد أناشيده تلميذات مجتهدات بارعات. بفضل اليوسفي أسست أول تعاونية أو جمعية للأعمال الاجتماعية بمعمل كوزيمار التي امتد صداها جغرافيا وزمانيا إلى أن حل اليوسفي ضيفا عليها وهو وزير أول.
حدث مثير وقع لليوسفي في مساره المضني المعتاد. استمر في ارتداء لباسه التقليدي المكون من الجلباب والطربوش إلى أن سقط هذا الأخير ضحية للإنزال الأمريكي. تخلى عنهما نهائيا بعدما انتزع أحد جنود المارينز ممتطيا مع رفاقه سيارة عسكرية طربوش اليوسفي وهو راكب دراجته الهوائية. أراد اليوسفي اقتناء طربوش جديد لكن ثمنه كان يفوق استطاعته المالية. تخلى على الحلة المغربية الذكورية التقليدية منذ ذلك الحين ولم يرتد اللباس الرسمي المغربي إلا بعدما عين وزيرا أولا لحكومة التناوب التوافقي. استقبل اليوسفي وزير الدفاع الأمريكي. أثار مازحا حادثة الطربوش العجيب. اعترف الوزير بالدين بصفته المسؤول على الجيش الأمريكي. وبعد أسابيع توصل بقبعة أميرال للجيش الأمريكي، لكنها لم تعوضه القيمة المعنوية للطربوش المفقود.
اشتد عليه الخناق من السلطات الفرنسية بعدما أفضت التحريات بمناسبة تأسيس التعاونية السالفة الذكر إلى أن هناك شابا اسمه اليوسفي عبد الرحمان معاد لفرنسا ويبث الفتنة والبلبلة وسط العمال. اكتشف العمال أن إمام المسجد كان جاسوسا، وهو من أفشى أسرار العمل النضالي داخل المعمل. اتخذت الإجراءات لاستبداله بدهاء كبير، واستمر العمل النضالي به بعدما تم تعويض عبد الرحمان اليوسفي بالمناضل الكبير إبراهيم الروداني بعد تزكيته من طرف القاضي المختص. لقد تيسرت الأمور بعد انخراط العمال المغاربة في النقابات الفرنسية اليسارية. امتد العمل النقابي إلى مناطق أخرى.
فتح الروداني منزله لكل العمال، وانطلقت عملية تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، وكان سيكون أول رئيس لها. تغيرت البنية الديمغرافية للحزب. اشمأزت بعض القيادات من ذلك. امتعض علال الفاسي من هذه التطورات غير المعتادة، لكنه استحسنها في الأخير. تكللت جهود اليوسفي بتوسيع قاعدة الحزب. تشكلت على إثر ذلك أربعة مناطق بالدار البيضاء الكبرى وهي: منطقة درب السلطان تحت إشراف السيد بوشتى الجامعي، ومنطقة المدينة القديمة تحت إشراف السيد الهاشمي الفيلالي، ومنطقة درب غلف تحت إشراف بناصر بركات، وأخيرا منطقة الحي المحمدي الشهيرة التي كان يشرف عليها اليوسفي بنفسه. أثمر العمل التنظيمي وأشرف اليوسفي على إنجاز العديد من المشاريع الاجتماعية ومنها على الخصوص إنشاء المدارس وعلى رأسها مدرسة “الاتحاد” التي تخرج منها الزعيم النقابي نوبير الأموي. تم تنويع المقررات الدراسية لتشمل المواد العلمية والأدبية. تمت تنمية العمل الجمعوي في الثقافة والفنون والرياضة. تم تأسيس فريق الاتحاد البيضاوي (الطاس). تم إنشاء بعد ذلك العصبة المغربية لكرة القدم، وتم تنظيم أول دوري بمناسبة عيد العرش بتاريخ 18 نونبر 1946.
نقل إلى طنجة وبدأ نشاطاته الإعدادية لاستقبال الملك محمد الخامس (سنة 1947). دخل طنجة محاطا بمناضلين أوفياء. تم تنظيم لقائه مع أمه الحاجة بعدما اعتقدت بموته. نحج في تأسيس فرع لحزب الاستقلال من أبناء المدينة ونواحيها، وشكل خلايا في مدينة البوغاز قادرة على تعبئة السكان. بجهوده المضنية وكلله المتواصل تحول إلى فاعل أساسي لجعل زيارة الملك محمد الخامس لطنجة حدثا بارزا ومنعطفا هاما في تاريخ المغرب. إنها المناسبة التي أبرز فيها للعالم أن المغرب متمسك بوحدته الوطنية. نجحت زيارة عاهل البلاد الذي شعر بارتياح كبير وسط شعبه الملتحم بعرشه. وكان الخطاب الملكي التاريخي الذي أكد من خلاله الملك مدى تعلق المغرب بالجامعة العربية متجاهلا الوجود الفرنسي.
