بعدما أَوْشَكت على الانتهاء من تصفيف نص كتابي الذي خصصته للقائد السياسي “عبد الرحمان اليوسفي” تحت عنوان “اليوسفي، زعيم بحجم وطن”، خصصت الوقت الكافي لقراءة مذكراته كما حكاها للسيد امبارك بودرقة، متأملا في حديثه الرصين جملة جملة، باحثا عن الشذرات ذات المعاني والدروس والعبر التي تميز تطور العمل السياسي بالمغرب على المستوى الفكر والممارسة. لذا عزيزي القارئ قبل أن أضع بين يديك كتابي هذا، فضلت أن أعرض عليك مقالات ملخصة بدلالات ميزت الماضي القريب للسياسة في بلادنا، دلالات تسطع بنور براق تحمل في طبيعتها آمال تلميع الخصوصية الثقافية والسياسية والاقتصادية لبلادنا في الحاضر والمستقبل.
الزعيم عبد الرحمان اليوسفي لا ينسى. لقد بصم بشكل لافت تاريخ المغرب المستقل. إنه رجل قوي الحضور في الفترات العصيبة التي مر منها الوطن المغربي. حكمته وخبرته ساعدت على إخراج البلاد من المنعرجات الخطيرة. اعتناق استراتيجية النضال الديمقراطي سنة 1975 كانت مصدر تحول حاسم في اتجاه تثبيت عقيدة بناء المؤسسات الوطنية. أدواره الريادية مكنت اليوم المغاربة من التوفر على دولة مؤسساتية لا يكل ولا يمل فاعلوها الصادقون في السعي المتواصل لتطوير هويتها وإبراز خصوصيتها وإمكانياتها الكامنة. كتابه “عبد الرحمان اليوسفي: أحاديث فيما جرى، شذرات من سيرتي كما رويتها لبودرقة” (دار النشر المغربية، الطبعة الأولى في فبراير 2018، عين السبع الدار البيضاء) يعد اليوم من المراجع السياسية المغربية الزاخرة بالأحداث ذات المعاني الوازنة في حياة الشعب المغربي والحياة الحزبية. كتاب بنصوص مكثفة يهم في نفس الوقت الماضي والحاضر والمستقبل.
ولد اليوسفي يوم 8 مارس سنة 1924 (يوم الاحتفال بعيد المرأة كونيا)، بحي الدرادب، الكائن بضواحي طنجة القديمة. أبوه كان مستخدما. استقر في البداية بجبل طارق كمهاجر. عمل بإحدى القنصليات الأجنبية هناك. عاد إلى طنجة. اشتغل في البداية في شركة بنكية جزائرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى شركات أخرى. اشتهر بإتقانه اللغات وإلمامه بالشريعة الإسلامية. أصبح وكيلا معترفا به لدى السلطات المحلية. دافع على من يلجؤون إليه أمام القضاء. عين بعد ذلك مقدما مكلفا بفض النزاعات بين الناس. في كل يوم، كان يرفع تقارير يومية إلى المندوب العام، الذي كان يعتبر آنذاك بمثابة خليفة السلطان بمدينة طنجة. تأهل بعمله إداريا وماديا وأصبح ضمن البورجوازية الصغيرة لمدينة طنجة. أمه الحاجة فاطمة الفحصي من المنطقة ذاتها التي ينحدر منها أبوه. لأبيه زوجتين. اكتسب عبد الرحمان ما يكفي من المعطيات عن ظاهرة تعدد الزوجات وما تلحقه من ضرر وإهانة للمرأة، فأصبح من أكبر المدافعين عن المساواة بين الجنسين (إدماج المرأة في التنمية).عاش برئة واحدة منذ أن استأصل الأولى سنة 1955 بمدريد. في نهاية الثمانينات، انتصر على المرض الخبيث بعدما استأصل 25 سنتيما من القولون. آثار ومخلفات السجون جعلت داء السكري يتسلل إلى ذاته مبكرا، فتعايش معه إلى النهاية. ابتلي اليوسفي البلاء الحسن بهوس الصحافة والإعلام منذ صباه. استفاد من غمر منزل الأسرة بالصحف التي كان يحضرها معه أخوه مصطفى. بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، تعرض لأول إهانة في حياته بعدما خفق في قراءة مقال صحفي لأبيه تحت عنوان “قام الجنرال فرانكو”.
استقبل الملك الحسن الثاني أمه في نهاية السبعينات من القرن الماضي. تناولت معه الشاي. قبل انصرافها سألها إن كانت في حاجة لأي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية “بغيت ولديدي” (أريد ولدي). فأجابها الملك الراحل، رحمه الله، يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء والوطن سيرحب به. ظلت أمه متشبثة بالحياة، إلى أن عاد اليوسفي سنة 1980 بعد غياب دام 15 سنة، لتنتقل إلى عفو الله سنة 1981. إنها الأم التي عاشت أحزان اختطاف ابنها عبد السلام من طرف السلطات الإسبانية. السبب في اعتقاله القسري لم يكن سوى النقاشات التي كان يثيرها أعضاء فرقته الموسيقية المختصة في الطرب الأندلسي. كانت لعبد السلام نظرة ثاقبة. عكس الهواجس العاطفية لأصدقائه الذين كانوا يتوقعون انتصار ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا في الحرب العالمية الثانية، كان رأي عبد السلام وتخمينه معاكسا. كان يكرر دائما على مسامع محاوريه أن الانتصار سيكون لصالح التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا. تحملت هذه المرأة كذلك صعقة وفاة ابنها مصطفى في رعيان شبابه بسبب مادة الرصاص التي تسببت في تسلط داء السل على حياته.
ترعرع اليوسفي في مدينة ذات طابع دولي. تعايش فيها مختلف الأجناس بثقافاتهم المختلفة. تأقلم الطنجاويون بسرعة مع هذا الوضع الجديد وأصبحوا يتفاهمون مع كل الأجانب باختلاف لغاتهم. تحولت المدينة إلى فضاء اقتصادي تتداول فيه مختلف العملات النقدية الدولية الرائدة عالميا كالبسيطة الإسبانية، والفرنك الفرنسي، والجنيه الاسترليني والدولار الأمريكي. كان الناس يتعاملون بها لاقتناء مشترياتهم دون الحاجة إلى تحويلها إلى عملة مغربية التي تم إلغاؤها بصفة نهائية سنة 1938. تحولت طنجة إلى فضاء دويلات بمؤسساتها الإدارية والقضائية والاقتصادية. أما تقاضي المغاربة، فكان خاضعا لمسؤولية المندوب الممثل الدائم للملك وخلفائه، بالإضافة إلى الباشا والقاضي والمقدم. ارتقت الحياة في مدينة طنجة إلى مستويات عليا من التسامح والتعاون وتعدد الجنسيات واللغات. كانت كل الفسيفساء المختلفة والمتعددة الجنسيات تتعايش في جو من التضمان والتفاهم فيما بينها. أمر واحد كان يعكر من حين لآخر الجو التعايشي للمقيمين بأرض الوطن هو الحرب بين مؤيدي فرانكو الوطنيين ومعارضيه الجمهوريين. إنها الأجواء التي اكتشف فيها عبد الرحمان لأول مرة النشيد الأممي للطبقة العاملة.