استمر في نضاله المستميت بالدار البيضاء من شهر يوليوز 1944 إلى غاية نهاية السنة الدراسية 1949. احترف اليوسفي العمل التطوعي كمعلم في المدارس الحرة لسد حاجياته الضرورية اليومية. لم يتهاون قط في دراسته والإلمام بدروسه ليلا إلى أن حصل على شهادتي الباكالوريا وبلوغ السنة الثانية من كلية الحقوق. حقق هذا الإنجاز بالرغم من كون إدارة ثانوية مولاي يوسف قد رفضت بدون مبرر تحويل ملفه لأي ثانوية بالدار البيضاء.
بعد نجاح الحزب في الترويج لمذكرته حول حقوق الإنسان سنة 1948 بالأمم المتحدة، وبعدما كون جيلا من المناضلين والزعامات بالدار البيضاء، توجه عبد الرحمان إلى فرنسا سنة 1949 قصد متابعة دراسته الجامعية والترويج للقضية المغربية. ألح عليه إخوانه في الحزب فشد الرحال إلى فرنسا لإتمام السنة الجامعية الأخيرة بباريس. كان لقاؤه الأول مع عبد الرحيم بوعبيد سنة 1949-1950. التحق بمجموعته المكونة من عبد اللطيف بنجلون، وبومهدي، ومولاي أحمد العلوي وآخرون. وصوله إلى مدينة الأنوار صادف استعداد عبد الرحيم بوعبيد للعودة إلى المغرب ليشتغل محاميا بمحاكمه بعد إنهائه لدراسته الحقوقية. تخصص اليوسفي ورفاقه بباريس في القيام بمحاربة الأمية في صفوف الجالية المغربية بفرنسا والاتصال بالإعلام والقادة السياسيين والبرلمانيين وممثل الأحزاب التقدمية للتعريف بالقضية المغربية لدى الأوساط الفرنسية والدولية وحق المغرب في الاستقلال.
استغل موقع باريس العالمي الذي كان يخول لها تنظيم الجمعيات العامة للأمم المتحدة. في 1948، عقدت الأمم المتحدة جمعها السنوي من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. اشتغل خلال هذه المناسبة إلى جانب بنبركة وفريق المناضلين المغاربة، وتم فضح الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الاستعمارية ضد مطالب الشعب المغربي. كان اليوسفي يقيم بفندق صغير بالحي اللاتيني، فاستضافه السيد عزام بالفندق الفخم جورج الخامس لضمان استمرار اتصاله بالوفود الأجنبية وطرح القضية المغربية. أوصل معاناة المغاربة للعديد من الوفود والشخصيات والصحافيين.
تكلف منذ وصوله لباريس بتنظيم صفوف المناضلين والطلبة والعمال بفرنسا. تواجده القوي أثار غضب السلطات الفرنسية. تم القبض عليه واستنطاقه واتخذ في حقه قرار الطرد من فرنسا. تدخلت العديد من الشخصيات، فتم تحويل قرار الطرد إلى قرار النفي من مدينة باريس إلى مدينة بواتيي وسط فرنسا. استقر في هذه الأخيرة خلال السنة الدراسية 1951-1952 وحصل على الإجازة. ازدادت حدة مضايقته، فغادر سنة 1952 فرنسا إلى مدريد مكلفا بمهام نضالية جديدة.
تعرف بمدينة بواتيي على الدكتور توفيق الشافعي الذي كان أستاذا في نفس الجامعة، وربطته معه صداقة قوية. إنه أحد قادة حركة الإخوان المسلمين ورجل المشاريع الإسلامية الصامت. عاد هذا العلامة إلى مصر وحرمه جمال عبد الناصر من الاستمرار كأستاذ بجامعة القاهرة بمصر مباشرة بعد نجاح ثورته. حصل المغرب على الاستقلال سنة 1956، فتدخل عبد الرحيم بوعبيد عند الرئيس عبد الناصر، وتم قبول التحاقه بالمغرب، ليصبح استاذا جامعيا بجامعة محمد الخامس بالرباط. ارتقى بمهامه ومسؤولياته فأصبح قاضيا بالمحكمة العليا بالرباط، ثم مستشارا بالمجلس الأعلى بمحكمة النقض، ثم مستشارا قانونيا للبرلمان المغربي. انتقل إلى عفو الله بالقاهرة في أبريل 2009. أمر عجيب أن هذا الرجل كان ينبه اليوسفي على ضرورة اتخاذ الحذر من الأنظمة التي تدعي التقدمية والثورية لأنها في النهاية ستسقط كلها لتتحول إلى عملاء لبريطانيا وأمريكا.
في سنة 1959، والملك محمد الخامس في طريقه إلى فرنسا لتسلم الدكتوراه الفخرية من جامعة بوردو تلبية لدعوة رئيس الجمهورية “فانسال أوريول” اعترافا بدور جلالته في دعم “فرنسا الحرة” وتحرير فرنسا من الاحتلال، تجند اليوسفي للتعبئة من أجل استقباله استقبالا يليق بمكانته لدى الشعب المغربي. تجند الطلبة والعمال متحديين السلطات الفرنسية. اشتدت المواجهة وتم اعتقال اليوسفي وعدد من رفاقه. أخبر المغفور له محمد الخامس بذلك، وطلب بإطلاق سراحهم جميعا تحت تهديد بعدم حضوره الحفل المنظم على شرفه. أكثر من ذلك، أصر على اللقاء بالمعتقلين قبل انطلاق التظاهرة، فاستقبل كل من عبد الرحمان ورفيقه مولاي العربي.
لمع نجم اليوسفي لدى القيادات الاستقلالية. بعدما انتهى من الدراسة وحصوله على الإجازة، طلبه الحاج أحمد بلافريج كمساعد في الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة الحملة الإعلامية التي انطلقت في باريس سنة 1951. في نفس الوقت طولب من أجل الالتحاق بالزعيم علال الفاسي بالقاهرة ومرافقته للقيام بجولة بأمريكا اللاتينية. فضل اليوسفي عدم الابتعاد عن العالم العربي. تصادف طلب علال الفاسي مع حدوث انقلاب بمصر في 23 يوليوز 1952، فعرقلت مسطرة حصوله على التأشيرة للدخول للقطر المصري. هكذا توجه الدكتور المهدي بن عبود إلى نيويورك، فيما كان السيد عبد الرحمان النكاي هو من اختير لمرافقة علال الفاسي في رحلته إلى أمريكا اللاتينية.
انتظر اليوسفي كثيرا بمدريد إلى أن اضطر للعودة إلى مدينة البوغاز في نونبر 1952. التحق بصديقه الدكتور عبد اللطيف بن جلون. فضل طنجة عن الدار البيضاء لكونه لم يكن راضيا على السياسة التي ينهجها الحزب في تلك الفترة. لاحظ منطق تعامل القياديين تجاه عناصر هذه الطبقة النشيطة داخل المجتمع المغربي. اعتبر أن التضحيات والجهود التي يبذلها هؤلاء العمال تستحق الاحترام والتبجيل. رأى فيهم اليوسفي خاصيات بناء مجتمع منفتح على المستقبل.
فطن اليوسفي منطق مذبحة كاريير سنترال وهدف بونيفاس وتهديدات المقيم العام الجنرال غيوم المتكررة للملك. اصطدم مع اليزيدي في موضوع نشر ريبورتاج حول المذبحة. خلع ونفي الملك إلى جزيرة كورسيكا. أمام هذا الحدث غير المقبول، نحج عبد الرحمان اليوسفي إلى تثبيت ثورة الملك والشعب. كان الهيجان الشعبي قويا بطنجة ضد الاعتداءات على رمز سيادة البلاد. أنهك عبد الرحمان نفسه جراء الدور الكبير الذي يقوم به ليل نهار في حركة المقاومة في إطار ثورة الملك والشعب. التهبت إحدى رئتيه وتدهورت حالته الصحية. توقف عن العمل وانتقل إلى مدريد. اجريت له عملية جراحية فعاش ما تبقى من حياته برئة واحدة. عاد الملك إلى عرشه وفندت مقالب المقيم العام، وأخذ الوطنيون يستعدون للمفاوضات من أجل الاستقلال.
إنه الاعتبار الذي جعل اليوسفي يأخذ مسافة مع حزب الاستقلال. اعتذر ولم يلتحق بالدار البيضاء بحجة أنه مضطر للبقاء مع الوالدة والإخوة والأخوات، الذين فارقهم لمدة طويلة. تم تنظيم إضرابات وتظاهرات تضامنا مع اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد من طرف مجموعة متطرفة فرنسية بتاريخ 5 دجنبر 1952. اعتقل أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال في كل مدن المغرب. استثنيت طنجة لطبيعتها الدولية.
تكلف عبد الرحمان والدكتور عبد اللطيف بنجلون والغالي العراقي ومحمد الحفصي وغيرهم بإعداد الترتيبات لإنجاح الاحتفالات بعيد العرش لإبراز المكانة التي يحتلها السلطان المحبوب لدى المغاربة. نفي الملك محمد الخامس وأسرته يوم 20 غشت 1953. تطور عمل المقاومة وعضت إسبانيا الطرف على رجال المقاومة وعلى عمليات جلبهم للأسلحة من خارج البلاد. فرنسا لم تتشاور مع اسبانيا عندما نفت الملك محمد الخامس. اعتبرت السلطات الاسبانية ذلك إهانة. تحول شمال المغرب إلى فضاء لتجميع العتاد والأسلحة وذخيرتها. تم تكوين شبكات متخصصة في تهريب المقاومين للإفلات من الاعتقال، وكذا تزويد باقي مناطق المغرب بالسلاح والعتاد. كانت مدينة تطوان تعج بالقيادات الشجاعة. كان يشرف على المقاومة هناك الزعيم سعيد بونعيلات وعباس المسعدي وعبد الله الصنهاجي، وحسن صفي الدين (الأعرج) والغالي العراقي والدكتور عبد الكريم الخطيب وغيرهم. كان التنسيق بين اليوسفي والمهدي بن عبود مع هؤلاء قويا وكان يمتد داخل المغرب وخارجه. تقرر بعد ذلك تأسيس المراكز الأولى لجيش التحرير بمدينة الناظور في بداية سنة 1955. تم بعد ذلك تحديد مكوناته، واشتدت المقاومة بتنسيق مع رجال المقاومة الجزائرية. تم تزويد المقاومة المغاربية بأسلحة متطورة من طرف جمال عبد الناصر. اختارت المقاومة باخرة دينا التي قبل قائدها طواعية القيام بهذه العملية النبيلة. شحنت وأبحرت الباخرة يوم 28 فبراير 1955، ولم تصل إلا بعد شهر نظرا لسوء أحوال الطقس اليومية. وصلت إلى ميناء راس الماء قرب مدينة الناظور. تكلف بالإشراف على إفراغها سعيد بونعيلات وحمدون إشراق بمساعدة 60 شخص من رجال قبائل الريف. تم تخزين حمولة 21 طن من السلاح في منزل حمدون الذي يبعد عن الشاطئ بحوالي 3 كيلومترات. استفاد جيش التحرير المغربي من ثلث الحمولة بينما استفاد جيش التحرير الجزائري من الثلثين. القائد ميلان أصبح له صيت كبير في الأوساط العربية. استقر بمصر. شارك في عمليات مواجهتها لإسرائيل. استشهد في إحدى العمليات القتالية. سافر ولي العهد الحسن الثاني إلى مصر وخصص لهذا القائد تكريما يليق بتضحياته وما تحمله من مخاطر من أجل دعم الشعب المغربي في معركة التحرير. ابنته هي زوجة الدبلوماسي المناضل الجزائري السيد الأخضر الإبراهيمي. الباخرة كانت في ملك السيدة دينا بنت عبد الحميد، وهي الأميرة المصرية التقدمية التي ستصبح فيما بعد زوجة العاهل الأردني الملك الحسين.اعتقل النيلي المواطن السوداني من داخل الباخرة عندما رست بمدينة مليلية. تم تفتيشها ولم يتم العثور على الأسلحة. تدخلت الأميرة المصرية “دينا” لدى الجنرال فرانكو، فتم إطلاق سراحه فورا.
وهو في جونيف بسويسرا لقضاء فترة نقاهة والخضوع لمراقبة طبية، كان اليوسفي دائما يوصي المناضلين بعدم إرهاق ولي العهد الحسن الثاني بمشاكلهم وخلافاتهم. عاد إلى المغرب في صيف 1956. ترأس اجتماع المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير الذي كان يترأسه عادة علال الفاسي، وعند غيابه كان يترأسه المرحوم الدكتور عبد اللطيف بنجلون. انعقد هذا المجلس بمنزل المحجوبي أحرضان الذي كان آنذاك عاملا على مدينة الرباط. بالرغم من كونه لم يساهم لا في المقاومة ولم يكن ضمن جيش التحرير، كان دوافعه لحضوره المجلس مرتبطة باعتباره قائدا على منطقة ولماس رفض التوقيع لتولي بن عرفة الحكم. عمل الدكتور عبد الكريم الخطيب دائما على إقحام اسمه ضمن اللقاءات والاجتماعات التي تعقدها المقاومة وعناصر جيش التحرير المغربي، وكان يصر دوما على أن تعقد بمنزل أحرضان بصفته عاملا على مدينة الرباط. نشاط محمد البصري الكثيف جعله يتربع رئاسة المجلس، ليتم بعد ذلك قرار تخليد ذكرى 20 غشت 1953.
التحق اليوسفي بالوليدية بالملك محمد الخامس الذي كان يقضي بها عطلته الصيفية. في ذلك اللقاء، تم ترسيم إحياء ذكرى ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت من كل سنة. في نفس الذكرى سنة 1956 وشح اليوسفي صدر الأميرة الصغيرة لالة مينة بوسام عبارة عن سلسة ذهبية يتوسطها مسدس صغير. اتفق على الاحتفال بهذه المناسبة في المشور وبالضبط بالمكان الذي استشهد فيه الشهيد علال بن عبد الله يوم 11 دجنبر 1953 عندما حاول اغتيال السلطان المزعوم محمد بن عرفة. نصبت المنصة التي جلس فيها لوحده عاهل البلاد، وتلا رئيس المجلس كلمة هامة بالمناسبة. في 20 غشت 1957 تم الاحتفال بالذكرى الثانية في نفس المكان. ورد في كلمة محمد البصري عبارة تحذيرية من إلحاح الحكومة الفرنسية على فرض اتفاقية الاستيطان التي تضمن استمرار الامتيازات الفرنسية. لقد اعتبر البصري ذلك بمثابة استعمار جديد.
إنه الاعتبار الذي استحضره محمد البصري مستفيدا من دسائس المستعمر في الماضي. لقد حاولت فرنسا تصفية جيش التحرير في الجنوب المغربي عندما اعتقل قائدين للمقاومة في السنوات الأولى من الاستقلال، ممثلين في شخصي عبد الرحمان اليوسفي ومحمد البصري نفسه. امتدت هذه الاعتقالات لتشمل العديد من قادة جيش التحرير ومناضلي الحزب. لقد أصاب المستعمر الهلع عندما اكتشف أن رجال المقاومة وجيش التحرير قد اكتسحوا مختلف مناطق الصحراء المغربية التي كانت تخضع للاحتلال الإسباني، بل وصلت هذه الوحدات آنذاك حتى مدينة “أطار” شمال موريتانيا. تم الاحتفاظ بالبصري في وضع اعتقال بدون محاكمة لمدة تزيد عن ستة أشهر إلى أن تم إنهاء وجود جيش التحرير بالجنوب. تدخل عبد الرحيم لدى ولي العهد الحسن الثاني ليتم إطلاق سراحه. أما اليوسفي فقد تم إطلاق سراحه بعد خمسة عشر يوما من الاعتقال اعتبارا لوضعه الصحي.
محطة هامة في تاريخ المغرب المستقل. زار رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم عبد الرحمان اليوسفي بعد إطلاق سراحه. أخبره، وهما معتقلان هو ومحمد البصري، أن الملك محمد الخامس سأله بمناسبة انعقاد مجلس وزاري بالقول .”حكومتك مولاي عبد الله مسؤولة أمام من؟” فأجابه عبد الله إبراهيم :”أمام جلالتكم”، فرد عليه الملك: “ولماذا يكتب أصدقاؤك غير ذلك”… فلم يرد عبد الله إبراهيم.
حدث هام تلى عملية اعتقال اليوسفي والبصري. حدثت أول قرصنة جوية في تاريخ الإرهاب الدولي وذلك يوم 22 أكتوبر 1956. أرغمت مقاتلات فرنسية الطائرة المغربية “أطلس للطيران” المقلة لزعماء الثورة الجزائرية الخمس وهم أحمد بن بلة والحسين أيت أحمد ومحمد خيضر ومحمد بوضياف ومصطفى الأشرف الناطق الرسمي باسم جبهة التحرير الجزائرية. كان القادة الخمس في طريقهم لحضور الندوة المغاربية في تونس في حضرة كل من الحبيب بورقيبة والملك محمد الخامس. لقد قضوا يومين في ضيافة الملك محمد الخامس (يومي 20 و 21 أكتوبر), كان اليوسفي مرافقا لهم. لقد عبر الملك عن دعمه التام للثورة الجزائرية حتى النصر، فطن اليوسفي خطورة الالتحاق مباشرة بتونس. نصحهم كون الرحلة الأسلم هي عبر مدريد ثم روما والابتعاد بذلك عن الأجواء المراقبة من طرف فرنسا. تدخل الملك محمد الخامس لإخلاء سبيلهم، لكن فرنسا كان لها رأي آخر. لقد قررت الاحتفاظ بهم. قطع المغرب وتونس وليبيا العلاقات الدبلوماسية مع الدولة المختطفة. انتدب اليوسفي من طرف الحكومة الجزائرية المؤقتة ومن طرف القيادة الحزبية بالمغرب ونصب محاميا عليهم. قضوا في السجون الفرنسية حوالي ستة سنوات.
حدث هام بدلالاته. أطلق سراحهم يوم 19 مارس 1962، أي بحوالي ثلاثة أشهر وبضع أيام عن استقلال الجزائر. قبل عملية إخلاء سبيلهم أخبر اليوسفي من طرف الخبير السويسري السيد “جونو” أن الجمهورية المصرية بصدد الإعداد لتنظيم عملية هروب القادة الخمس المعتقلين. طلب اليوسفي توقيف هذه المحاولة إلى أن يستشير المعنيين بها. طلبوا أسبوعا للتفكير قبل أن يبلغوا اليوسفي والأخوة المصريين بالعدول عن القيام بالعملية.
في السنوات الأولى من الاستقلال تريث اليوسفي في تحركاته وأنشطته. لم يكن راضيا عما يجري داخل الحزب. بعد سنة عن انضمام المغرب في أواخر 1957 إلى مجموعة دول عدم الانحياز، اجتمع اليوسفي ببعض رجال جبهة التحرير الوطنية الجزائرية. تم الحديث عن مؤتمر الأحزاب الثلاث ومستقبل أقطار المغرب العربي في مواجهة التحديات. تقوى التواصل بين عبد الرحمان وقادة حزب الدستور بتونس وجبهة التحرير الجزائرية. الرهانات المستقبلية، التي كانت مرتبطة أيضا بإحداث ما سمي في البداية بالسوق الأوربية المشتركة، والذي تحول إلى اتحاد أوروبي، كان حاضرة بقوة في النقاشات المغاربية. السلطة التقديرية لليوسفي جعلته يعطي اهتماما بالغا للثورة الجزائرية. ساير النقاش والجدل الذي صاحب تنصيب حكومة الحاج أحمد بلافريج. تابع بامتعاض استفحال الأزمة بين صفوف الاستقلاليين. التزم الصمت والحياد وكأنه قطع الصلة بحزب الاستقلال منذ 1956. تابع كذلك ما روجته صحافة الاتحاد المغربي للشغل وما كان يردده عبد الله إبراهيم. هذا الأخير لم يشارك في الحكومة الجديدة وتفرغ لمعارضتها. اشتدت الانتقادات وسقطت حكومة بلافريج قبل سنة من تعيينها بعدما قدم عبد الرحيم بوعبيد استقالته منها.
في سنة 1958 تشكلت حكومة عبد الله إبراهيم. امتنع عبد الرحمان اليوسفي أن يتولى فيها حقيبة وزارة العدل. سقوط حكومة بلافريج وتنصيب حكومة عبد الله إبراهيم كان لهما أثر جد سلبي على وحدة حزب الاستقلال. كهذا تم إعلان تأسيس حركة 25 يناير سنة 1959. إنه الحدث الذي جعل اليوسفي يعود بقوة إلى الحياة السياسية المغربية. قائد الحركة الجديدة البارز كان هو المهدي بن بركة. كان كل من البصري وعبد الرحمان لا يدخران أي جهد للتذكير بالحاجة إلى قيادة جماعية للحزب الجديد. أصدرا سويا في 2 أبريل 1959 جريدة التحرير، الأول سينصب مديرا لها والثاني رئيسا لتحريرها. استعانا بطاقتين فكريتين بارزتين وهما محمد باهي ومحمد عابد الجابري. أسست بعد ذلك الجامعات المستقلة المتحدة لحزب الاستقلال التي نعتت بالجناح اليساري في الحزب. في 6 شتنبر 1959 تم الإعلان رسميا عن تنظيم المؤتمر التأسيسي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الجديد. إنه الحل الذي واجه به اليساريون في حزب الاستقلال الدعوة القضائية التي رفعها ضدهم علال الفاسي والحاج أحمد بلافريج في شأن الأحقية من عدمها في تأسيس الجامعات المتحدة المستقلة داخل حزب الاستقلال. الأمر اللافت في هذا التأسيس كان يتجلى في رفع شعار “لا حزبية بعد اليوم”، وهو نفس الشعار الذي رفعه زعماء ثورة الضباط الأحرار في مصر وعلى رأسهم جمال عبد الناصر. حضر بن بركة احتفالات الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية الشعبية الصينية. تفاعلت الجريدة مع الحدث بنشر استجواب مع السفير الصيني. وجدت الجريدة نفسها في خضم الحرب الباردة ما بين الشرق والغرب. امتعض اليوسفي من هذه المبادرة الإعلامية التي قام بها عبد اللطيف جبرو. اعتبرها مبادرة غير مسؤولة.
توافد المناضلون على حركة 25 يناير. تم طرد بن بركة من حزب الاستقلال. أحس علال أن حزبه يضعف. قرر إحكام قبضته على حزبه بتكثيف وجوده إعلاميا وتنظيميا. تخلص من بلافريج في أول مؤتمر بعد ظهور الحركة الجديدة التي نعتها علال بالانفصالية. وضعية الحزب الجديدة ستجعل قيادته أكثر استعدادا للتقرب من الدولة. ساند الحزب وإعلامه القوى المعارضة لحكومة عبد الله إبراهيم. التحقت جريدة الحزب “العلم” بالحرب التي تشنها جريدة “ليفار” التي يترأسها أحمد رضا اكديرة على حكومة عبد الله إبراهيم. كانت الانتقادات تخص التوجهات الاقتصادية والمالية التي يشرف على بلورتها وتنفيذها عبد الرحيم بوعبيد ويدعمها الملك محمد الخامس طامحا من ورائها تحقيق أفق استقلال المغرب اقتصاديا عن فرنسا.
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فطنة اليوسفي ونباهته وصدقه وبساطته وتواضعه ورصيده المعرفي بوأه رئاسة جريدة “التحرير” بالدار البيضاء في عهد رجل الأمن المعروف محمد الغزاوي رئيس المديرية العامة للأمن الوطني الذي يراقب كل صغيرة وكبيرة. ساند اليوسفي عن طريق الجريدة حكومة “عبد الله إبراهيم” وبرنامجها السياسي. كان دائم الاتصال مع عبد الرحيم بوعبيد المشرف على البرامج الاقتصادية وكنائب لرئيس الحكومة. بقوته كوزير للداخلية، كان أوفقير يتضايق من الحكومة والخط التحريري الذي يقوده اليوسفي. تم تأسيس الدرهم المغربي كعملة وطنية، وبنك المغرب كمؤسسة لإصدارها، وبنك التجارة الخارجية، وبنك التنمية الاقتصادية، وصندوق الضمان الاجتماعي، وصندوق الإيداع والتدبير، وغير ذلك من المؤسسات التي تضمن للمغرب استقلاله المالي والاقتصادي.
في نهاية 1959 تم حضر صدور الجريدة وحجزها، وألقي القبض على مديرها محمد البصري ورئيس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي، وتوالى توجيه التهم للقياديين ومن معهم، منها القذف في السدة العالية بالله، ومحاولات اغتيال ولي العهد الأمير الحسن الثاني،والتآمر على سلامة الدولة ومؤسساتها الوطنية والإخلال بالأمن العام. كانت ردة الفعل قوية روجت لها أسبوعية “ليفار” التي لم يدخر مديرها أحمد رضا اكديرة أي جهد للوصول إلى اتخاذ قرار إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم بالسرعة المطلوبة. دام الصراع على أشده بعد إطلاق سراح اليوسفي والبصري وأقيلت الحكومة في شهر ماس 1960.
خرج اليوسفي من السجن في الاعتقال الأول في دجنبر 1960. أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم وتم تشكيل الحكومة الخامسة برئاسة الملك محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن نائبا له. في عمليات زياراته المعتادة للقادة الجزائريين في فرنسا، وهو عازم على العودة إلى المغرب عبر جنيف تفاديا لاستعمال المطارات الفرنسية، التقى صدفة في جنيف أحمد عصمان ومحمد عواد وطلبا منه أن يرافقهم لزيارة الملك محمد الخامس الموجود بنفس المدينة. اعتذر اليوسفي متجنبا إزعاج الملك في فترة راحته. في الغد حضرا مجددا إلى فندق إقامته مخبرين إياه أن جلالة الملك يلح على رؤيته. التقى اليوسفي مع العاهل المغربي على انفراد. تبادلا المعلومات الهامة الرائجة آنذاك خاصة تشبث الدولة التونسية بالاعتراف باستقلال موريتانيا. رأي اليوسفي كان مطلوبا في هذه النازلة. ذكر الزعيم جلالة الملك بالرسالة التي بعثتها المقاومة معبرة عن تشبثها بعودة الملك إلى عرشه وفي نفس الوقت بتحرير التراب المغربي المحتل بكامله. وهنا أبرز اليوسفي موقفه الحاث على ضرورة تقاسم الأدوار بين بناء الدولة المستقلة واستمرار المقاومة وجيش التحرير حتى التحرير النهائي مع التنسيق مع الثورة الجزائرية لإضعاف القوى الاستعمارية. إنه الاعتبار الذي تأجج بين محمد البصري والدكتور عبد الكريم الخطيب. فهذا الأخير أصر على تحويل المقاومة وجيش التحرير إلى “جيش التحرير الملكي”. أجاب عاهل البلاد .”لقد أخطأنا عندما أعطينا الاهتمام الأكبر لبناء الدولة قبل استكمال التحرير. لقد كان هذا آخر لقاء بين اليوسفي وملك البلاد لأنه بعد أربعة أشهر تقريبا سينتقل إلى عفو الله.
في يوليوز 1963 اعتقل اليوسفي مجددا بتهمة تسليح السكان وخلق منظمات سرية (منظمة شيخ العرب) خارج العمل السياسي. حكم عليه بسنتين مؤجلة التنفيذ بسبب التستر وعدم التبليغ.
تم تغيير اسم الجريدة من “التحرير” إلى “الرأي العام”. التحق المسؤولان عن هذه الأخيرة، أحمد بن سودة ورفيقه عبد الهادي بوطالب، إلى صفوف الاتحاد. غادر بن بركة المغرب في يوم 21 يناير 1960. غادر البصري السجن بعفو من الملك محمد الخامس في يونيو 1960. بقي اليوسفي خارج الوطن إلى أن أطلق سراح رفاقه المقاومين. غياب عبد الرحمان وبن بركة والبصري في السحن سبب في حدوث فراغ سياسي في البلاد. لولا عبد الهادي بوطالب الذي اتخذ مبادرة سد الفراغ الإعلامي لوئدت حكومة عبد الله إبراهيم مبكرا. حال دون إقالتها زلزال أكادير المدمر. اشتدت الانتقادات وتقوى التحالف بين علال الفاسي وأحمد رضا اكديرة إلى أن اتخذ الملك محمد الخامس قرار حل الحكومة. أصبح الملك رئيسا لحكومة جديدة ويساعده ولي العهد في تدبير شؤونها. غادرها الاتحاديون وحل محلهم الاستقلاليون. غادر عبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد المغرب للاستراحة. نظم عبد الرحمان اليوسفي اجتماعا حزبيا تحدث فيه عبد الهادي بوطالب بلهجة معارضة مفصلا مطالب القوات الشعبية قائلا “نحن لا نريد دستورا ممنوحا لأن الدستور ما هو إلا حق طبيعي لكل الشعوب”. غادر بوطالب وبن سودة سفينة الاتحاد وخزن اليوسفي لهذا الطلاق غير المفهوم. عبد الهادي بوطالب هو من اعتبر إقالة حكومة عبد الله إبراهيم مرتبطة برفضه الموافقة على أن يقوم ضابط أمريكي بدور مستشار فني في القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية.
بعد كل هذه المنعرجات المفرملة للنماء، حل العهد الجديد بعزيمة البناء باعثا للشعب المغربي منذ تولي جلالة الملك محمد السادس الحكم رسائل متواصلة عن إرادة العرش في جعل الدولة المغربية في خدمة الشعب بالشعب في إطار تقوية التحام هذا الأخير بالعرش. لقد كانت رمزية دفن جثمان عبد الرحمان اليوسفي إلى جانب قبر رفيقه المرحوم عبد الله إبراهيم حدثا مدويا أثار اهتمام الفاعلين وطنيا وعربيا ودوليا. النداء الواضح المدوي في فضاء الوطن ليس إلا دعوة للنخب للتحلي بالمسؤولية التامة لتمكين المغرب من وضع يقضي على آفة الصراع العنيف للسلط التقديرية والحد من الاختلالات التواصلية في المشهد السياسي المغربي. لقد تعسف منطق جيوب المقاومة على مصير بلاد بكاملها، وعرقل عمل الحكومتين الإصلاحيتين، حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1960 وحكومة عبد الرحمان اليوسفي سنة 1998-2002. التكتلات الحزبية المناوئة المتحالفة مع طاقات إعلامية كانتا سلاح عرقلة الاستمرارية في تحقيق التراكمات وترسيخ المكتسبات. الكل يتذكر الأسباب التي كانت وراء رفض عبد الرحمان منصب وزير العدل في حكومة عبد الله إبراهيم. الحاج امحمد باحنيني تولى المنصب ونال رضا الصف الديمقراطي في قضية المقاومين. تم إطلاق سراحهم، وعاد عبد الرحمان إلى أرض الوطن في يونيو 1960 قادما من سويسرا التي قضى بها فترة نقاهة. في شهر ماي 1960. طلب من المغفور له الملك محمد الخامس وولي العهد الحسن الثاني آنذاك البقاء بعيدا عن السلطة التنفيذية، لكن في ماي 1963 تم تنصيب حكومة جديدة برئاسة الملك وولي عهده. طلب من عبد الرحيم بوعبيد المشاركة فيها والاستمرار في تنفيذ أوراش الحكومة السابقة، لكنه اعتذر معلنا بالمناسبة للرأي العام أن بعض السياسيين يحلمون بتثبيت نظام غير ديمقراطي. وأضاف، الشعوب لا يمكن لها أن تتعلم الديمقراطية إلا بترسيخ قيمها فيما بينهم بالممارسة والتمثيلية الحقيقية.
ونحن في بداية العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، تراكمت أمامنا بشكل واضح معالم الدولة القوية التي يجب أن تعتمد على أكفأ أبنائها في كل مناصب المسؤولية. الثقة السياسية في المستقبل ارتقت إلى أعلى مستوياتها في تاريخ المغرب المستقل. عدونا اليوم واحد لا ثاني أو ثالث له. إنه العدو المجسد في الفساد والزبونية الذي يجب أن يقتلعا من جذورهما في مختلف الدواليب المؤسساتية. إنها عدوا الثقة ووائدا العزائم والإرادات وحب الأوطان. لقد أكدت التجارب أن القيادة الحكيمة والمتبصرة للشأن العام لا يمكن تحقيقها إلا بزعامات سياسية وإدارية نزيهة وشفافة وكفأة. إنه العبرة من العودة للتاريخ لنستشف الدلالة والعبرة في مواجهة معضلات وتحديات الحاضر والمستقبل. فإذا تمنى الملك الراحل عشرة من شباب الإتحاد للعمل معه في الستينات بعدما تابع تحليلاتهم وتدخلاتهم ،الراقية فإن مغرب اليوم يعج بالكفاءات السياسية في مختلف المستويات الترابية. لا نقص لدينا في الموارد البشرية بل ما ينقصنا هو ضعف الميول لاستعمال الآليات الناجعة في الانتقاء الإداري والسياسي.